نصوص أدبية

ذكرى لعيبي: نائلة

الفصل الرابع من رواية: غابات الإسمنت

حين عدتُ وجدت السجينات نائمات في أسرتهن، نور خافت؛ والوحيدة التي رفعت رأسها وهمهمت هي نائلة العاصي.

كانت صديقتي مديحة مسترخية على فراشها، لا يبدو أني أستطيع الكلام خلال هذه الأجواء، غير أنني لاحظت حركة نائلة العاصي، وشعرت بها تخطو وسط الممر، خمّنت أنها ذاهبة إلى الحمّام؛ لكنها اقتربتْ من سريري.. كدتُ أرى عينيها تنطبعان على وجهي، ومالت بفمها نحو أذني:

ـ هل جلبتِ سجائر؟

ـ آسفة لا أدخن.

ـ إذا طلبوك المرة القادمة، أرجوكِ اجلبي سجائر.

ـ لا بأس.. حسنا.

وعادتْ وهي تتمتم بكلمات لا أفهمها.

في اليوم التالي انفردتُ بصديقتي مديحة، وحكيت لها عما جرى مع السيدة النقيب مديرة السجن، فهزّت رأسها وقالت:

ـ إذا أردتِ حقـًا أن تقضي نصف المدة، فأطيعي.. لا حيلة لك سوى تنفيذ الأمر مهما كان، وستفهمين كلّ شيء فيما بعد.

ـ هل أكون جاسوسة؟

ـ أبدًا، لا.. هذا تفكير غير صائب.

ـ هل تخبرينني؟

ـ الأفضل أن تكتشفي بنفسك.

ـ هل مررتِ في نفس التجربة؟

ـ نعم وبشكل آخر.

وبعد فترة صمت:

ـ ما الذي تعرفينه عن نائلة العاصي؟

فابتسمت وخفضت صوتها:

ـ سألتكِ عن سجائر؟

ـ البارحة تسلّلتْ إلى سريري.

ـ هذه مدمنة.. المخدرات استهلكتها، يبدو أن لها قريبة أو صديقة تدعمها بالنقود كلما حلّ موعد الزيارة؛ لكنها انقطعت عن زيارتها لسبب ما؛ قد يكون افتضاح أمرها أو مرضا جعلها ترقد في الفراش، وقد بانت أعراض الهستيريا على نائلة، وأظن أن أمرًا ما سيحدث لها!

اجتاحتني لحظات استغراب:

ـ ومن يجلب لها المواد؟

فتلفّتتْ وهمست في أذني:

ـ أم خالد؛ الشرطيّة نجيّة عبد الرحمن، ألم تقابليها البارحة؟

ـ نعم؛ لكنني سمعتها تكيل المديح لمديرة السجن.. وجهها عبوس ولسانها حلو.

ـ منافقة.

ـ هل تعلم السيدة النقيب أنها تهرّب؟

ـ لا لا.. لا أظن.. محال.

ـ لكنها لم تلمّح لي ولو بإشارة.

ـ هي لا تغامر إلّا إذا بدأ الطّرف الآخر.

وما كدنا نكمل الحديث، حتى تعالت صيحة من وسط العنبر اهتزت لها الجدران، استغاثة أم هلع؟

رعب.

خوف.

تراكضنا إلى الداخل فوجدنا، نائلة العاصي مستلقية على الأرض منفرجة الساقين، وقد انحدر ثوبها أسفل ركبتيها، كانت هناك رغوة تتلاطم كالموج على شفتيها، ويداها قابضتان على السرير، كأنما تحاول أن تسحبه باتجاهها ليهوي عليها، راودني خوف وهلع، صرخت: إنها حالة صرع.. وصاح صوت مكلوم: اللهم أخزِ الشيطان، أما مديحة فقد نظرت إليّ بيأس كأنها تعترض على ظنّي البريء.

حزن.

ويأس.

قبضتُ على عضد صديقتي كأنني ألوذ بها.

أهرول إليها.

كنا جميعا مسمّرات حول نائلة، يئسنا تماما ولم نقدر أن نفعل شيئا، ما عدا سجينتين؛ واحدة هرعت الى الحمّام وملأت كوبا من الماء رشّته على وجه نائلة التي زاد صراخها، والأخرى راحت تدق باب العنبر بيديها تنادي على السجّانة.

كان كل شيء يشير إلى الريبة والفوضى.

مشهد جعلني أمام تجربة البكاء بذل حقيقي..

ذلّ الدنيا التي أجبرتنا على تحمّل العيش وكأننا فزاعات في حديقة رجال بلا ذمة ولا ضمير؛ رجال كالقمامة يتفاخرون بذكورتهم القذرة، وآخرون بلحاياهم وعمائمهم المزيفة، التي أتاحت لهم التلاعب بعقول الناس وإصدار فتاوى البؤس، بل تأويل آيات القرآن وتفسيرها حسب منافعهم وملذاتهم، رجال بسببهم أدمنت نائلة المخدرات، وكريمة ارتكبت جريمة قتل، وثالثة زورّت، ورابعة سرقت... وأنا بنت ليل وهوى.. أي قهر هذا؟

***

ذكرى لعيبي

 

في نصوص اليوم