نصوص أدبية

مريم لطفي: ربيع الذاكرة..

قد كانَ للوطنِ نكهات أُخر

وللشمسِ دفء أوفر

وللقمرِ سطوع ساحر

وللصغارِ ضحكات كما الهدير

وللناس روح ونفس وضمير

ولليالي سحر آخر

وللهواءِ عطر وعبير

ورائحة الهيل تملأ الأزقة الطويلة

وتلك الاضواء المتقدة وقت الغروب

رائحة الشواء

زحام المارة

ورصيف الجسر الصغير

وانتشار الباعة المتجولين على طرفي الشارع

يحيون الحياة وكأنها مولد كبير

وللسوقِ المسقف وقفة واستذكار

بكلِ مايُعرض هناك من سمكٍ و فاكهةٍ وخضار

والاحاديث والاسعار كل له نغمة وانبهار

وبائع عرق السوس

تطرب لصوتِ أقداحه النفوس

وصوت السماء

صوت الاذان

وأجراس الكنائس لها عزف فريد

وصلاة العيد..

وللعيد..وقفات وأخرى

وأحاديث وروعات

من ملابسه التي باتت معنا ليلتها

الى صباحاته الملآى بوجوه الاهل و الاحباب

وكعكه اللذيذ والعيدية ومدينة الألعاب

واللعب بالأرجوحة والدولاب

بصحبة الوالد وروحه المرحة التي ترافقنا

صعودا ونزولا مع دوران الدولاب

وتجمع العربات لنقل الصغار

يزيدها إقبالا ربل الحكايات

بكل أنسه يملأ الاعياد

كأنه عرش من آلاف الليلات

نلعب ونلهو ونشتري الابتسامات بلاثمن

والفرح لايسع القلوب الصغيرة

وينتهي اليوم وليته لم ينتهِ

ويأتي يوما آخرا

يوم مدرسي

يبدأ بالذهاب إلى المدرسةِ

لقضاءِ الدروس واستعراض الطقوس

فللمواهبِ طقوس..وللحكايات طقوس

ولاستعراض الملابس طقوس

وللعب هوس ينسينا الدروس

ويجعلنا نفكر فقط بقدوم الفرص

وينتهي التفكير بدق الجرس

ففيها الطعام وفيها الكلام

وفيها الخلاص من القيود

وينتهي الدوام ويبدأ الخروج والتدافع

وكل واحد له ثأر ينتظر عند البوابة بجمع غفير

لنيل مالم ينله بوجود المعلم والمدير

ويزدحم الباعة المتجولين قرب المدرسة

فهذا يبيع الكعك والفطير

وذاك ينادي شعر بنات

أما عربة اللبلبي فكان لها وقع خاص

وتزاحم ليس له مثيل

وصوت الاواني والملاعق

والدخان المنبعث منه يعمل غيوما سابحات

تسافر بعيدا وتختفي بالضباب

وفي الطريق الى البيت

الكل يستعرض المهارات والعضلات

وتنتهي المغامرات بالدخول الى البيت

فالاسرة مكتملة تنتظر الغداء

وتتكور حول المدفأة النفطية بشوق كبير

فالبرد قارص وليس هناك أدنى احتمال

ألا يكون هناك غداء

نتناول الطعام ونأخذ دفئا مشحونا بالحب والاسترخاء

وإبريق الشاي على المدفأة يصفر ويصفر

ويخرج من فوهته دخانا كأنه قطارا بخاريا محملا بالاثقال

أثقال اليوم كله..

وبعد الغداء قد حانت القيلولة

وعليك أن تنام..شئت أم أبيت عليك أن تنام

تعد الخراف..تعد النجوم عليك أن تنام

وتنامُ صاغرا بعد جهد وعناء

ويأتي العصر ليستفيق الجميع لصوتٍ بعيد ينادي

أسكيمو..أسكيمو

هكذا كانوا يسمون المرطبات أيامها

هلموا..هلموا ياأولادي

فيركض الاطفال حيث بائع المرطبات

فهذا يريد طابوقة

وذاك يريد قمعا

وآخر يفضلها بالقدح

وبعد قليل تأتي بائعة اللبن

تضع صينية على رأسها

مملوءة بأوانٍ صغيرة  وتنادي

زبادي..زبادي

تتسارع الامهات نحوها لتشتري

وهذه فرصة لتبادل الاحاديث والسجال

كيف حالكِ وكيف حال الاولاد

وأيضا كيف حالك وحال الاولاد

فكل يعطي حديث وكل يعطي كلمة

والكل يضفي على التجمع بسمة

والصغار يلعبون بالمحلة بالعاب شتى

ففريق يلعب بالكرات البلورية

حيث تتبارى الكرات الملونة الى حتفها متسارعة

لحفرة صغيرة حيث الفوز بانتظار صاحبها

وبعضهم يلعب بالطائرات  الورقية

حيث تحلّق أحلامهم مع الطائرة بعيدا

ووسط الطريق ينقطع الخيط

ويبدأ الصراخ واللعنات

قد طارت هناك ..على هوائي ذلك البيت

أو ربما حملتها الرياح مع الامنيات

بينما ترسم الفتيات على الارض لعبة الحنجلة

بمربعاتها الاربعة أو التسعة

وتبدأ احداهن بالحنجلة على الخطوط

والاخريات يتمنين أن تدوس على الخطوط

فهذه المهارة قد تؤدي الى الخسارة

وتتفرق الحشود بقدوم سيارة الدخان

ترش السموم لقتل البعوض

فيتشبث بها الاولاد وكأنها ترش عليهم العطور

ويصيح عليهم عامل السيارة

اليكم عني أيها الاولاد

إذهبوا بعيدا فهذه ليست شطارة

إنه دواء يقتل الحشرة

اذهبوا بعيدا عليكم اللعنة

وشيئا فشيئا تختفي السيارة مع الضباب

ويتفرق الجميع فقد حل المساء..

وبدأت الامهات تنادي الاولاد للدخول الى البيت

فقد حان وقت العشاء

وقد حان وقت الصعود الى السطوح

وللسطوح حكايا وحكايا

مازالت محفورة بالروح

تبدأ من رش الماء على الارض

الى القفز والتنطيط على الاسرّة الباردة

ومباراة قذف الوسائد

والامهات تطارد الاولاد ليكفوا

وترتفع الضحكات والاصوات

ثم تبدأ حكايات الجدات

كان ياماكان في قديم الزمان

ويتسلل النعاس ليخطف الأجفان

ويعم الصمت بعد الهيجان

فقد استسلم الكل للنوم وانتهى اليوم

جميلة كانت الحياة لانها كانت حياة

وكنّا نظن إنها ستستمر هكذا

ببردها ودفئها وكل التفصيلات

وحتى الناس خلنا إنهم باقون الى الابد

فكل الحياة كانت تنبض بالحب

وكل الباعة كانوا يهبون الحب

وكل شئ  كان ينبض بالحياة..

***

مريم لطفي

....................

*هذا نزر يسير من أيام خلت كانت ومازالت تحتل ركنا نفيسا من الذاكرة..

* اللوحة بريشة الأديبة: مريم لطفي

في نصوص اليوم