نصوص أدبية

ذكرى لعيبي: بين الحياة والموت

الفصل الثامن من رواية: غابات الإسمنت

توطدت العلاقة داخل السجن بيننا نحن الثلاثة؛ مديحة، وكريمة المحكومة بالإعدام، وانضمت إلينا نجاح ذات الوجه الطولي والشعر الأشقر، كنت أظن أنها تصبغه، ثم عرفت أن شعرها ذو شقرة برّاقة، كانت إحدى المتدربتين معي في ورشة الحلاقة، ولم أرتح لها حين فاجأتني بالسؤال عن جريمتي وبمرور الوقت أنستُ لها، عرفت أنها طيبة القلب لا ترتاب بأحد، ولا تسأل عن خبث، كانت ضحية لؤم زوج احترف الكذب والنفاق.

طلّقها وتركها مدّة فتزوجت بعد سنة من الطلاق.

لكن زوجها أرجعها قبل انتهاء مدّة العدّة من دون أن تدري، ودون أن يخبرها أنه أعادها! فأقام عليها دعوى فحوكمت بقضية الزواج من اثنين بوقت واحد.

عندما سمعتُ قصة نجاح انتابني شعور غريب، حنق لم أعتده، أيّ دين هذا يسمح للرجل أن يطلّق زوجته ثم يعيدها لعصمته دون سؤالها؟ دون علمها! دون رضاها ربما!

هل نحن نعيش بمعزل عن العالم أم نسكن كوكبا آخر؟

رغم قناعتي أن الدين والحب ثنائية لا مجال للمجاملة فيها، أو تجاوز قدسيتها، لأننا بذلك سنهدم عقيدة الاستمرار بإنسانيتنا.

لكن هنا.. أمام هذا الموقف، ومواقف أخرى.. تخلخلت عقيدتي وقناعتي بأمور كثيرة.

لا أظن أن إدارة السجن تفعل معها مثلي، أو مثل ما فعلوا مع مديحة، فتكلّفها بمهمة ما ذات يوم، لبراءتها المفرطة، وصدقها وطيبتها التي تصل إلى حد السذاجة؛ لكنني لقربي من السيدة النقيب سألتها عنها، فأكدت لي أنها ليست أهلا للثقة، ولولا العلاقة الخاصة بيننا لما تجرأت على السؤال ثم تركت الأمر للأيام.

كنّـا نجتمع نواسي كريمة، وكلنا أمل وتفاؤل في أن القضاء سوف يعطف عليها ويخفف الحكم إلى المؤبّد، كريمة نفسها كانت متفائلة كثيرًا، كانت نجاح تأخذ رأس كريمة في حضنها، وتقصّ عليها حكايات لطيفة ذات نهايات سعيدة، ذات مرة حكت عن أميرة اختطفها نسر فقطع حبيبها الأمير الصحراء لينقذها، كان يتخفى بأشكال مختلفة كلما رأى خطرًا ما، حتى وصل إلى القصر المسحور، وقتل النسر ثم انطلق على فرسه وخلفه الأميرة؛ وعلى الرغم من أن النهاية كانت سعيدة إلا أن نجاح كانت تبكي، وعندما سألتها مديحة قالت: إنها دموع الحنين للطفولة، وستبكي فرحًا مثل هذا البكاء يوم نجاة كريمة، فارتفعت الأكف بالدعاء.

غير أني مع ذلك كنت قلقة، ساورتني وساوس، ليس بشأن كريمة بل بدأت أفكر بالسيدة النقيب، مرّ أكثر من أسبوع ولم تطلبني، هل استغنت عني؟

هل عدّتْ سؤالي جرأة تجاوزت الحدود، مع أنها رفعت الكلفة بيننا، ولم تعد علاقتي بها علاقة سجينة بمسؤولة كبيرة عن السجن.

أم تراها نزوة عابرة ستجد مثلها مع سجينة أخرى؟

بدأت أشعر معها بالأمان، ولا أقرف مما أفعله، أشعر أني ندّ لها، قد تكون غيرة مني أن أفكر بخيانتها لي، فهي التي مسحت مشهد الدم من عيني، وجعلتني أعيش عالما آخر يبدو لي أنه أكثر راحة من العالم الذي عشته.

المهم، بعيدًا عن عالم الذكور، نافذة أمل جديدة، حتى إن كان أملًا معتمًا، والنافذة صغيرة.

بـدأت أقلق.

لا أريد لعالم الغد الذي يفوح منه الأمل أن يفلت من يدي.

أصبحتُ عصبية، لا أركّز، انتبهت نجاح لحالي هذا.. حاولتُ أن أختلق الأعذار لكي لا يظهر شيء.

تُرى لو جَعلنا الله نختار أقدارنا، هل سيهدأ العالم؟

- هل تدرين يا إنعام كم كنتُ أحبّ زوجي الثاني؟

انتشلتني نجاح من تشتت تفكيري في هذه اللحظات بمبادرتها بالحديث عن نفسها، التفتُ إليها:

- وهو؟

- أيضًا كان يبادلني ذات المشاعر، وربما أكثر؛ لكنه القدر قد ترّبص بنا، وأحيانًا القانون يكون فعلًا فوق كل شيء.

- القانون! ولماذا لم يُسنّ قانون مماثل يوقف نذالة الرجال وسعارهم؟

- حين تم استدعائي بالمحكمة بتهمة الجمع بين زوجين، قبل أن أخرج من البيت، هممتُ بعتابه لأنه لم يحمني، نظرتُ للمروحة المعلقة بسقف الغرفة، للنافذة المفتوحة على حديقة الدار، للأرضية الباردة كجماد مشاعره تلك اللحظة، للباب الموصد كأحلام المسجونين، نظرتُ لكل الجهات ماعدا وجهه!

- تبًا ما أتعسنا... هناك فرق كبير بين رجل حقيقي، وشبه رجل، ونحن وقعنا في وكر أشباه الرجال.

- أحيانًا حين يبلغ اليأس بنا مداه نقول: الرجال كلهم أشباه رجال.

سادت دقيقة صمت، حتى استدعتني الحارسة الجديدة تلك الليلة... حسبتُ في البدء أن السجّانة أمّ خالد في إجازة، فلم ألتفت للأمر، وقد رأيت السيدة النقيب التي أخبرت السجانة الجديدة أنها ستأخذني لأخدمها في البيت، وستعود بي فجر الغد، مثلي مثل الأخريات.. خفق قلبي وتهلّلت أساريري، أحسست بنافذة الأمل تطل عليّ من جديد، هل حقّا كانت مع أحد غيري؟ لا يهمني أن تكون مع رجل، فهذه امرأة جعلتني أحبّ السجن، جَعلته جنّة بنظري ولو حكم عليّ بالمؤبد لما باليت، أو راودتني أفكار متوحشة ما دامت معي، ثمّ وضعت القيد في يديّ.

كنت أشعر بنعومته!

كأنه لا شيء، أو من حرير ما دامت يداها أقفلته على يديّ.

في الطريق ران عليها السكون، ولم تنبس بكلمة، لم أصبر فتساءلت:

ـ ظننتكِ شبعت مني فوجدتِ ضالة أخرى!

ـ كنت في الجحيم، اسكتي... كلماتك تقتلني حين تشكـّين.. تقتلينني، نحن لسنا كالرجال نتمرغ بالخيانة.. هل فكرتِ أن تخوني زوجك حتى وإن خانك؟ فكيف نخون إن أحبّت إحدانا الأخرى؟ والتفتت إليّ وافتعلت ابتسامة كأنّها ندمت على انفعالها، كأنها تصورته توبيخا:

هل تغارين؟ لا تزعلي.

وفي البيت ران علينا السكون حتى اندفعتُ بعصبيّة:

لمَ إذن جلبتني إلى هنا؟

غابت والقت إليّ ببجامة جديدة، وغيرّت ملابسها الرسمية:

ـ سأحضرُ لك العشاء اشتريته جاهزا.. كباب، فقط سأسخّنه.

ـ لن آكل حتى تقولي لي أين كنت.

انفجرت بالدموع بعد لحظات صمت، ارتمت على الأريكة ومسكت صدرها وراحت تنشج إلى درجة خلتُ عندها أن نبضها سوف يتوقف، بدت أنفاسها تتهدّج، فرفعتها إلى صدري، كانت تلقي رأسها على كتفي وتواصل النشيج.

ـ أرجوكِ ما بكِ؟

رفعتْ رأسها عن كتفي، وتطلّعت إليّ بعينيها المغرورقتين بالدموع:

ـ كنت في عزاء أمي!

ـ معقول؟  حبيبتي البقاء في حياتك!

واصلت النشيج، فمرغّت خديّ بخديها المبللين وهمستُ:

ـ لا تهتمي أنا عندك.. هذه حال الدنيا.

فحدّقت بعيني وقالت برجاء:

ـ أرجوك، أنت لي كل شيء لا تتركيني.

ـ سامحيني على سوء الظن.

استلقيت على السرير ووضعت رأسها على ذراعي وأنا أتساءل:

ـ حدثيني عنك وعن المرحومة، نحن الآن لبعضنا، لا أحد لك غيري وليس لي أحد سواك، أنت تعرفين عني كل شيء من خلال ملفي!

ـ ألستِ جائعة؟

ـ لا نفس لي للطعام، تعرفين أنني تناولت طعامي في السجن!

ـ كأس شاي؟

ـ لا... قد لا أنام معه!

ـ حسنا إذا رغبت بأي شيء فالبيت بيتك ولا تترددي.

ـ حدثيني... ارتاحي... فضفضي.

ـ (يا ستي) أنا والدي رجل أعمال كبير، أصبح وكيل وزارة، وتوقف عن العمل السياسي؛ لكنه بقي يمارس نفوذه في الحكومة من خلال أتباعه، تزوج من أمي.

ـ هل هي قريبته؟

ـ كلا.. بعد ولادتي أصيبت أمي بسرطان الرحم، فتزوج والدي وأصبح لي أخوة نصف أشقاء.. أربعة!

ـ أخوات؟

ـ لا، ليست هذه المشكلة؛ لكن والدي جعلنا نعيش في شقة أنا وأمي، وسكن هو وزوجته في فيلا واسعة مزودة بكامرات مراقبة وحدائق واسعة.. جنّة.

ـ شقتكما متواضعة؟

ـ جيدة، وقد كتبها باسم أمي وقد ورثتها عنها الآن؛ لكن تخيلي... شركات أبي ذات أسهم بمائة مليون دولار كلها ذهبت لإخوتي، وأصابني منها مليونا دولار فقط حسب وصيته، ومائة ألف لأمّي!

فازددت فضولا:

ـ هل كان يزوركما؟

ـ أبدًا.. ليس لديه الوقت الكافي ليلتقي إخواني الذين يسكنون معه في البيت نفسه، فكيف يزورنا نحن؟ كان يبعث أحد سائقيه أو خدمه يسألنا عما نحتاج، وحسنته الوحيدة أني عندما دخلت كلية الشرطة قبلوني لأنني ابنته، ولعلهم سألوه فلم يمانع.

ترددتُ ثم تجرأت:

ـ هل أزعجكِ بسؤال؟

ـ ألا يؤلمكِ زندك من ثقل رأسي؟

فالتفّت يدي اليسرى تشبك يدها اليمنى:

ـ أبدًا أنا في غاية الراحة.

ـ أعرف ما تفكرين به ولن يزعجني ذلك، تودين أن تقولي هل ميولي ردة فعل؟

ـ سامحيني!

ـ أبدًا؛ لكني أقول إنها طبيعية وليست بسبب سلوك أبي، منذ الصغر أحسست بميول لجارتنا التي كانت رفيقتي، كنت أشتهي أن أقبلها، وفي يوم اكتشفت أنها............  ارتاحت للأمر.

ـ أظن أنك بقيتِ طويلا معها؟

ـ فترة، ثم مارست سنة مع صديقتي في الثانوية التي انتقل أهلها إلى مقاطة أخرى، ثم مع طالبة أخرى استمرت علاقتنا ثلاث سنوات وانتهت بزواجها.

تجرأتُ وسألتها فيما لو تعلّقتْ برجلٍ ما، أو ارتبطت بعلاقة حُب مع أي رجل..

التفتتْ إلى الناحية الأخرى، ثم وضعت يدها على صدرها:

- نعم.. كان كريمًا جدًا معي في اللقاء الأخير، لقد أسرف في ضحكته عندما طلبت منه الارتباط بشكل رسمي، حتى خجلت من طلبي، بل خجلت من نفسي وقلبي، من حبي وإخلاصي له لسنوات طوال، من ظنّي بأنه كان يحبنّي.

صوت قهقهته كانت كافية لتجعلني أعيش بعاهة مستديمة من الألم!

- لكنكِ قويّة، وتكمن قوتكِ في قدرتكِ على تقبّل تخلّيه عنكِ، وها أنتِ تجاوزتِ الخيبة وخرجتِ للعالم إنسانة أخرى ذات شأن وأهميّة.

- إنسانة مشوهّة من الداخل!

الشيء المهم بحياتي أني التقيتكِ، ها... هل تكتفين بهذا الاعتراف؟

ـ يعني أنني آخر حب؟

ـ بل أنت الأول والأخير.

ـ لكن أنا بعكسكِ، لم يكن هذا الأمر في بالي حتى جئتِ أنت.

ـ هل أنت نادمة؟

ـ بل في غاية السعادة، لأنك خلصتني من وهم وخيانة، وشيء يدعى الرجل!

ـ كثيرًا ماتصبح العادة طبيعة ثانية، مثل التدخين.

ـ أنا الآن في غاية السعادة، لأني أشعر أنك انتشلتني من بحر الدم!

ـ شيء واحد أرجوك، قد تفكرين بالزواج والأمومة، أنا لا أغار من رجل يشاركني فيك، إذا تم الأمر فلنبق كما نحن الآن، وسأفكر كيف يمكن أن نحقق رغبة الزواج والأمومة من دون أن نفترق.

ـ آمل ألا يحدث ذلك، وقد أفكر بالزواج والأمومة؛ لكن بطريقة أخرى لا تجعلنا نفترق، لقد تغيرتُ تماما، أنتِ عندي كل شيء... سيدتي هنا وفي السجن.

ـ وأنتِ سيدتي في كل مكان.

ونهضتْ وهي في غاية الغبطة والانشراح وطلبت بإشارة من إصبعها أن أنهض فغادرت الفراش، وقالت لي:

لكي تصدقي أنك سيدتي أقول لك ارتدي ملابسي العسكرية، ارتديها ولا تتردي، فتجردتُ من البيجامة والتقطتُ البدلة العسكرية، وبدأت أرتدي السروال والقميص، كانت أكبر مني فأطلقتُ ضحكة وقلت:

- نعم هل أعجبتك؟

- رائعة أنت يا سيادة النقيب، أمّا في المرّة القادمة، فيجب عليك أن تطلبي من الخياط أن يضبط المقاييس أو تذهبي إلى خياط آخرّ.

فتقدمتُ نحوها قائلة:

ـ مهما يكن فلن أرقى لدرجتك ولو كنا مراهقتين لجرحنا أيدينا وجعلنا دماءنا تمتزج.

ابتسمت وطبعت على خدي قبلة:

ـ لقد جعلتني أنسى الحزن حقا.

مع ذلك لم أنس رفيقتي، فكرت أن سيدتي النقيب في غاية الشفافية بسبب حادث الوفاة فقلت وأنا أخلع البدلة:

ـ لي طلب صغير يخص السجن؟

ـ قولي أعدكِ سأعمل جهدي؟

ـ هل تقدرين أن تتوسطي عند مسؤول ما ليتم تخفيف الحكم عن كريمة؟

ـ هذا أمر يخص القضاء... مع ذلك هناك أمل، إنها جميلة، سأرسلها ليلة أو ليلتين لمسؤول قانوني، تعرفين بعض هؤلاء... المرأة نقطة ضعفهم، قد تكون هناك بارقة أمل.

ـ آمل ذلك.

ـ اعلمي أنني معكن... تصوري الحارسة (أم خالد) نقلتها إلى سجن آخر مدة ثلاثة أشهر، لأنها هرّبت مخدرات إلى السجينات، والمدمنة نائلة التي فقدت الوعي، هي الآن في مستشفى تعالج من الإدمان، أنا أريد لهن الخير، ويحزنني جدًا أن أرى سجينة تُعدَم، حتى الساذجات اللائي لا يصلحن أن يكنّ لسذاجتهن المفرطة أو أمّيتهنّ مخبرات، سأجد لمن لا معيل لهن بعد خروجهن من السجن عملا يناسبهن.

كانت تتحدث بهمس، وقد شعرت باسترخاء تام لحديثها وطمأنينة لا حدود لها، ولم أشعر بنفسي قد غفوت... نمت نوما عميقا حتى استفقت على صوت المنبه!

***

ذكرى لعيبي

في نصوص اليوم