نصوص أدبية

احمد القاسم: اَلْكِتابُ وآلْمُوَطَّأ وسَاعةُ جَيْب

حـَنَّ إلى بيت الآباء والأجداد؛ هنالك بعيدا عن بنايات المدينة الأسمنتية؛ التي تمتد أطرافها الأخطبوطية؛ لتلتهم ما كان منبع عين، وما كان حقلا لعيدان سنابل في لون الذهب، وما كان بستانا لأشجار مورقة بالخضرة، ومثمرة بالعنب، والتين والزيتون، والليمون، يرتفع غبار الأسمنت على جميع الأشياء حارا يحبس الأنفاس، وأتربة الأرض يكون قد بللها ماء المطر، فتصير رطبة ذات رائحة، وفي باطنها جذور نبت أخضر، غدا هذا خيالا، وإن عين الإنسان لشوق عارم إلى رؤية ذلك عن كثب؛ لأنه يُحيي؛ إنه إكْسير آلحياة، ولا آدمية بدون تربة بنية اللون، ذراتها تركة أزمنة جيولوجية ضاربة في القِدم، وماء رقراق عذب يخرج من بين صخور غطاها الطُّحلب.

لنْ تمحو سِنُون عمره التي نيفت على الخمسين من مخيلته صورة بيت جده، كانت لبنات حيطانه من حَجَرٍ، شُدّ بعضها إلى بعض بالتراب، وغطِّيت بطبقة من التراب نفسه، وطُليت بالجير الأبيض. حُجُره فسيحة، سُقوفها من أعمدة متوازية، وأخشاب مصفوفة؛ مُلِّطت بمخلوط من التراب والجِص، تحيط بساحة واسعة. فُرُشه من حُصُر منسوجة بالدَّوْم، وبخيوط من صوف ذات ألوان زاهية، ولن ينسى أبَد تلك الأعوام زريبة البهائم، كانت إلى اليسار من باب البيت.

في لحظة كأنها نور أومض فجأة ثم آنطفأ؛ تذكَّر الآباء والأجداد وهم أموات، يدعو لهم بالرَّحمة والمغفرة وبمأوى الجنة.

لم يمْهله العمل؛ فلم يخْل لنفسه، ولو لزمن يسير؛ يطبق فيه جفنيه، ويغيب ذهنه وحِسُّه عن كل ما يدور حوله؛ فيَستسلم فيه لنوم عميق، أو لجلسة حميمية بين أفراد أسرته، وهو إلى جانب كثرة آنشغالات ذلك العمل، وآجتماعات مستعجلة، وأيام دراسية داخل البلاد وخارجه؛ حبيس حركة تراقصية في ذهاب وإياب؛ صباح مساء؛ تحمله خلالها سَيَّارته عبر شوارع متشابكة من مقر عمله إلى بيته؛ فتنهال عليه صور من الماضي، وذكرى أيام مضت، ووجوه أشخاص أحسنوا عِشْرته، فيجد في هذا عزاء، يُنَفّس عنه كُرْبته.

تساءل: «أما يزال بيت جدِّي على حاله، أم آنْدرست أركانه؟».

وهو منذ أعوام لم تطأ قدماه تلك الأرض الضاربة في آلامتداد إلى الشرق وإلى الجنوب، ولم يسلك ذلك المِسرب التَّرِب؛ يحاذيه بيت جده، تهبط أمامه أرض حَدَر؛ إلى بئر كانت مورد ماء للإنسان، والأنعام، والدواب، والطير.

وفي صباح يوم من أيام صيف أحد آلأعوام؛ لم يرافق أفراد عائلته إلى شاطئ البحر للاصطياف؛ كما دأب منذ سنوات، وأخبر زوجته وأولاده بأنه سيسافر بدونهم إلى مكان؛ سيُطلعهم عليه حينما يعود؛ فلم يهتموا بالأمر، وتركوه على سجيته، ولم يلحوا في السؤال، ثم آمتطى سيَّارته، وحررها من كوابحها، وترك أعضاء محركها تهدر في تناغم وآنسجام، وسار بتريث في أزقة وشوارع المدينة، ثم بعد ذلك لفظته الأبنية على طريق منعرج؛ يخترق أراضي آلبادية آلواسعة، فساحت عيناه في ذلك آلامتداد، بعد أن كانتا حبيستي أروقة طولية وقاعات ضيقة؛ تحيط بها جدران عالية، وأوراق بيضاء يظل مشدودا إليها، وعقله يخترع الأفكار، فيخطها مدادا، أو حبيستي شاشة الحاسوب يتفحص المواقع الإلكترونية، وأرشيف الإدارة.

مدّ ذراعه الأيسر خارج نافذة السَّيَّارة؛ فلفح يده هواء لاهِب، وكان قد آستخدم جهاز التبريد للتخفيف من السخونة التي تسربت إلى الداخل، لم يكن مُتعجلا؛ فخفف من السرعة حتى يتمكن من أن ينقل عينيه إلى حيث يشاء؛ إلى صف من جذوع الأشجار يسرع عكس اتجاهه؛ إلى بيت تفكك طينه، وآنهارت حجارات جدرانه، يتوسط أرضا بائرة، ولم يبق من السَّور المحيط به إلا أجزاء لا يستبعد أن تكون مأوى للأفاعي والعقارب .

قال: «إنه مكان قوم كانوا قد عمروه أفراحا وأتراحا، ولما تَحَدث الذين قدموا من المدينة عن غجريتها، واروا جثث آبائهم وأجدادهم في قبور من تراب وحجارة، وحزموا أمتعتهم ورحلوا، مُنجذبين بذلك البريق الذي تتلألأ به حليّ المدينة».

وهو في توغله في تلك التلال والسفوح، ويضمه سهل؛ يحلق نظره في أجوائه الرحبة؛ يشعر بالطُّهر يغمره، وأنه تخفف من تراكمات حياة مضنية؛ ظل يرزح تحت ثقلها منذ أن آنغلقت عليه الدّروب، وطبقات تزداد علوا من الأسمنت، وأسياخ الحديد؛ إلى حد أنه كاد أن يقنع نفسه بأنه لا مخرج له من متاهة؛ ينطلق من إحدى أركانها؛ ليعود إليها بعد رحلة بحث عن المنفذ المفقود.

أيكون قد عاد القَهْقرى إلى ذلك العهد الذي كان فيه طفلا ؟ وكان أحب شيء إليه ذلك المِسرب الأُحْدور، فتتوق نفسه إلى أن يستسلم لجاذبيته، فيركض في أرضه التّرِبة الممهّدة، وقد لمحه من بعيد، فنزت عيناه دمعا، وأفرز أنفه بقايا عطر منديل أمه عندما كان يتشبت بأطراف ثوبها، مُستعطفا إياها أن تتركه، وذلك الأُحدور الذي يجذب ساقيه الصغيرتين للرياضة.

وترجل من السيارة، وطفق ينقل عينيه في أصغر وحدة قياس من مربع ذلك المكان؛ فوجده كما هو: الحاشية التربة يحدها عشب بري أخضر، وزهور صفراء اللون؛ مازالت تقاوم حرارة الصيف القادم.

ثم آحتوت عيناه وبلهفة عجلة بيتا ما تزال الطريق إليه طويلة؛ فبدا صغيرا ومنعزلا وسط أراض ضاربة في كل آلاتجاهات الجغرافية، ويكبر كلما تقدم، ويترك عجلات سيارته تدور بلا هوادة، وهو يسمع من حين لآخر آحتكاكها بالحجارة وبفروع نباتات شائكة، وفرح طفولي اعتراه حين لاحت له من بعيد شجرة التِّين، تُظلل أوراقها العريضة والغامقة الخضرة بئرا؛ بجانب جِداره حبل قِنَّبيّ ودلو، وترسبت رائحتها الطبيعية الخالصة في خلايا جدارات أنفه، تتضوَّع في منخريه كلما ساحت بفيحان نفاذ، قال: «... ونحن صغار، أنا وأخي وآبن عمي، أقوانا يتعلق بفروعها ليُرسل إلينا حبات تين يانعة آلْقشرة، تفرز سائلا سُكَّريّا، ونحن في لهو لا ينتهي إلا بصوت آمر من الآباء والأجداد».

ثم أن هدير السَّيَّارة؛ إنفجار كونيّ دوَّى في أرجاء البادية، فنبح كلْب، ونهض يسترعي القادم إلى حِمَاه: « كفاك حيث أنت؛ وإلا فإن غشاء لحمك يتوق لعضَّة من أنيابي».

وفي أعقاب ذلك النُّباح؛ تحرك الهُوينى جسد شائخ، وخطا بثلاث قوائم بتُؤَدة، وفاجأ القادم من بين حجارة سور، كأن التلقائية التي تتحرك بها أعضاؤه؛ يعرف صاحبها، فنادى بصوت مسموع: هذه العَمّة!

وهي تنظر إليه بآنحناءة لاثمة، وبدموع بهيجة بللت خديه؛ فضمها إلى صدره، قالت له:

- أو تظن أنني نسيتك؟ ما زالت عيناك واسعتين، وحاجباك ممتدين بالسواد؛ كما كانا منذ زمن طويل.

ما زال إذن فرد من تلك الأسرة الأبوية التي تناثرت شظاياها في كل حدب وصوب؛ حيا يرزق.

شدت بعَضُده، وقادته إلى الداخل؛ فضمه فناء رحب، وسقوف وجدارات مُنهارة؛ إلا حجرة واحدة هي مأوى عمته.

جالت في أرجاء البيت، وقد غدت خيزرانة؛ أيقظ فيها القادم حنانا أمَويّا؛ ظل راكدا منذ عهد قديم، فجدد عنفوانه؛ تُعِدّ إبريق الشاي، وتستعد لشيء آخر كان مفخرة، وهو كرم متوارث، وموثق في كتب الطَّرَائف والمُلح.

قالت:

- كنت أنتظر مجيئك، وأدأب في سماع ما يرد عنك من أخبار؛ فكانت فخرا لي؛ قالوا بأن ابن أخيك كان تلميذا مجدا، وطالب علم مستغرقا فيه إلى حد الهوس؛ وقد صار له شأن؛ لم أستغرب ذلك؛ بل هي وراثة خَصْلَة؛ انحدرت من أصلاب أجدادك، وما آحتفاظي بذلك الصندوق الخشبي، الذي كان ملكا لأبي؛ أي جدك، وبما هو مرتب فيه؟

فتحاملت في مشيتها، وجلبت الصندوق؛ ففتحته؛ فتقدم هو، وشاهد محتوياته: كتب قديمة مجلدة ومذهَّبَة، وكيس جلدي؛ جُذب خيط من جنس جلده، فآنحبست فوهته على شيء محفوظ بداخله، كانت الكتب؛ كتاب الله المسطور، وأجزاء كاملة من مُوَطَّأ الإمام مالك بن أنس (رحمه الله)، وأخرج من الحافظة الجلدية ساعة جيب سويسرية؛ تُذيلها سلسلة؛ وكلتيهما من الفضة.

قالت:

- اِحْمل بني جميع هذه الأشياء؛ فهي دلالات لأبنائك من بعدك، وكذلك الساعة فهي دائما لصلاة وَقَتَها الله عز وجل.

قال:

- كأنّني في حاجة إلى شيْء ما هناك من حيث قدمت.

قالت:

- أن تصل رحمك، وأن تتناول يداك تركات من ماض مجيد.

وعاد بعد أيام، وقد سرّته وأطْربته أحاديث العمّة؛ من روايات يشهد عليها بيت جده، وحكايات ونوادر من سالف أزمان أمة ما تزال تقاوم.

***

احمد القاسم

في نصوص اليوم