نصوص أدبية

ذكرى لعيبي: العودة إلى السجن

الفصلان (13) و(14) من رواية:

غابات الإسمنت

***

الفصل (13)

العودة إلى السجن

جاءت إليّ النقيب لكي تصحبني ثانية إلى السجن، الحقيقة أنني كنت مشتاقة إليها، في السجن تلاشى مكياجي الذي كان لا بد منه ليراني به الكبير مسؤول الأمن، ليقدّر في المستقبل على أساسه حجم المسؤوليات، أنتِ رائعة.. قالت النقيب التي جعلتني أجلس خلفها في السيارة، ثم استطردت:

هذه عبارة الكبير بحقك، يمكن أن تعدّي ذلك وساما، وستكون لكِ حسب تلميحاته مهمّة كبيرة بحجم جمالكِ.

ـ تريدين الحقيقة لقد خشيت أن يندفع نحوي.

ـ أووه.. هؤلاء أناس مسلكيون، لا يفكرون بمثل هذه الأمور، الجمال والجنس، يرونه ضمن عملهم الوظيفي أداة فقط، لا تخافي وأنا معكِ.

واندفعتT بلهفة عارمة:

- هل تفهّم سبب سجني؟

-  طبعا، أنت تتعاملين مع رجال يحبون المرأة القوية والجميلة، التي لقوتها وجمالها تكسر شوكة خصومهم.

توقفنا عند مصرف شهير، وقبل أن نغادر السيارة لوّحت لي ببطاقة، قالت إنها بطاقتي الجديدة باسمي الجديد حين أخرج من السجن.. أنسى أني "إنعام"، اسمي "ميساء"، ستفتح لي بهذا الاسم حسابا, أعيش حياة جديدة لا قلق فيها ولا خوف.

وبعد أن أنهينا الإجراءات ذهبنا إلى البيت، وحالما دخلنا احتضنتني وعيناها تترقرقان بالدموع، وضعت أنفها بين نهديّ وراحت تتنفس، كانت في غاية الرقة والحنان، تشعر أنها هي التي خلقت مني إنسانا آخر, هكذا قرأتُ عينيها، وبهذه الصورة استجمعت في فكري ذاكرتها.

التفتت إليّ وهي تمرّر أصبعها على شفتي:

ـ جائعة حبيبتي؟

ـ اسكتي لقد شبعت، هناك أرقى الطعام.

ـ لكنه ليس أفضل من طعامي.

ـ طبعا، هل تحبين أن أطبخ لكِ؟

ـ لاأريد أن أتعبكِ.

ـ أووه لا تقولي ذلك، تعبك راحة.

ـ اسمعي، علينا أن نستيقظ غدا قبل ساعة، لكي لا يدركنا الوقت، يجب علينا الاستحمام لتزيلي هذا المكياج من وجهكِ وترتّبي شعركِ، فليس من المعقول أن تذهبي إلى السجن قادمة من المحقق وأنت بكل هذه الروعة!

كانت أمسية رائعة، وفي الفجر استيقظنا مبكرتين لنستحمّ، وبدل أن أضع على وجهي قليلا من المكياج، مرّرت على وجنتي بعض ما تحويه عبوة صغيرة، فخالط وجهي شحوب وبدا عليه الإرهاق، ثم وضعت تحت عيني اليمنى بودرة زرقاء، فلاحت زرقة بدت كما لو أن كفّا غليظة واجهتني بصفعة، فتركت آثارها على وجهي الذي بدا متعبا، فضحكتْ وضحكتُ.. ارتديتُ ملابس السجن في السيارة وقيدتْ يدي، ثمّ اتجهنا إلى السجن، فاستقبلتني السجينات بالأحضان، وعلى وجوهنَّ أسف لما تعرضت له؛ لكن لم يجرؤنَ على أن يعقبن بأية كلمة، ولم أجد مديحة، فعرفتُ أنها انتدبت لمهمّة مثلي في اليوم الذي وصلت فيه.

اقتربتْ منّي نجاح، لاح في عينيها عتب، أسف.. هكذا خُيل إليّ، ولا أدري لماذا لم أجرؤ على النظر بشكل مباشر بعينيها، قالت:

شعرتُ بفراغ كبير في فترة غيابكِ.

- هل آذتكِ إحدى السجينات؟

- لا، أبدًا.. لكني اشتقتُ لكِ، فأنتِ الوحيدة التي تسمعني وتفهمني حين أفضفض لها.

- لا عليكِ، سأرتاح قليلًا ثم أستمع لكِ، يبدو أن في جعبتكِ الكثير.

- حلم يا إنعام، حلم غريب عجيب.

ما جدوى الأحلام والأصفاد بأيدينا؟ وحبل الماضي ملتفّ حول رقابنا، ومن نحبّهم خذلونا، حتى الطبيعة خذلتني ونأت بي إلى عالم لم يخطر على بالي يومًا بأني سأدلفه وأبقى قابعة فيه وأسيرته.

- إنعام.. هل تسمعينني؟

انتبهت على صوت نجاح:

- نعم.. معكِ، تعالي نجلس على سريري، هيّا قصّي رؤياكِ.

- كأني في لحظة غياب عن الواقع، رأيت نفسي أعيش في بيت من مرجان، والبيت يضمّه وطن كبير حدوده أشجار الكرز، والنخل والبرتقال، وحقول من شجيرات أزهار النرجس.

وكان لي أخوة؛ ما يقارب عشرين أخًا، وثماني أخوات، وكان لي زوج وخمسة أبناء، ورأيت جارتي صباح وصديقتها عطاء، وفجأة اختفت الشمس وحلّق فوق رؤوسنا سرب غربان سود، حتى تتالت أسراب وأسراب، وظهر فجأة ثعبان كبير، ثم شعرتُ باختناق من رائحة دخان وغبار، وسمعتُ صوتًا أشبه بانفجار قنبلة أو شيء من هذا القبيل.

حاولتT الركض والهرب وكأني أبحث عن قدميّ ولم أرهما؛ لكني كنتُ أركض، أردتُ أن أصل إلى الجسر الذي يؤدي إلى طرف المدينة الآخر؛ لكن الجسر ابتلعه النهر وابتلع معه جميع من ذكرت!

- ها، انتهى الحلم؟

- استيقظت مذعورة، "ريقي ناشف" وقلبي ينبض بسرعة عالية، إنه حلم سيء، غربان وثعبان..

- إنها أضغاث أحلام عزيزتي، ربما نمتِ جائعة، أو أنك كنت تفكرين بوضعكِ أكثر من اللازم، وأكيد أن هذه القضبان وهذا المكان، والظلم يجعلنا نحلم بأسوأ من ذلك.

تذكرتُ أحداثًا بعيدة، أبعد من حزن مجرتنا الكونية، وتخيلت كيف من الممكن أن تنقلب الأحلام إلى نبوءة، أو نذير شؤم ربما، لمحتُ سرب رعب في عينّي نجاح وهي تقصُ عليّ حلمها، حالها يقول الفرح سراب، والحرية خيال.

لا ترى من حولها سوى جدران رمادية، مليئة بتواقيع ورسومات لعيون باكية، حروف وأرقام، وسقف يتدلى منه زنجير معلّق في نهايته مصباح بضوءٍ خافت.

نجاح رأتْ ما هو أبعد من الغرفة الموحشة، والحلم المرعب، رأت أيضًا مجهولا موحشًا يحيط بها وينتظرها.

- سأطلب من الحارسة أن تسمح لك لتأخذي حمّامّا دافئًا، هذا سيمنحكِ الشعور بالراحة.

كانت ترتجف:

- انظري إنعام، هل ترين هذه التعرجات الغريبة على كفّي يدي؟ بل تغطي جسدي بأكمله رغم أني لم أبلغ سن العجز!

شعرتُ بالخوف عليها، بالخوف الشديد، تفحصتُ قلبها، هو الآخر، كان ينزف خوفًا، فأخذتُ رأسها ووضعته على كتفي، وطلبتُ منها أن تغمض عينيها:

- غادري كل ما رأيته بكل التفاصيل المؤلمة، انسي، ستكونين بخير.

النساء المقهورات قويّات، لهذا هنّ أثمنُ من أن يحدد لهنّ الآخر قيمة.

وتساءلتُ: هل الأحلام في السجون خطايا؟

ما أعرفه الآن، أني بانتظار مهمة أخرى، حتى خشيت أن أحلم حلمًا مزعجا تلك الليلة.

***

الفصل (14): المهمّة الأولى

الآن بدأتْ مهمّتي الأولى.

وظيفتي الجديدة.

بعد وصول مديحة من التحقيق مثلما شاع بين السجينات، الأمر الذي أكّده ظهور آثار لطخات زرقاء على وجهها، كنتُ أشعر بفراغ لغيابها، لا يسدّه شيء، حتى انهماكي في التدريب على الحلاقة التي بدأتُ أجيدها إجادة تامّة، وحالما وصلتْ مديحة، استدعتني الحارسة وهي تقول:

ـ تقول السيدة النقيب هناك تحقيق آخر في القسم السياسي، وهي تنتظركِ الآن بالخارج.

وحالما جلستُ في المقعد الخلفي مكبّلة اليدين حتى اندفعتُ:

ـ هل عملتِ بيديكِ اللطخات لمديحة؟

ـ لا أبدًا.. استلمتها منهم على ما هي عليه.

شعرتُ أني انهار، فنظرتْ إليّ نظرة ذات دلالة بالمرآة، راحت تركّز على المهمة الأولى التي أنيطت بي.

عليّ أن أثبت كفاءتي؛ أنا السجينة الموظفة.

المعلومات التي بين يديّ، أنّ السيد رئيس غرفة التجارة، وهو منصب رفيع، بيديه الاستيراد والتصدير وغرفة تجارة البلد، تربطه معرفة بالسيدة النقيب مسؤولة السجن، عرفت أنه مغرم بالنساء، على الرغم من أنه متزوج من اثنتين، واحدة منهما أجنبية.

نقطة ضعفه النساء، وكل خصوصياته من أوراق رسمية ومعاملات خاصة، موجودة في بيت ثالث يزوره بين حين وآخر، مما يتيح له معاشرة النساء اللاتي يشكّلن نقطة ضعفه، ولكون السيدة النقيب استدرجته وأخبرته أنها يمكن أن تجعل سجينة خارقة الجمال تأتي إليه بضعة أيام، لكي لا يكون عرضة للشبهات، فقد رحب بالفكرة، وازداد لهفة حين رآى صورتي بالمكياج والشعر المستعار والبدلة الأنيقة، سيمنح مديرة بيته إجازة فأحلّ أنا بدلها.

عمل جديد أمارسه وأنا في السجن.

في الحسبان أنّي أبيع جسدي، أتقزّز من فكرة أن أكون مع رجل وإن كان زوجي، وأتخيل أن تكون حبيبتي مع رجل فلا أغار؛ لكن النار تبدأ تحرق صدري حين أظنّ مجرّد ظنّ أنها تمارس مع امرأة!

لكنّي أعمل مثل رجال المخابرات، فأنسى أني مع رجل.

أصرفُ الخدم والطباخ في المساء لينفرد بي السيد، هناك في السقف كاميرا خفية، يمكنني من زاوية ما أن أميل إليها قرب الحافة، فتتضح معالمه وهو عار عند التسجيل، معي علبة فيها قلم أحمر شفاه، لا يميزه أحد من أقلام أخرى في حقيبتي، حالما يبلغ به السكر ويغرق في النوم، أخرج القلم وأفتحه أمام أنفه، فيبقى نائما أكثر من ثلاث ساعات، عندها أغتنم الفرصة، فأفتح أدراج مكتبه وملفاته وخزانات ملابسه فأصور أي شيء.

هناك أيضًا أمامي على المنضدة بعض الصور له، ومنها صورة واضحة بابتسامة تعلو وجهه يتضح فيها فراغ بين سنّين؛ لكنه فراغ غير قبيح.

متوسط الطول.. ممتلئ.

أظنّ الآن أن السيدة النقيب تأكدت من أنّ البيت شديد الحراسة من الخارج، فلا مجال للهرب لكي تجعله يثق بها، وسوف تعاود إرسال الجميلات إليه من السجن بصورة سرّية لا يعرفها أحد.

بذلك يتحاشى الفضوليين والفضائح، وقد وعدها أنه سيثني عليها عند المسؤولين، وتعّهد أيضًا أن يمنحني مكافأة ممتازة.

وقد دخلتُ القصر.. راعني مارأيت من أثاث فخم، وإن كنت قد عشت من قبل في بيت زوج ثريّ، في الحقيقة قد لا يختلف هذا القصر كثيرًا عن بيتي السابق، لعله أفضل بقليل، غير أن وجودي في السجن، وتعود عيني على رؤية القضبان وملابس السجينات، جعلاني أرى الأشياء التي تعايشت معها في حياتي السابقة، تبدو جديدة عليّ، كما لو أن عيني لم تقع على شيء مثلها من قبل.

كيف يا ترى يكون بيتا زوجتيه، وبأية صورة تبدوان؟

هنا حيث باشرت مهمتي، وجدتُ أرضية المطبخ من المرمر، والجدران من الآجُرّ اللماع.. فرن حديث وعاملة جميلة، ومساعدات، وكان الشيف – وهوعربيّ - الرجل الوحيد في المجموعة، حاول أن يتقرب لي بحدود ووجدته يتردد، وكان لا بدّ من أن أبدو السيدة المطاعة، كنت بكامل زينتي وأناقتي، لا أبالغ إن قلت إنني بدوت الأجمل، ومنذ اللحظة الأولى التي دخلت فيها المنزل، سألت الطبّاخة عن أكلة السيد المفضّلة، أجاب الشيف بأنه يفضلّ مرقة البامياء باللحم مع طبق رز أبيض، والدجاج المشوي مع الرز بالمكسرّات والزبيب.

هل هو نهم أم مجرد رغبة؟ شكّي تحول إلى احتجاج، قلت للشيف: لم أسألك يا معلم!

آسف.. أجاب ونظرَ إليّ نظرة كلها تودد أو رغبة مخفية، فالجميع بدوا مندهشين لهيبتي وجمالي، ثم توجهت إلى الصالة حيث قابلت الخادمتين، أبدو بشخصية قوية فيها بعض الليونة، لا يراودني خوف.. السلطة معي، لست سجينة بل موظفة في أهمّ جهاز بالبلد، أنا واحدة من مجموعة تجعل الناس يعيشون بأمان، مجموعة بأيديها أرواح المسؤولين وموظفي الحكومة، ذلك الهاجس سيظل يرافقني الى الأبد أو يجب أن يظلّ.

لم أرَ السيد بعد.

جلست في الصالة الفخمة بعد أن صرفت عمّال المطبخ والخادمتين، انتظرت دقائق، فسمعت خطوات على السلّم والتفتُّ فرأيته، لا يختلف شكله بالواقع عما رأيته بالصور، نهضتُ أفتعل ابتسامة فيها بعض الخَفَر، لم تكن مفتعلة؛ لكنه الحياء الذي يجتاح أية امرأة في مواقف كهذه.

اجلسي..

قال وقد انصرف إلى خزانة وأخرج مشروبًا ما ومسح الكأس جيدًا:

ـ الكثيرون يفضّلون الويسكي؛ لكنني مغرم بالبراندي.

وجلس ليسألني:

ـ أي شيء؟

ـ شكرًا لك.. لقد أكلت وشربت في المطبخ.

ـ ألا تشربين كأسًا؟

ـ لم أجرّب هذا من قبل.

ـ براحتك..

كرع كأسه بعجالة، ثم ملأ كأسا آخر وكرعه، وجعل يتلذذ ببعض الجوز وحبات الفستق.

وأظن أنه تخلى عن الإلحاح عليّ، لأن السيدة النقيب حذّرته من ألا يجبرني على أي مشروب لا أحبه، أو أن يستفسر عني وعن جريمتي؛ إذ أخبرتني أنها قالت له إني سجنت بسبب تهريب آثار.

بدأتُ أضع ساقا على ساق، وقد تركتُ فتحة الجلابية تكشف عن ركبتي:

ـ ميساء اسم جميل حقًا.

ـ شكرًا.

ـ الأفضل أن نصعد أليس كذلك؟

ـ كما تحب.

وضع ذراعه على كتفي، وبدأنا بالصعود ودخلنا غرفة نومه، أدار جهاز التسجيل على موسيقى هادئة، وجلس على حافة السرير، كان يكرع بنهم، سألته:

ـ هذا بيتك ؟ لم تتزوج؟

تجاهلتُ ما أعرفه، أو هكذا عليّ أن أفعل :

فضحكَ وقال وهو يمسح فمه بذراعه وراح صوته يتهدّج:

ـ لي بيتان وزوجتان.. لكنكِ شيء مختلف، أنتِ أجمل منهما، وأنا أحب أن أحصل على الأشياء الجميلة بتعبي، وليس بالطريقة السهلة كما هي الحال في الزواج! الزواج وظيفة نحن مجبرون عليها؛ على أية حال حين تنتهي مدتكِ، أستطيع أن أجد لكِ عملًا هنا في البيت، أو في أي مكان.

ـ شكرًا لك يا سيدي.

بدأتُ أتعرّى.. القرف دفعني إلى أن أتجرد من ملابسي بسرعة، مشهد الدم خطرَ بذهني، قالت لي السيدة النقيب: حبيبتي، والله لو فعلتِ مع امرأة لقتلتكِ، بعض الرجال التافهين لا يهتمون أن تفعل زوجاتهم ذلك مع نساء؛ لكنهم يعدّونه عارًا إن كان مع رجل، أنا بالضبط أفعل العكس.

لكن ذلك لا يمحو القرف من نفسي والغثيان.

...... رحتُ أتصور عوالم أخرى لأهرب من قرفي، ألوذ بمشهد الدم والمسدس بيدي، أتذكّر ذلك المشهد لأنسى هذا المشهد الذي أنا فيه ، ولا أنسى أن يتلاحق لهاثي ليظنني انسجمت معه.

أمثّل، قد أجيد التمثيل.

أقنع نفسي باللهاث الكاذب، والحركة المفتعلة، أني يمكن أن أكون ممثلة ناجحة.

........ حتى سكن وغلبه السكر ويده لا تزال فوق صدري، فأزحتها برفق وسمعت بعد لحظات شخيره، فلففت نفسي بثوبي وخطوت مسرعة إلى المنضدة حيث حقيبة يدي، ففتحت علبة المكياج واستخرجت القلم، رجعتُ بحذر إلى الفراش ورششت على أنفه، رشّة واحدة تنيمه ساعات، ثم تأهبت لعملي.

لا أحد سوى الحارس عند البوابة، والحرّاس الذين يراقبون في الخارج، ذهبت إلى المكتب فصورت الأوراق في الدرج، وإلى غرفة ملابسه فصورت أوراقا في جيوبه، صورت كل مكان ورجعت إلى الغرفة فصورته عاريا.

كانت شخصية النقيب تمنحني الاطمئنان والأمان، في هذه اللحظة شعرت أني أحبها وإني أنتقم فيقلّ نفوري.

أنتقم لنفسي من الخيانة. أشفي غليلي من دون أن أقترف جريمة قتل.

والقانون نفسه يحميني، فإذا ما تعثرت وجد لي ألف عذر وعذر.

أسبوع كامل أقضيه هنا، أحقق فيه كل يوم لي انتقاما جديدا، وزادني ثقة بنفسي أني رحتُ أضع كل ورقة وأي مستند أصوّره في مكانه، ولا أشك أنه سيستفيق ليعمل العمل نفسه معي مرة أخرى هذه الليلة، فارتحت للخاطر وعدت جنبه في الفراش.

في الصباح تركته نائما، استيقظت مبكرة قبل وصول طاقم المطبخ والعاملتين، رحت أراقب عن بعد وأوجّه كلا منهم إلى عمله، لا أدري هل يعرفون أنني محظية فيهابونني، أم تنقصهم المعلومات، كلماتي معهم مقتضبة وإشاراتي أوامر.

الشيف العربي حاول أن يتقرّب مني ويتودد إلي أكثر من غيره، قرأت رغبة مكبوتة في عينيه؛ لكنه لايجرؤ، لأن جمالي يبعث فيه هيبة أكثر من رغبة؛ ومركزي بصفتي مديرة المنزل في هذه الأيام يجعله أكثر حذرا، فيكتفي عن التودد بالكلام، بالتوسل، بالنظرة، وحين كنت في المطبخ جاءت الخادمة من الصالة لتقول لي إن السيد يطلبني، فذهبت وعدت أبلّغ الخدم أوامره، السيد خرج ولن يأتي للغداء، ليكن العشاء (قوزي)، هذا كل شيء، ثم قبيل الظهيرة دخلتْ عليّ وأنا في الصالة السيدة النقيب، وقفت.. فتابعها الجميع باهتمام، سألتني: أنتِ مدبرة المنزل المؤقتة؟

ـ نعم.

ـ السيدة ميساء القاضي.

ـ أجل.

ـ هل من الممكن أن أطّلع على هويتك؟

ـ خيرا!

ـ مجرد إجراء روتيني لتسجيلك.. أنت تعملين مؤقتا في منزل السيد رئيس غرفة التجارة المعني بالاستيراد والتصدير.

ـ إنها في الغرفة مع حقيبة ملابسي.

ـ لو سمحت.

تبعتني، وفي الغرفة سألتني بصوت منخفض:

ـ كل شيء تمام؟

ـ نعم.

ـ قلم أحمر الشفاه.

سلّمتها القلم، فأعطتني آخر، وأوصتني أن أنتبه، سألتها: هل تأتين غدًا؟

ـ كلا.

ثم علا صوتها وسط الصالة:

حسنا ربما يقرر السيد رئيس غرفة التجارة إيجاد عمل دائم لكِ، أظنكِ تقدّرين المسؤولية.

كنّا نجيد دورينا كأروع ممثلتين،عرفتها من قبل ممثلة رائعة، يوم عتّمت على علاقتي بها ، حين راحت تدعو إلى بيتها بحجة الخدمة مديحة وبعض السجينات، ولم أكتشف نفسي ممثلة إلا مع السيد رئيس غرفة التجارة.

في الليلة الثانية حدث ما كان في الأولى، ومع اقترابه منّي بدأت أغرق في ذكرى مشهد الدم، صرخت وتأوهت من الألم والقرف، فظنّني منسجمة معه، وزادني قرفًا...............

وهمس بأذني وهو في غاية الانفعال:

ـ ذلك ما لا تفهمانه، ربما الأولى تظنه حراما؛ لكن الثانية لِمَ ترفض!

وقبل أن يغفو قال: سأضطر الليلة القادمة إلى أن أغيب عند إحدى زوجتي.

دفعني فضول:

ـ الأولى أم الثانية؟

ـ الأولى.

ستكونين وحدكِ وسأعود بعد غد، لا أدري.. هناك، الحياة مملة باردة؛ لكن عليّ أن أذهب إليها.

تجرأت بسؤال آخر:

ـ ألا تسألانك عن غيابك؟

ـ أووه.. أنا لست هنا، بل إنّي في عمل سري، أو مهمة بمدينة أخرى، ثم لمَ تسألان، كل واحدة منهما لها قصر وخدم، سفر وحياة بذخ، لو سألت لقطعت لسانها.

وحين غفا رششت على أنفه من البخاخ، وخرجتُ أصور لعلني أعثر على وثائق جديدة.

لم أبال بالوقت، وأعرف أن الحرّاس يحومون خارج البيت، هناك كاميرا تنقل حركات الخارح في غرفة النوم، أما الصالة والغرف الأخرى، فتخلو من أية مراقبة، ولولا معرفة جهاز المخابرات بالأمر، لما كلفوني بالتصوير، قد يكون الجهاز نفسه قام بتأثيث البيت، وركّب أجهزته من خلال بنّاء يعمل لمصلحتهم.

في المكتب كانت الكاميرا التي تنقل خطوات الشارع مفتوحة؛ لكنه حين يمارس معي يطفئ كاميرا المراقبة، وأظنني تصرفت تصرفا حكيما حين أنهيت عملي بشكل متقن خلال الأيام الثلاثة الأولى، أما في الليلة الرابعة فقد ادّعيت أن الدورة الشهرية حلّت، فكفّ عني، قال إنه في الليالي القادمة سيذهب ليبيت عند زوجتيه ويعود إلى منزل الضيافة في النهار مع ضيوف أجانب، فكلّفت الشيف العربي بعمل الطعام وأشرفت كأنني مديرة منزل حقيقية على كل ما قام به.

عندما جاء الضيوف رافقت العمال إلى الصالة، فوقع بصري على رجل وامرأة أجنبيين، كان الرجل أبيض أحمر الشعر، والمرأة بيضاء طويلة القامة ذات شعر أشقر، كانوا يتحدثون على المائدة بلغة إنجليزية؛ لكنني توقعت أن هناك صفقة تجارية، وفي المساء كنت وحدي، فاغتنمت الفرصة ودخلت المكتب، لا أدري لمَ راودني هاجس خوف، ربما لأنني وحدي.

كنت أشعر بالأمان معه، وإن كان غائبا من سكر ومخدرا، فتحت الدرج، فوقع بصري على وثائق جديدة باللغة الإنكليزية، فصوّرتها وعدت إلى غرفتي، وقد شعرت بالندم لأنني لم أتمكن من تصوير الأجنبيين، وفي اليوم التالي جاء ثلاثة ضيوف أجانب، وقد سهّل عليّ مهمتي أن الثالث كان مترجما يتحدث اللغة العربية بلكنة واضحة، غير أنه متمكن من اللغة؛ كانوا من ألمانيا.

أمرتُ العاملتين أن تدخلا قبلي بعربة المشروبات، ووقفت في زاوية خلف الباب كأنني أراقب العاملتين من دون أن يراني أحد، أخرجت قلم أحمر الشفاه كأنني أعدّل منظري، مررت القلم على شفتي في الوقت نفسه ضغطت على نقطة ما أسفله، لم يراودني خوف، بل شعرت بالفخر، واستشفيت من الحديث أنه كان عن تصدير سلع ما إلى بلد صديق لبلدنا بوساطته، على أن لا تتعامل الدولة الصديقة مع شركة غير تلك الشركة لعقد من الزمن، وله مقابل ذلك عشرة بالمائة من الجانبين، وستمر البضائع ببلدنا، كون العلاقة بين الدولة الصديقة وألمانيا متوترة، أما فيما يخص بلدنا فقد راح السيد رئيس غرفة التجارة يتحدث عن سلعة أخرى ونسبة من الأرباح لمدة خمس سنوات.

اتفقوا على أن يوقعوا عقد الصفقة صباح الغد في وزارة التجارة، وتعهد بأن يراجع النصوص الليلة قبل أن يوقعها غدًا، هذه فرصتي؛ لكن هل يبيت عند إحدى زوجاته؟عليّ أن أتصرف بحكمة.

لو قرأت الغيب لما ادعيت أن الدم غزاني، ومثلما توقعت عاد وقت الغروب، عرفت أنه ترك الأوراق في المكتب، وأنني لن أستطيع الدخول بوجود خدم البيت، هذا المنزل للعهر وعمل الصفقات، وظيفتي أن أنقل للسيدة الضابط ما بداخله.

حين عاد، كان البيت خاليا من العاملات والطباخ، دخل المكتب، فانتظرت لحظات ثم طرقت الباب فسمعت صوته يناديني:

ـ هل من شيء؟

ـ أتحبّ أن أعدّ لك كأسا؟

ـ سأنهي مطالعة الأوراق وأشرب كأسًا أو كأسين وأرقد، ففي الصباح لديّ مؤتمر.

بقيت أنتظر، ثم ذهبت إلى غرفتي وغيرت ملابسي، ارتديت قميصا ورديا شفافا، تأنقت وتعطّرت وبالغت في إظهار أنوثتي، ورجعت إلى غرفته، ووجدته يشرب:

ـ قد تحتاجني؟

تطلع فيّ وقال مبتسمًا:

ـ لكن....

ـ لم أرد أن أكذب عليك، في البدء خيل إلي ذلك، ثم تيقنت أنه لا شيء.

بقي صامتا برهة وقال وهو يجذبني إليه:

ـ حقا الصدق شيء جميل، يبدو أنكِ مظلومة.

هذه المرّة وجدته ترك الأوراق على المنضدة.

كنتُ في غاية السعادة بعد قرف اللقاء، وكانت حبيبتي النقيب فرحة بإنجازي وقد استقبلتني عند باب القصر في المساء، لم تدخل ووعدتني أن نخرج غدًا إلى المصرف، لتدخل المبلغ الذي جاءني في مظروف من السيد رئيس غرفة التجارة في حسابي.

قضيت ليلة معها وكنت أشعر بالفخر، قبّلتها وسألتها:

ـ ألا تشعرين بالغيرة لأنني كنت مع رجل؟

ـ لو حدث ذلك مع أخرى لقتلتكِ.

ـ وماذا بعد؟

ـ أضع رصاصة في رأسك وأخرى في رأسي.

ـ اطمئني لن أخونكِ، محال، فأنت لي الوجود كله!

فنفثتْ الهواء بعمق وعقبّت:

ـ لا تظني أنكِ جاسوسة أومخبرة.. أنتِ مثلما نقول رجل أمن، سيدة أمن، وقد جعلتِ شعبة الأمن الوطني تطّلع على أسرار كثيرة، غير العري، سيفاجئون السيد رئيس غرفة التجارة بها حين يشعرون أنهم لا بد من أن يزيحوه.

فضحكتُ وقلت: السيد رئيس غرفة التجارة!

ـ الوقح يعقد صفقات لدول أخرى بأرباح من الطرفين.

ـ هل تظنين أنه سيطلبني مرة أخرى؟

ـ هذا ممكن إن كانت مديرية الأمن بحاجة ماسّة إلى ذهابك، هذا عمل أمني يقرره السيد كبير الدائرة.

وفي صباح اليوم التالي صحبتني إلى المصرف، ثم عدنا إلى البيت، فتركتني حتى رجعت من العمل، وكنّا دائما نقضي ليلة ساخنة إلى أن يطلّ الفجر، فتعود بي مكبلة إلى السجن.

***

ذكرى لعيبي – قاصة / ألمانيا

في نصوص اليوم