نصوص أدبية

ذكرى لعيبي: غابات الإسمنت

مَنْ يعتقدون أنّ الأدب الجريء إثارة للغرائز؛ وابتذال أو خدش لحياء مصطنع؛ والمُتطرِّفون، المُتشدِّدون، القريبون من دِيْنامِيت السياسة؛ أنصحهم بعدم قراءة هذه الرواية.

الفصل (1)

هل نلوم القدر؟

أم نلوم مجهولًا آخر يطالعنا من حيث لا ندري.

إنعام عبد اللطيف، كان هذا هو اسمي، وربما أطلّ عليكم باسمٍ آخر لم يبتكره لي والداي؛ لكن لن أتعجّل الأمور، فكل شيء يأتي بأوانه.

قلت منذ البدء، هو اسمي الذي عرفت به، ولا شكّ أنّه الاسم الوحيد الذي لم يلتبس بقناع؛ أيّ قناع في هذه الرواية.

نعم، إنعام عبد اللطيف الحاير؛ إذ إن جميع المسميات التي ترد في الأسطر القادمة انطبعت على وجوه صاحباتها الحقيقيات من خيالي، فمن حقّي أن احتفظ ببعض الأسرار، ولعلّي لا أرغب في أن أؤذي أحدا أو ألطّخ سمعة أي إنسان مهما كان.

وهذا يكفي لأنني حقا لا أملك روحًا ترغب في الانتقام أو الشرّ...

أبدًا، ليس ذلك الأمر في بالي.

أمّا ما حدث فقد جرى على الرغم من إرادتي.

لذلك تبدو الأماكن غير معروفة لوازع ما، أضمرته في نفسي، قد يكون الغموض أحيانا أقرب إلى الصدق، وغرابة الزمان والمكان لن تخفيا جمال العمل الذي أريد أن يظهر للنور، أمّا الوقت فلا يهمّ أن يكون أمس أو الآن، ومن المحتمل أن يستقرّ في قصتي هذه على الغد.

لا أرغب أن أدخل في تفاصيل واسعة ودقيقة، فأنا اليوم حسب الظاهر أملأ عينيّ بالنور ورئتيّ بهواء نقيّ، هذا وفق الظاهر.

على الأقل أشعر بالأمان..

أطرد الخوف عنّي لأنني أحسّ أن هناك من له يد عليا يحميني.

يعطف عليّ.

يحسّ بي..

كنت أخرج من المكان الضيق الكئيب، الذي ألقاني القدر فيه خلال الليل بحجج شتّى لا يناقشها أحد.

بنت هوى بأسلوب آخر!

كنت امرأة متزوّجة، ومن حسن الحظ أنّي لم أرزق بأولاد، فخلال الشهر الثالث لزواجي حدثت المأساة، خيّل إليّ أن زوجي شاب طيب مخلص، لم نتزوّج عن حبّ، نحن عائلة متوسطة الحال، أما زوجي فهو ينحدر من عائلة معروفة بالثراء والسيادة، وقد اعترف لي بعد الزواج أنّه رآني أتبضّع مع أمي في إحدى الأسواق، فبهره جمالي.

أعرف أنني جميلة، وأن جمالي قد دفعه إلى أن يتتبع أخباري، ويتقصّى عن عائلتي، ففاتح أهله بموضوع الزواج، وهو في الخامسة والعشرين، وكانت أمه تحثّه على الزواج، لم يكن وحيد أهله؛ لكنه كان الأكبر.

لا أشكّ أن الزواج والذرّيّة يقرّبانه من امتيازات ومال مضاعف من أبيه ليبدأ مشاريع جديدة.

ردّد على مسامعي أنّي علامة فأل حسن عليه، فقد توسعت بعد زواجي منه مشاريعه وناله خير كثير، فتحققت أرباح كثيرة عزّزت مركزه في السوق وعند الحكومة، وهو ما كان يطمح إليه منذ صباه، وها هو يعثر على ما أراد، وقد زادني تعلّقا به أنّه بعد الزواج اقترح عليّ أن يفتتح لي محلّا أبيع فيه الملابس الخاصّة بالنساء في مدينة أخرى تقع على مسافة عشرين ميلا من مكان سكنانا.

زبائن جدد.

معاملات جديدة.

وواقع مختلف مع الحياة وجدتُه بفضل زوجي.

ووجوه لم آلفها من قبل، حيث شعرت بمسؤولية تجعلني امرأة عظيمة في المستقبل.

قال إنه مشغول بالعمل ويخشى عليّ من الضجر، ولا يرغب في أن أظنّ أنّه أهملني.

تعلّقتُ به أكثر وأحببته حبّا لا يوصف.

وجدتهُ يمثّـل لي كلّ شيء، ولم يخطر في بالي أنّه أبعدني ليمارس أمورًا غفلتُ عنها!

طيبتي أم سذاجتي؟

كلّ يوم أقود سيّارتي وأعود من عملي وقت المغرب، خلال العمل تجري بيننا مكالمات وغزل رائع، بدوت مسحورة به على الرغم من أننا لم نتزوّج عن حبّ كما قلت؛ لكنني ذات يوم اطّلعت على كلّ ما كان مستورا.

التغاضي للمحافظة على خيط مودّة يربطنا بالآخر، لا يعني أننا سنتقبّل الاستغفال أو التجاوز، أو نشعر بالإهانة ونسكت، لا بدّ أن تظهر الحقيقة وإن بعد حين، هذه المرة لم يمرّ وقت طويل.

بعد أكثر من شهرين مرّا على زواجنا، لا أدري لِمَ انقبض قلبي، حتى كدت أرى السماء الصافية ملبدة بالغيوم، والطقس الهادئ ذا النسيم الصافي العليل.. عاصفا أهوج، تتلاعب به الرياح التي تتحوّل إلى إعصار مدمّر، حتى دخلتْ المحلّ فتاة جميلة في التاسعة عشرة من عمرها، يظهر عليها بعض الشحوب، وفي عينيها قلق وخوف، أوحت لي هيئتها أنها تعاني من شيء ما؛

تصدُّع.

كارثة.

نظرات منكسرة.

لا أنكر أنها أجمل منّي.

ذات جمال مبهر صاف تحسدها عليه كثير من الفتيات.

وكلّ مظاهر التصدّع والانكسار لم تؤثر في جمالها الخارق، سوى ما تثيره حالتها من إشفاق.

جنسية أخرى.. من بلد غير بلدنا، جاءت تبحث عن لقمة العيش، فمن يصدّقها غيري، ولا تقوى أن تناطح شخصا ينتمي إلى عائلة ذات نفوذ اجتماعي وسطوة في الاقتصاد والسياسة.

تألمتُ كثيرًا، وجنّ جنوني؛ ثمّ تظاهرت بالبرود حين سمعت أن زوجي جرّدها من الشيء الذي لا يعوّض بثمن، وعوّضها عنه بمبلغ كبير من المال مقابل سكوتها، المهمّ أنّه اشترى شرفها مثلما يشتري أية سلعة تعجبه في السوق:

جلّابية..

حذاء..

قلم حبر..

ساعة..

سيارة..

أي شيء يخطر في البال، حتى إذا ما شبع منه، رغب عنه فألقاه بعيدا عنه!

والأدهى أن الفعلة تمّت بعد شهر من زواجنا؛ أنا التي وجدني فاتحة خير له، سلّمتني الضحيّة نسخة من مفتاح الشّقّة التي يلهو بها زوجي، وكانت قد استنسخت دون علمه أكثر من نسخة، لا ألومها ما دام قد غرر بها ووعدها بالزواج، فأنا أعرف أن مجتمعنا ذكوري يسمح بالتعدد؛ لكن أن يأتي الفعل بصيغة عبث؛ عبث يجعلني أفقد اتزاني ويثير فيّ القرف!

سألتها:

-هل أجريت العملية؟

هزّت رأسها بالإيجاب وأردفت وهي تنظر إلى الأرض خجلى من عينيّ اللتين ما فتئتا تنظران إليها نظرات ثاقبة: نعم

-       أجيبي بصراحة هل كنت تعرفين بأنه متزوّج؟

ردّت بلهجة لم أشكّ في صدقها:

-       لا تؤاخذيني، أخبرني أنّه يعيش جحيما معكِ، وأنّكما على وشك الطلاق؛ إذ لم يعد ينفع وفق ما قاله لي أي علاج سوى الطلاق، ولا تنسي أنني من بلد فقير ومن عائلة مسحوقة (وتهدّج صوتها بالبكاء فنهضتُ وأحضرتُ لها كأس ماء، وقدمت لها منديلا تجفف به دموعها)

-       لا بأس.. لا عليكِ

-       صدقيني لو كنت أعرف الحقيقة لما اندفعت معه.. أنا ضحية.. ضحية فهل تصدقينني.؟

قلتُ لا بأس عليكِ.

-       هل غفرتِ لي من كلّ قلبك؟

-       نعم ما دمتِ لا تعلمين بالحقيقة الكاملة.

منحتها مبلغًا ليس بقليل وشكرتها.. نصحتها أن تسافر في أقرب وقت إلى بلدها قبل أن يقع عليها أيّ عقاب، وتابعت الموضوع حتّى تأكدّتُ من سفرها.

كل ذلك وفي ذهني شيء واحد يدور.

الثأر...

الانتقام لكرامتي...

الانتقام بالآلة التي اشتراها لي، وعلّمني على استخدامها، خشية من أن يداهمني لص في الطريق أو العمل.. وكان بنفسه يشرف على تدريبي عليها في نادي الرماية...

كنت أتحسس كلماته الناعمة وأسترجع الذكريات، فأراها أشبه بملمس أفعى ذات سمٍّ قاتل لا شفاء معه، مَنْ أجبره على أن يتزوّج؟ من دفعه ليقول لي إنني حياته؟ كلّ حياته، فمنحته روحي وجسدي وانسقت معه بعوالم من الوحي الشّفّاف؟

لا أظنّ أنّ سيدة مثلي يمكن أن تندفع مثل اندفاعي، ثم أكتشف أنني عشت في كذبة كبيرة تحولت إلى جريمة اغتصاب بحقّ فتاة عذراء؛ وبطل تلك الجريمة زوجي.. أصعب شيء على المرأة، أن تعيش كذبة كبيرة بحجم العالم كلّه.

الكون كذب ونفاق مركزه زوجي الذي جعلني أعيش في وهم لا حدود له.

فاتخذت قراري الجريء؛

راقبت المكان وانتظرت...

انتظرت ساعات.. رأيت فتاة تدلف نحو بوابة العمارة.. على بعد خطوات تبينت سحنتها السمراء، وبعد دقائق وصلت سيارة زوجي..

مشاعر الانتقام تجتاحني..

غضب من غير حدود...

فكرامة القلوب أعلى قيمة من أي مشاعر بعد مشهد خيانة.

لو خانني زوجي بعد سنوات من الزواج، لوجدت حججا شتى تقنعني بالخيانة، ربما كنت سأظنّ أنّ في معاملتي له، أو في تمنّعي عنه، دافعا له نحو امرأة أخرى، ربما كنت سأعزو السبب إلى بعض التغيّر في جسدي، ولعلّ الأمر نتيجة إهمالي له واهتمامي بالبيت والأولاد.

كنت سأقول لعلّ العشرة الطويلة تجعلني أسامح وأغفر وأغض النظر، مثل أعمى يقنع نفسه أنه ما دام لم ير شيئا فلا يظنه واقعا وإن كانت أذناه تسمعانه.

لكن كلّ شيء مرّ بشكل سريع لم يجعلني أفكّر طويلًا.

الإحساس بالكرامة والانتقام.

انتظرت بضع دقائق ثم صعدت، غضبي يزداد.. العنوان ذاته والشقة نفسها.. حمدت الله على أنّه لم يغيّر القفل، وأن النسخة التي عملتها (جمانة) تدور بيسر.. تدور وبات رأسي يدور معها.. وهناك عن لا وعي دلّتني شهقات خافتة إلى غرفة النوم، لا أدري كيف حملتني رجلاي، لهاث أصوات أشبه بالصراخ تتفجّر منها نشوة ماجنة، فاقتحمت الغرفة...

ودوّت رصاصة...وأخرى..

شلال دم..

وجثتان بعيون جاحظة مخيفة..

وجدت أني أصبحت في لحظة الغضب رسامة ماهرة، أرسم باللون الأحمر وحده؛ إذ لا شريك معه من الألوان الأخرى.

الزرقة تلاشت.

الأصفر يهرب.

الأخضر غائب...

والدم المسفوح يتحدث بصوت على وقع بكائي.

أناس تجمهروا ...ضجّة وشرطة...

مشهد لا أنساه ما حييت...هذه كلّ جريمتي..

الناس والصحف رأوني مجرمة أستحق القصاص، مشفقين على زوجي الذي رآه رجال التحقيق والجمهور الذي حضر الواقعة ساعتها، عاريا تماما من ملابسه هو وعشيقته، أما أهلي الذين تخليت عنهم وتخلوا عني منذ دخلت السجن فقد لاموني على فعلتي، وحجّتهم؛ ما دام زوجي وفرّ لي السكن والعيش والعمل، فلأدعه يفعل ما يشاء، لم يعلق بأذهان الجميع سوى بركة الدم ومشهد القتل الشنيع.

خيبتان: قلبي الذي نبض بحبه وآمن به بعد زواجنا، فقررتُ انتزاعه.. وعيني التي رأته كل الرجال، حتى شاهدتْ خيانته ففقأتها على طريقتي.

تلك كانت النهاية.

أو

هي النهاية البداية.

ليسمها الآخرون ما شاؤوا من تسميات فهي وإن تعددت المسميات تبقى ذات لون واحد فقط.

***

ذكرى لعيبي

في نصوص اليوم