نصوص أدبية

آسيا رحاحلية: المعتوه وظلّه..

- لنبدأ من البداية أو من ما بعد البداية بقليل.

يتمتم سعيد المعتوه / هكذا كان أهل المدينة ينادونه.. / وهو يحفر الأرض المتربة عند قدميه بغصن شجيرة رفيع، يشكّل في التراب، رموزاً ويمدّ خطوطاً متوازية ومتقاطعة بأشكال غريبة.. يبدو أنه التقط الغصن من الشارع في طريقه إلى مكانه المعتاد حيث يقضي الساعات الطوال، خاصة حين يكون الجو دافئا والشمس مشرقة، كما هذا الصباح من صباحات الربيع.

ـ البدايات ليست مهمّة حقا، كلها متشابهة، في زمان ما، ومكان ما، تشقّ سطح الوجود بذرة ما، وتنمو. الأمر غير مثير، حدث ملايين المرات ويحدث وسيحدث إلى أن ينقضي الوجود، الأهم هو الذي يأتي بعد ذلك.

يعتدل سعيد المعتوه في جلسته، يسند ظهره جيّدا للجدار. تسقط أشعة الشمس مباشرة على جسده النحيل، ووجهه المتغضّن. تبدو لحيته المهملة الشعثة كقطعة صوفٍ اجتثّت من ذقن معزاة.

كان على محيّاه ظلّ ابتسامة ساخرة.. تناقض لمحة الجدّية الممدّدة فوق جبهته.

ـ ركّز معي. لنفترض بأننا مثلا، أنت وأنا نقرأ رواية هذا الكائن الغريب الذي هو أنا. أليست الحياة رواية؟ أليس كل واحد منا رواية مصغّرة في رواية ضخمة هي الحياة؟ حسنا. لنفترض بأننا نقرّر إعادة كتابة روايتنا من جديد.. من نقطة فيها، من الصفحة الثلاثين مثلا أو الـخمسين. سنجعل لها نهاية مختلفة ومثيرة.. دعنا نعتبرها تسلية لي ولك، في هذه الصبيحة المشمسة المملّة.. لنقل أنها نوع من قتل الوقت، عوض الجلوس أمام التلفاز أو التسكّع في ممرات المدينة أو التفكير في أمور لا جدوى من التفكير فيها مثل: ماهية الحياة وحقيقة الموت. ألست مثلي تفكر أحيانا في جدلية الوجود والفناء؟

ـ أنا أفكر فيما تفكر فيه أنت.. ألستُ ظلّك؟

ـ نعم.. ظلّي، ولكني رجلٌ متفهّمٌ، واسع الرؤية.. يمكنك أن تتحرّر مني، وأن تفكّر كما تشاء وفيما تشاء..أمنحك حرية التفكير ولو أنّي لا أقدر أن أمنحك حرية الحركة.

ـ أخشى بأنني تعوّدت أن أكون ظلاّ، ولم تعد حريتي تعني لي الكثير خارج إطار حريّتك..ثم ما جدوى التفكير لمسمارٍ ثابتٍ في خشبة؟

ـ انس أنك ظلّي وشاركني الكتابة..لا يهم إن اختلفنا وأعدك.. جميع حقوقك ككاتب ستكون محفوظة وسيكون لك نصيبٌ من الجائزة.. اتّفقنا؟ اسمك أيضا سيظهر على الغلاف..تخيّل معي الغلاف الأنيق.. والكتابة بخط جميل كبير: رواية سعيد وظلّه.. أليس الأمر رائعا ومثيرا للحماس؟

ـ حسنا.. لنبدأ، لكنك سبق وأن قلت إنّ البدايات ليست مهمة بقدر النهايات.. هل معنى هذاإنّه يمكنني الحلم بنهاية مختلفة حتى ولو بدأتُ ظلا؟

ـ نعم.. سنكتب روايتنا دون اعتبار البدايات المألوفة، ولن نأخذ بالرأي القائل بضرورة تلاؤم البدايات مع النهايات.لا أذكر أين قرأت هذا. ذلك لا يحدث. هي لا تتلاءم دائما. هناك من يبدأ على اليابسة وينتهي في البحر، ومن يبدأ في القمة وينتهي في مستنقع، وهناك من يبدأ ولا ينتهي أو ينتهي قبل أن يبدأ !تعتقد بأنّي أهذي؟ لا عليك. ركّز معي..لنترك ما قبل البداية وما بعد النهاية للقرّاء.. لخيالهم لا يجب أن نفسّر كل شيء. على القرّاء أن يستعملوا مخيلاتهم وذكاءهم.

ـ قرّاء؟!

ـ طبعا.. سيكون لروايتنا قرّاء كثر، مميّزون، سيكونون من النخبة. سترشّح روايتنا لجوائز محلية وعالمية. و قد تفوز بالبوكر العربية، من يدري..

ـ بوكر؟؟

ـ نعم..

ـ تقصد " أبو كَرْ "؟

ـ لا.. لا.. بوكر.. بووووكر.. مسابقة عربية ولكنها ليست عربية.. لها قائمة قصيرة وأخرى طويلة.

ـ عربية وليست عربية، طويلة وقصيرة؟! بصراحة لا أفهمك.. لمَ لا تذهب وتجلس في الظل، يبدو أنّ الشمس أتلفت عصباً في دماغك.

ـ لو جلستُ في الظلّ سأكون بمفردي وتهرب أنت منّي كما كلّ مرّة..لماذا لا نكون معا دائما في الشمس وفي الظل؟ دعك من هذا.. أنا أصرّ بأن تشاركني كتابة هذه الرواية.. سيكون لها شأن كبير.. ولكن يشغلني أمر مهم.. هل ننهي روايتنا بموت البطل؟

ـ الذي هو أنت يا سعيد؟

ـ نعم.. ألا تراها فكرة جيّدة؟

ـ لا أعتقد.. سيصاب القراء بخيبة أمل.. الأبطال لا يجب أن يموتوا.. عليهم أن يبقوا أحياء لكي ينقذوا العالم من الخراب والشّرور.. سمعتك تقول هذا ذات يوم.

ـ غيّرتُ رأيي.. بالعكس.. لا يموت سوى الأبطال في عالم الجبناء.. لذلك الشرور لا تنتهي.. لا تتغابى يا هذا!.

ـ هناك مشكلة.. لو قتلتَ البطل، أقصد قتلتَ نفسك؛ فسأموت أنا أيضا، ولن أحقّق حلمي بأن أتحوّل من ظلّ إلى إنسان، كما فعل ظل هانز اندرسون.

ـ اصمت.. لا تذكّرني بذلك الظل من فضلك، ولا تقارن نفسك به.. أنت تعلم إنه تسبّب في موت صاحبه بعد أن أخذ مكانه.. أنت لن تصبح أنا، لن تفعل بي ذلك صحيح؟ وأنا لن أكون أنت.. ثم.. ثم.. أتوقّع بأنّك ستعيش بعدي لسنوات عديدة، وستحقق حلمك. الآن.. ركّز معي لنكتب الرواية. أين أنت؟ هل غادرت؟

كانت غيوم خفيفة بلون رمادي فاتح قد غطّت السماء فجأة.

و بدأ يتساقط المطر.. مطرٌ ربيعيٌ منعش.

يهرول سعيد المعتوه جيئة وذهابا وهو يتمتم:

ـ لم ننه روايتنا بعد.. بل لم نبدأها.. أين أنت؟ أين أنت؟

ومن طيات قميصه الرثّ انفلتت ورقة جريدة صفراء تكفّلت نسمة الربيع بحملها إلى كومة نفايات مركونة في إحدى الزوايا..

على الورقة التي بدأ البلل يفسّخ حروفها عنوانٌ بخط عريض:

" عبقري الفيزياء ؛ سعيد أحمد الناجي..من الذرّة إلى الإبداع الأدبي."

***

آسيا رحاحلية

من مجموعة تدق الساعة تمام الغياب 2016

في نصوص اليوم