نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: كسر البيضة

بقطعة فحم، خطت على الأرض تربيعات ثلاث أفقية متتالية، ثم مربعين عموديين ملتصقين، رمت شقفة من فخار في المربع الأول، وبدأت تنط برجل واحدة، كانت بين حين وآخر تتلفت يمنة ويسرة، كأنها تترقب وصول صديقاتها ليشاركنها اللعبة.. تتوقف قليلا، ترفع وجهها الى السماء، وكأنها تستعذب نسائم مابعد العصر منعشة تجتاز الدرب، حيث الربيع شرع يودع القرية بعد سنة من جفاف..

بعيدا عنها وعند مدخل الدرب، وقف شاب في عقده الثاني يتابعها وهي تقفز فوق التربيعات كفراشة جذلى يغمرها السنا، وكلما ارتفعت تنورتها ظهرت ركبتاها القمحيتين وفخداها البضتين. لم تكن تحفل بذلك، فقد كانت رحابة طفولة في لفيف براءة..

هي طفلة في الثالثة عشرة من عمرها، لم تكن أجمل بنات القرية لكنها كانت دقيقة التقاطيع، متناسقة القد، في عينيها الواسعتين حوَر، يضيف الى لونها القمحي وشعرها الرطب المسدول على كتفيها ملاحة جذابة ؛ كان وجود الشاب مألوفا لديها، فهو من اقربائها، لهذا لم يثر في نفسها أي خوف أورهبة لتحتاط من وجوده ومن متابعتها وهي تمارس لعبتها اليومية، كما أنه ابن الحي، الذي تعود ان يغيب شهورا كطالب في بلاد المهجر، ثم يظهر في عطلة صيفية او عيد ديني..

كانت بين قفزة وأخرى تسارق اليه النظر، على وجهها تتربع بسمة رضا وثقة، فقد كانت تمنى النفس أن يجود عليها بقطعة شوكولاطة مما تعود ان يوزعه على صغار الحي كلما حل بالقرية..

تسمع نداء أمها آتيا من داخل البيت، تترك شقفة الفخار على التربيعة، ثم تلج باب البيت لتعود وفي يدها قطعة نقدية، تركض قاصدة دكان الحي.. تتوقفت حيث يقف الشاب العشريني، يتبسم في وجهها، يسألها عن وجهتها، ثم يهمس لها بكلمات، تنتظر بباب بيته قليلا قبل أن تسمع نداءه فتلحق به..

يخرج الشاب بعد برهة كهارب بعد سرقة موصوفة وفي يده حقيبة سفر..

ظلت الصغيرة قلب البيت لا تدري ما حل بها، فهي لا تذكر الا صوت الشاب وهو يناديها: سناء ادخلي !!!..

ناولها كاسا به عصير، ثم لم تعد تذكر شيئا..

حين صحت وجدت تبانها بين ركبتيها، ومادة لزجة كقطرات الشمع على فخديها..اصفر وجهها، بلغ قلبها حلقها، ارتعدت من خوف يغتالها، هي لا تستطيع أن تتمثل ما وقع، لكن وجود تبانها في غير مكانه قد حولها الى فأر مذعور لايدري له وجهة، أحست بالم تحت بطنها وفوق عانتها، تحسست المكان فوجدت اثر دم، بكت وهي تلطم وجهها بيديها الصغيرتين وكأنها قد أدركت ما وقع:كيف تواجه أمها وأباها ؟، كيف تواجه أخوتها الكبار ؟ كيف ترفع راسها بين صديقاتها في الحي والمدرسة ؟.. وحدها قطعة النقود النحاسية ظلت حبيسة كفها، لكن كل ماعداها قد ضاع، حلم عفتها وشرفها اعلن انتحاره في لحظة ثقة، لحظة طمع منها في قطعة شوكولاطة.. أعادت تبانها بيدين مرتعشتين، من بين دموعها تلمست القطعة النقدية مبللة عرقا قلب كفها، كما تبلل تبانها بما لا تعرف ماهو، وكما تبلل عمرها خزيا وعارا، خرجت تجر قدميها الصغيرتين تقصد الدكان، تستعيد كلمات أمها استعادتها لفرحتها المغتالة: "نصف كيلو سنيدة وصابونة صغيرة " تسلمت ماطلبت من صاحب الدكان:"عيونه تمسحني !! ياويلي لوعرف !! " عادت الى البيت، وضعت السكر والصابونة في غرفة أمها، ثم هرولت الى مرحاض البيت؛ شرعت تغسل فخديها، وتمسح ما علق بتبانها، أثارها لون الماء الممزوج بصفرة وأثر من حمرة باهتة ..

ركبها صراع نفسي حاد؛ هل تتكلم ؟، هل تصمت ؟ في كلامها فضيحة مدوية قد تتجاوز القرية، وفي صمتها نهاية عمرها، آمالها واحلامها.. تعاود غسل وجهها، تصب قليلا من الماء على قفاها، تحاول ان تهدأ، أن تبترد، أن تخفي كل مابها، أن تتغلب على صراعها النفسي الى أن يمر اليوم بسلام قبل أن تقرر ما تفعل.. تذكرت حديث النساء صباح كل زفاف مر في القرية عن" صباح البنت"، عن السروال، عن الاحتفال بالدم الذي رشمه، عن إحساس أهل البنت بالفخر والشرف..

تلطم وجهها: ماذا بقي لها وقد فقدت أعز ما تملكه بنت ؟

تركنت في زاوية من غرفة الضيوف كما تفعل كلما ارادت ان تخلو لدروسها، فهو الحل لتواري خوفها عن وجه أمها وكل من يدب في البيت، رغم الذعر الذي يعوي في باطنها والشحوب الذي يركبها.. حلقها الذي صار جافا كحزمة شوك، عسير ان يبتلع ريقها..

تذكرت احدى صديقاتها حين اختلى بها أحد رعاة القرية وفض بكارتها، كيف هاجت البيوت وماجت، كيف صار اللغط حديث الصغار والكبار حول الحرب التي اشتعلت بين العائلتين الى أن انتهى الامر بانتحار الصديقة، وتدخل الدرك بقوة ردع والقاء القبض على بعض من استغلوا الوضع بالوشايات والنميمة ..

بلاعشاء نامت.. كم هذت خلال نومها المتقطع:

ـ أكره أن اصير كصديقتي، مضغة على كل لسان، عارا على ابي المريض، خزيا لإخوتي، لن يتفتت لي صخر، فأصير وبالا على كل أهلي، لن استسلم لانهياري، سأحاول أن أنساه، المصيبة ستعتقل حريتي، لكن اعتقال حرية أهون من فضيحة مدوية قد تنتهي بانتحاري أو بقتلي من قبل أحد اخوتي الكبار..

لا..لن أنتحر، ولن أتكلم.. سيكون الصمت ظلي، ينتصب بيني وبين غيري..

من ليلتها فقدت الطفلة بشاشتها ومرحها، بعد أن انهار كيانها النفسي، كما انهار لسانها عن الكلام، تغيرت حالها، تغريداتها الطليقة صارت تمتمات كلام، وبريق عينيها المضيء صار انكسارا، يستغرقها تفكيرشغلها عن دراستها، فحول اجتهادها الى خمول تبدى لكل العيون ؛كثيرا ما سألتها أمها عن سبب هذا التغير المفاجئ، فيأتي الرد بعيون مكسورة وكلمات قليلات:

ـ تعب وعياء..أحس بانهيار جسدي كأني لا أتناول أكلا..

ثم جاء الفرج عن طريق طبيب أعلن بعد فحصها: بداية التهاب كبدي هو ما حول نظارة الوجه الى شحوب وعياء بدني..

بدأت تقاوم حالتها، مقاومتها لتراخيها في مراجعة الدروس وإنجاز الواجبات، صار تقدمها الطفيف تقادما لحالتها، وفتورا في المراقبة من قبل أهلها الذين سلموا بقولة الطبيب وأضافوا للأدوية التي نصح بها، عقاقير شعبية أخرى، لم تستطع إعادة اشراقة وجهها، اما اعماقها فهي كتلة دموية وحدها تدري ما بها..يغسلها النسيان لحظات ثم لا تلبث المصيبة أن تكفنها من جديد؛كم مرة حاولت أن تبوح لاحدى صديقاتها وتفجر اللغم عساها ترتاح من كوابيس لياليها الطويلة.. لكنها سرعان ما تتراجع. فماعاد اليوم انسان يكتم سرا. ان تعتقل مصيبتها في اعماقها خير من ان تصير أنثى متهمة بثرثرات القوالين..

أحيانا تحس بنسمة راحة تنزل عليها كرحمة سماوية، تتنهد وقد تبكي، ثم لا تلبث أن تغسل وجهها بماء بارد ولسانها يهمس:

ـ لك الحمد ربي أني لم أحمل والا كنت في القبر قبل الأوان..

ربع قرن وهي تحمل سرها، تتقادفها السنوات بين نهار وليل، وليل و نهار، تقضي الشهور والاعوام بالأماني الكواذب الى أن نالت شواهدها ثم اشتغلت..

دفنت عمرها في مهنتها، تناست متع الحياة، مات في صدرها الأمل موت جسدها الذي تخشب، وصار يتلقى بلا ردة فعل، لهاة مكتوم ينبعث كلما لفها ظلام، أنثى تجر جثتها خلفها في صمت، لا ينعكس أحيانا الا بكلمات تخالها من رجل خشن بلا خبرة، وبمفردات ماتت لها أحلام، تحسها وهي تتكلم وَهْنا من راس بلا جسد، تدحرجت من قمة الى أسفل وانسابت في انحدار، تغسلها دموع لا تفتر، حتى في عملها فهي تقاوم واقعا وحده يعيش مدفونا في صمتها ؛ ترى الغير من حولها كشخصيات درامية تؤدي دورا مسرحيا في حياة لا تنصف أحدا.. حتى رحماتها السماوية تناستها، ما عادت تثيرها بأمل، ما الفائدة و قطرة الدم دليل عفتها قد جفت الى الأبد..

كلما أتاها خاطب تبرمت وتعللت وأخرجت فيه مساوئ.. مدعية أن صديقاتها قد تعرفن عليه فحذرنها منه..

لحظة الجرم وحدها تعيش واضحة في ذهنها، لا تفارقها، تستعيدها بكل تفاصيلها من لحظة شرب العصير الى ان وجدت تبانها بين ركبتيها بقطرات كالشمع السائل.. كلما جحظت عيناها تمثلت كل رجل كقريبها الذئب الذي لم يحترم قرابته ولا طفولتها، والذي رغم تعلمه وارتداء بذلة من خارج حضارته ظل حقيرا متخلفا لا يعي ما تساويه حياة طفلة يغتصبها وهي لا تشاركه رغبة ولا إحساسا أو فهما لما مارسه عليها، ذنبها أنها وثقت في قناعه المزيف.. سيظل شرفها كما عفتها وبراءتها بل ستظل كل حياتها تصرخ عاليا في وجه كل مغتصب براءة أيا كانت الطريقة التي سلكها لينقض على فريسة بريئة..

المجرم الآتم البغيض ماعاد له في القرية ظهور، لكن بين أبناء القرية قد بقي له اثر بافتخار: شاب من العدم استطاع ان يحوز شهادة علمية، يحصل على وظيفة في بلاد الغربة ويتزوج نصرانية.. لا احد يعرف أنه مجرم، يجر وراءه جثة قلب جسده المدنس، وضميره الميت عبر ثنائية حياة تعلن الدين وبه لا تؤمن، نهش طفلة بريئة، وضع حبلا ابديا لمشنقة طاعنة ابدا لن يغيب لها اثر..

تدرك أن الزمان شرع يطويها ببطء، سلحفاة يدب،، وكأنه يعاند ما بلغته من عمر..كل رجل هو لديها لسعة عقرب، عضة ثعبان، مراوغة ثعلب، ومتابعة ذئب، قد تبادله النظرات اذا ما رفعت البصر، لكن نظرتها نظرة خوف وحذر، رهبة، انعدام ثقة وسوء ظن..

الرجل عذابها بالليل والنهار، يتكوم في عينيها كمزبلة جديرة بإضرام النار فيها، فهو سبب عذابها، هو من جعلها محط تساؤل وشفقة تكرهها من كل من يحيط بها..

لماذا لم تتزوج ؟..سؤال يملأ الأفواه وتنثره العقول بتخمين وتأويل !! ربما مسحورة من قبل الجن، تملكها أحدهم فمنع الرجال عنها وقد فروا بعد يأسهم من قبولها.. عيب خلقي يشوه ما تفخر به كل أنثى.. خنثى تتستر عن حالها..حتى افراد أسرتها صارت تنطلي عليهم دعاية السحر و الجن ففوضوا أمرهم الى الله، فقدر بنتهم أن تعيش عانسا مملوكة لجن ..

في عملها تجاهد ألا تثير حديث الرجال، بل هي تتجاهل كل الرجال في موقع عملها، لا تحاول أن تعرف لهم اسما، أو ترد عليهم سلاما اذا مرت بأحدهم، وتنسحب أو تصمت إذا ما إحدى النساء تكلمت عن رجل ولو كان أباها، تحس بالقرف والاحتقار، وبالخوف من ان يجرها لفلتة لسان تكشف سرها، حقدها الدفين، جثمان عمرها المركون داخل جسدها، كأن الصمت هو حقيقتها التي تواجه بها كل المواقف التي قد تجعلها تكشف ولو جزيئة من دواخلها..

تذكر وهي لازالت طالبة جامعية أن إحدى البنات همست لها بأن أستاذ مادة الكيمياء الحيوية معجب بها ويتطلع اليها بشوق..صمتت بلا رد، وقد تأكدت من ذلك من محيط اسرتها..كانت تدرك أنه مجرد جبان أو ثعلب كاي رجل آخر.. يطلق الدعايات دسيسة اغراء ليتصيد المغرورات..

ذات شتاء، وهي خارجة من عملها، لاحقها برق ورعد، ومطر يتهدل على كتفيها، اقترب منها أحد المارة محاولا أن يجعلها معه تحت مظلة، اتقاء من الجو الماطر، دفعته بمرفقها دفعة اسقطته على الأرض، ساعده بعض المارة على الوقوف، انتصب وهو محنط بوحول الشارع الذي شرعت السيول تجرف كل ما صادفته في طريقها من قوة التساقطات..

انزوت في ركن تحت سقيفة متجر وشرعت تبكي..لماذا تصرفت بعدوانية مع رجل لا يعرفها ولا تعرفه، ذنبه أنه حاول ان يساعدها على عبور الشارع الى الطوار الآخر بقليل من البلل، هي حقا قد اغتصب آخرون طفولتها، منعوها ان تحمل لقب بهجة الطفولة سعيدة كما حمله غيرها..لكن ما ذنب الغير فيما وقع لها ؟ ليس هم من اسقطوا طفولتها من مرايا الحياة، ليس هم من منعوها الطيران فراشة بين الزهور..لا..إنهم عود من نفس الغصن، نفس تربية الاستعلاء، التفضيل ونفخ عقدة الذكورة..

حلم قد غاب عنها منذ الحادثة وعاد اليوم يلازمها من جديد، يضاعف من آلامها وعذابها، حلم ترى فيه نفسها وهي تحرق العضو التناسلي لكل دمية.. كان الحلم في صغرها يقتصر على أنها ترمي الدمية بعد الحرق أما في الليالي الأخيرة فصارت ترى أنها تغرز فيها سفودا يخرج من عينيها قبل أن ترمي الدمية في البحر..

تمتنع أن تحضر كل عقيقة المولود فيها ذكر، هو عندها مغتصب جديد آت ليخلف من مات..حين تزوج اخوها اختلقت نزلة برد قد حلت بها وظلت حبيسة الفراش حتى لا تحضر ليلة زفافه، فلم تكن العروس غير أخت استاذها الذي أطلق دعاية الاهتمام بها.. كان ما يملأ فكرها:كم من طفلة قد اغتصب أخوها قبل ليلته هذه ؟، وهي اليوم مثلها لا تملك وجها تسير به بين الناس.. هل حقا ان زوجة أخيها عذراء، أم ان أخاها سيكون الرجل المخدوع من قبل انثى عرفت كيف تتغلب على نفسها وتقاليدها وبطش أهلها وحرصهم على العادات والطقوس؟ في حين فشلت هي في ما أفلح فيه غيرها.. بئس تربية لا تعلمنا غير الخوف والخضوع وتقديس التقاليد.. ترسخ في عقولنا الشك حتى في اقرب الناس الينا..

صحت في الصباح على زغردات النساء و نغمات الطبالين والغياطين، تتقدمهم نكافة تضع على راسها صينية، يتوسطها سروال زوجة أخيها، دليل براءتها من اغتصاب قبلي بقطرة دم؛ ربما لم تكن زوجة أخيها مصابة بنهام الطفولة لكل ماهو حلو لذيذ، أو لم تجد من يترصد لها فيغتصبها بلا رحمة..ومن يدري ربما كان لزوجة أخيها من الذكاء او الخبرة ما وجهها كيف ترتق مشكلها..

بكت، واهتز صدرها أسى وغبنا حتى كادت أن تفقد وعيها..

هكذا تطويها الأيام بوسواس خناس وبلا ثقة في نفسها ولا في غيرها، عود الربيع فيها قد ذوى ويسارع للجفاف والتفتت..

أحيانا كانت تسائل نفسها:هل كل بنت فقدت بكارتها تنزوي كانزوائها ؟ فتئد نفسها بنفسها ام فقط هي تقاليد قبيلتها التي صار الرجل القاتل هو نفسه الذي يطلب شهادة البراءة من طبيب محلف لا قابلة تكتفي بتجربة كسر البيضة لتحدد الماضي الجنسي للفتاة، ومن يطلب من الرجل شهادة العفة والخلو من أمراض ربما يكون قد التقطها من غيرها ؟ أي حكم هذا الذي يقتل بنتا بخطأ رجل ويشوه سمعتها بفضيحة من قبل رجل ؟ !!..وهو نفس الرجل الذي يطالب بصك عفتها حتى يرضي غروره وعنها يكون راضيا ؟؟ !!..

بدات تدخل المنتديات العربية بعد أن سمعت حديث استاذات عن فوائدها كقتل الفراغ عند غياب الأزواج، أو للتسلية والتعارف مع نساء أخريات من أوطان أخرى، أو التثاقف واقتناص فوائد تهم حياة المرأة..شرعت تقرأ ما ينشر .. لم تكن مقتنعة بما يكتبه الأعضاء خصوصا من رجال يستعطون الحب بعبارات تافهة، يبالغون كذبا في إعلاء المرأة.. ذئاب.. لو ظفروا بها وحيدة أو طفلة صغيرة لمزقوا جسدها.. اقترح عليها أحد الأعضاء المساهمة في نشاط ثقافي.. توجست من اقتراحه، ربما هو استدراج لها، لكن أسلوبه وطريقة تعامله تدل على أنه كبير السن يتصرف برزانة، وكل من في المنتدى يمتدح تعامله مع الجميع.. فكرت طويلا قبل ان تستجيب محاولة للتخفيف من ثقل حمولاتها بنسيان وقتي..

لاحظت أنه يحاول التقرب منها.. بدات تحتاط، هي لا تصادق رجلا، ولا تريد ان يتعرف عليها رجل، لكن ما يكتبه هذا العضو يثيرها، يحسسها بصدقه، حين راسلها كان ردها التواء هو تناقض ما في نفسها.قالت: لا تحاول معي، فرغم سنك الكبير على ما أظن فانا أكبر منك بكثير ولا أملك شيئا اقدمه لك مما تبحث عنه، أرجو أن تحترم نفسك..

كم كان يؤلمها وضعها، أنثى لا تثق برجل لكن هذا العضو يحسسها دوما بقربه، يقرأ كل ما تكتبه اليه بمنطق العقل والموضوعية، انجذابه اليها ليس بكلمات غزل وانما بالتعمق فيما تتبادله معه من كلمات واقتراحات لتنشيط ما تقدمه الى أن فاجأها ذات يوم: حسناء هل سبق ان تحرش بك احد الى درجة الاغتصاب؟ من يكون؟ وفي اية مرحلة من عمرك؟

الخبيث، كيف استطاع أن يقرأها ثم يفجراللغم في صدرها، ان يستعيد لحظة صباها الموءودة.. ربما سنه وثقافته الواسعة قد جعلته يكتشفها.. بكت..ليلة بكاملها وهي تبكي.. كيف ترد؟ ماذا تقول له؟ ربما خير لها أن تنسحب من المنتدى او على الأقل من النشاط..لكن الى متى؟ وكانها بدأت تضيق بحالها، بثقل سرها.. لماذا لا تجرب وتبوح له بسرها وتنتظر ردة الفعل.. هو عضو ليس من قبيلتها، و لا من وطنها قد تخشى أن يفجر سرها بين الناس، لا تخاله لئيما فيتكلم بين أعضاء المنتدى، ولن يكلفها ذلك غير انسحاب.. ووجدت نفسها تصارحه، تحكي قصتها، ترمي كل همها بين الحروف في صدره.. تدرك أنه اول شخص استطاع أن يجعلها ترتدي جلباب جرأة ورغبة في أن تحكي له ما يؤرقها منذ أكثر من ربع قرن..

ادخلته في نطاق واقعتها، يشاركها لحظة الوأد.. قالت له: حقير، جبان لم يرحم صباي، خجلي، ثقتي رغبتي في قطعة شوكولاطة.. سلمني شهادة وأد أبدي ورحل..رحل بلاعودة..

توهمت أن هذا العضو كاي رجل تسلم منها الخبر، عرف سرها و لن يلبث أن يتجاهلها في المنتدى، أن يحتقرها، ثم عنها يبتعد..

وخانها سوء الظن، خانتها النفس وما توهمت، خانها العقل وما خطط..وجاءها رده:

سيدتي العزيزة

كل كلمة منك هي قوة تسكنك لكن تجاهدين على إخفائها، اغتصبك رجل. افقدك غلالة هي لافتة الشرف التقليدية، كثير ممن خلق الله ادرك انها صارت خرقة بالية قد مزقها الزمن، تلاشت فتلاعبت بها الرياح بلا أثر بعدي..تربيتك نشأتك، خوفك، هذه كلها عناصر مؤامرة اصعب بكثير وأخطر مما ألحقه بك قريبك ابن القرية..

قفي أمام مرآة.. انظري الى خلق الله فيك..هل ضاع منك شيء؟

ماضاع منك غير بسمة رضا أنت من تعمد ت قتلها، وبريق عينين غادرهما كحل، يداك من تقاعستا عن الإمساك بمرود امتثالا لعقلك الضابط، الذي تحكمت فيه طقوس البلد وعاداتها وما بنته من مدماك للخوف في نفسك، ما ضاع منك هو نظرة إيجابية لنفسك وقناعتك بها، وقد أحللت بدلها نظرة سلبية تحولت مع الزمن الى شبح مرعب يسكنك، وبدل أن يسكنك الحب سكنتك الكراهية، كراهية نفسك قبل غيرك ككارثة تعوضين بها ما تحسينه وتسمينه ضياع شرف..

قرات كلماته مرة ومرتين وثلاثة، استغربت !!كيف غاب عنها أن في الحياة بار وضال، خلوق وحقير، بشر يخطئون و آخرون يصيبون..

ها هوذا شيخها لم يتخل عنها، لم يتركها، لم يبتعد عنها، أحست ان قربه منها صار التصاقا ذاتا بذات.. لا يتوانى عن السؤال عنها كلما غابت.. احست انه كلما تقدمت الأيام صار يتقرب منها اكثر، في صدق حديثه، في محاولة شدها اليه ..طلب منها ايميلها.. ترددت في البداية لكنها أصرت ان تسير معه الى النهاية فربما قد تكشف حقيقته كما كشفها..

كانت مع الايام تبهرها ثقافته، اتساع افقه المعرفي، كلما واجهته بسؤال فتح أمامها اكثر من باب مما كان منغلقا لديها، قدم لها وجهات نظر متعددة حول الدين والحياة بأمثلة وحقائق ليست هي ما يكتبه المتشددون ويدعيه القوالون ممن يرتدون الأقنعة عند الظهور، واكتشفت أكثر أنه من اسرة عريقة لا يتعدى العقد الثالث من عمره، ضربه القدر بمصاب، ماتت زوجته بعد أول وضع لها، تركت له صبية تتربى في رعاية أمه، غادر وظيفته، وغير توجهه المهني بعد شلل نصفي من صدمة ما أصابه وقد شفي بقوة منه وإصرار على الحياة، وتفاؤل بغد أحسن..

ووجدت نفسها تثق بما يقول، تجرب ما يقترحه، تتخلى عن كثير من عادات ألفتها.. تغتسل شيئا فشيئا من أتربة صارت ركاما على أكتافها، وجدت نفسها تضحك وتشارك الآخرين بسماتهم، تحضر حفلات دعيت اليها، .. تقف أمام المرآة تحرك خصرها برقص، تمرر يدها على جسدها، فتجد نفسها ـ وكما قال لها ـ:" أنثى بكامل الانوثة، لم يسرق منها الاغتصاب الا ماتوهمته قد ضاع وهو باق، حي فيها يحتاج فقط للمسة من يدها "..

تحرك راحة يديها على ثديها فتحس بخفقة في صدرها، رغبة تسري في جسدها، كل ما توهمته قد ذوى لازال ينتظر استجابة منها، إرادة تحركها، نسيانا مطلقا بان عثرة طريق لا يمكن ان تغير العالم الا وهما في عقل من يتوهم ذلك..

وبدأت تتعلق بصديقها، تراسله، تقضي معه الساعات تقرا وتصغى لما يكتب ويقول، وله تحكي استجاباتها الجديدة، نظرتها الى الحياة من حولها بعد أن تعرفت عليه، استغراب أهلها من تغيرها، قناعتها بان الشمعة التي أشعلها الصديق في نفسها بتوجيهاته وشروحه، بالحرية التي فتح لها نوافذ في ذاتها، بقربه منها قد اشعرها بقوة وفخر وانتصار على نفسها وما واجهته خلال أزيد من ربع قرن.. حتى خلايا جسمها صارت أكثر نشاطا وحيوية، وقد آمنت أكثر ان كل إحساس بالقهر والغبن يلزمه صديق بشخصية جذابة، بعواطف إيجابية ونظرة تفاؤل تركز على اعماقك قبل مظهرك وتتماشى مع الإحساس بحاجاتك النفسية، وليس أي شخص قادر على منحك هذا الشعور.وكما قالت له في احدى رسائلها اليه: أحس اني اتغير بسرعة لا لاني نسيت ولكن لانك استطعت ان تفتح أكثر من بوابة للتواصل والعطاء، وتضع أمامي أكثر من فكرة ورأي كلما تعمقت فيها وجدتها هي بوابة نجاتي، لهذا أعدك اني تركت الماضي بغير رجعة واليه لن أعود لكن لا تتركني.

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

في نصوص اليوم