نصوص أدبية

نصوص أدبية

سحبني من نومي في آخر الليل طرق على باب شقتي الصغيرة. فتحت عيني ثم اغمضتهما، لعلّ الطارق يخجل على نفسه ويدعني اواصل نومي الجميل في تلك الليلة الليلاء، إلا أن الطرق ما لبث أن تواصل. عندما ايقنت أن الطارق معنّد ولن يفكّ عنّي.. فكّرت في أن أفتح الباب له. إلا أن سلطان الكرى ما لبث أن الحّ علي غامزًا بعينه.. نم يا رجل.. نم الآن.. والصباح رباح. تواصلُ الطرق دبّ فيّ نوعًا مِنَ القلق، هل حصل شيء للأحباء وجاء مَن ينذرني؟ هل خشي علي محبّ أن أقضي في شقتي الوحيدة ولاحقه كابوس رأى فيه أنني أموت ويتحلّل جسدي في شقتي الوحيدة دون أن يعلم بي أحد؟.. هذه الاسئلة دفعتني إلى نوع من اليقظة.. فتحت عينيّ وسط تواصل الطرق، وكان لا بدّ هذه المرّة من المواجهة فإما.. وإما.. توجّهت نحو باب شقتي. دون أن أفتح الباب سألت مَن الطارق؟ فأجابني صوت انثوي.. إفتح الباب.. اعتقدت أنها إحدى الجارات.. أو إحدى الصديقات جاءت تطلب المساعدة في أمر ضروريّ لا يحتمل التأجيل، فبادرت إلى فتح الباب. رفعت نظري في صاحبة ذلك الصوت لأفاجأ بأنثى أشبه ما تكون بالملكة، بل هي ملكة تضع على رأسها التاج وتتراقص قُبالتي:

- مَن أنت سألتها؟ فردّت: أنا السيّدة كورونا.. ألا ترى علامتي المميّزة على رأسي؟.

ما إن سمعت كلماتها هذه حتى بادرت إلى إغلاق الباب، غير أنها دفعته ودخلت غصبًا عنّي، تراجعت إلى الوراء وأنا أشعر أن بدايتي انتهت، وأن كلّ أحلامي في كتابة القصص وإقناع العالم كلّه بأن تشيخوف آخر ظهر في الناصرة.. ذهبت أدراج الوهم.

جلست السيدة كورونا على مقعد قُبالتي، وغمزت لي بعينها سائلةً:

- ممَ أنت خائف؟ ما أنا إلا زائرة.. قد أمكث عددًا منَ الايام معك هنا في شقتك الدافئة.. بعدها قد أرحل.. وتختفي آثاري إلى لا رجعة.

- ماذا تريدين منّي أيتها السيدة.. قلت وأضفت مرسلًا نحوها نظرةَ توسّل: ألا يمكن أن تكوني أخطأت الطريق؟ ودخلت شقّتي بطريق الصدفة؟

عندها أخرجت دفترًا من تاجها وتمتمت قارئةً فيه.. ورفعت رأسها غارسة عينيها في عينيّ الوجلتين الخائقتين:

- ألست ناجي ظاهر.. الكاتب المعروف؟

التقطتُ كلمة المعروف من فمها وأهملت اسمي في محاولة منّي للنجاة بجلدي. قلت لها:

- أما انني ناجي ظاهر فهذا صحيح.. وأما أنني أنا الكاتب المعروف.. فإنني لا أعتقد.. أنا أشعر بأن حضوري وغيابي لا يعنيان أحدًا.

ضحكت السيدة الجالسة قُبالتي:

- لنتّفق أولًا.. الست ناجي ظاهر؟

هززت رأسي مُوحيًا إليها أنني أنا ناجي ظاهر بلحمه وشحمه. ضحكت الزائرة:

- إذا وافقتني على أنك المقصود من طلعتي هذه الليلة الشتوية الباردة. بإمكانك أن تترك لي أمر أنك كاتب معروف أو غير معروف. فأنا مَن يقرّر هذا الامر وليس أنت.. يا كاتبنا الجميل.

ما إن سمعت كلماتها هذه حتى انتابني شعور بالنهاية.. غلى الدم في عُروقي.. شعرت برعدة تزلّزل أركاني.. توجّهت إليها:

- والآن ماذا ستفعلين بي أيتها الملكة المبجّلة؟

افترّ ثغرُ السيّدة الزائرة عن ابتسامة حفلت بكمّ هائل من السخرية. نهضت من مكانها وسط تجمّد أطرافي خوفًا منها. دنت منّي. ربّتت على كتفي:

- لا تخف. كلّ ما أرجوه حاليا هو أن يتّسع سريرك الضيّق لاثنين، أنت وأنا، سأمكث هنا في زيارتك، فإما أن آخذك معي بعد فترة مِن الزمن وإما أتركك تواصل كتابة القصص.. وأمضي في طريقي عائدةً من حيث أتيت. وباحثة عن صيد أسمن منك.

- لماذا لا تتركيني الآن وتذهبي في حال سبيلك؟ لماذا لا تختصرين عليّ أحمالًا تنوء بحملها الجبال مِن الهموم؟ هتفت بها، فابتسمت مرةً أخرى:

- تروّ يا صديقي.. تروّ قليلًا لا تكن متسرّعًا عجولًا.. سأمكث معك هنا في هذه الشقّة الوحيدة المشوّشة.. سأقوم باصطحابك فترة مِن الزمن.. فإذا انست إلى صُحبتي أخذتك معي وأرحتك من هذه الهموم التي تعيشها ليل نهار، أما إذا عرفت كيف تتعامل معي.. فقد أدعك لمواصلة أحلامك الفارغة.

قالت هذه الكلمات دون أن تترُك لي مجالًا للرّد عليها.. طلبت منّي أن استرخي على سريري.. وعندما فعلت مدّت يدَها إلى جانبي موحية لي أنه لا مفرّ أمامي مِن إفساح المجال لها لأن تنام بقربي وإلى جانبي. استلقت إلى جانبي.. وأغمضت عينيها فأغمضت عينيّ.. بعد قليل فتحت عيني لعلّي أكتشف أن كلّ ما حدث حتى تلك اللحظة ما هو إلا أضغاث أوهام، إلا أنني فوجئت بها تتحرّك إلى جانبي وتفتح عينيها.. عندها أيقنت أنني أعيش لحظات قد تكون الاصعب في حياتي الصعبة أساسًا.. فزائرتي.. تلتصق بي كلّما مرّت لحظة.. أكثر فأكثر.. ورغم محاولاتي الهرب منها كانت تُفلح في كلّ مرة في الالتصاق بي.. الغريب المُريب أنها كانت تفلح في كلّ اقتراب لها.. في حين أنني كنت أفشل في المقابل..

عند هذا الحدّ شعرت بالنعاس يهاجمني مِن كلّ جهة وناحية، وكان لا بدّ لي من النوم. فنمت..

كانت تلك من أصعب الليالي في حياتي..

فتحت عينيّ بعد ثلاثة أيام من النوم والمُعاناة.. لأجد نفسي أطلق السعلة تلو الاخرى.. وليأتيني صدى سعلتها إلى جانبي مُماثلًا لسعلتي.. في كلّ شيء.. لقد باتت السعلةُ واحدةً.. والتنفسة الضيقة واحدة.. موحدة.. هل انتهى كلّ شيء. لا أعرف.. لأنتظر.. ماذا سيحدث ولأكن يقظًا كعادتي.. فأنا اؤمن أنه لا يُطلب منا أحيانًا في لحظات القسوة خاصة.. إلا أن نمرّر الوقت.. لأمرّر الوقت إذن ولأنتظر لحظة الفرج.. لأتخلّص مِن زائرتي .. ضيفتي الثقيلة.

في الليلة التالية في الهزيع الاخير منها.. سمعت طرقًا خفيفًا على باب شقّتي. شعورٌ غامر بالأمل والتساؤل حملني لأن أتوجّه إلى الباب. رفعت رأسي.. رفعت السيّدة الزائرة رأسها. مشيت نحو الباب فمشت إلى جانبي. إلا يمكنك أن تتركيني أيتها الثقيلة ولو لحظة واحدة؟ الغريب أنها هزّت رأسها علامة الرفض.. لا لن أتركك.. إلا عندما تنجح في الامتحان فإما تُكرم بالحياة وإما تُهان بالموت.. طيّب سنرى أيتها الزائرة. سنرى.. على كلّ لنرى مَن يطرق بابي الآن.. سمعت طرقة أخرى على الباب.. فعرفت مَن الطارق.. أنا أعرفها.. أعرفها مِن طرقتِها اللطيفة.. خمسون عامًا مضت عليّ وأنا استمع إلى طرقتها.. إذن هي القادمة.. هي .. هي.. هي.. قصتي الرائعة الجميلة.. مددت يدي إلى اكرة الباب وكلّي أمل أنها هي.. وأتاني صوت زائرتي أشبه ما يكون بفحيح أفعى توشك أن تختنق:

- لا تفتح الباب لها.. شقّتك الصغيرة المشوّشة لا تتّسع لاثنتين. إذا كانت القادمة أنثى سيكون عليّ أن أذهب.. لا تفتح الباب.

شعور بالقوة والامل يجتاحان اطرافي.. هل أتى الفرج بتمرير الوقت؟ ما أذكاك يا ناجي ظاهر.. عرفت كيف تدير المعركة أخيرًا.. قصّتك ستخلّصك مِن ضيفتك الثقيلة.. ما أحلى هذا.. آه ما أحلاه.. ومددت يدي بسرعة غريق طرق بابه أمل الخلاص.. مددتها إلى اكرة الباب.. وفتحته بكلّ ما لديّ من قوّة وحُلم.. لتدخل تلك.. ولتخرج هذه.. الزائرة الثقيلة.. بل اللعينة..

***

قصة ناجي ظاهر

 

(شكوى الحمزةُ إبْنُ وائِلَ إلى ولاةِ الدمِ)

ياربُّ عفْوَكَ إنْ أتيْتُكَ سائِلا

كَرَماً تُؤازِرُ في الشدائدِ وائِلا

*

لا عَدْلَ مابينَ الخلائقِ في الورى

فَقَصدْتُ خالِقَها الرحيمَ العادِلا

*

هاهُمْ وُلاةُ دمائِهم في سَكْرَةٍ

وَصَفوا القَتيلَ بِما يُريحُ القاتِلا

*

ربّاهُ قد غَدَرتْ أعاريبُ الحِمى

فَغَدا المُصابُ على رِجالِكَ هائِلا

*

تَتْرى على جَسَدِ الجريحِ نوائبٌ

لِيُذيعَ جَوّاً بالدِماءِ عَواجِلا

*

نَفَثوا صواريخَ الضغينةِ والخَنا

حِمَماً على فِلْذاتِهِ فَتَمايَلا

*

مَنْ هَوْلِ عَصْفِ الريحِ عندَ هُبوبِها

ثُمّ استوى جَبَلاً مَهيباً ماثِلا

*

وأراهُ يدفنُ صابراً أشلاءَهمْ

لتصيرَ أوقاتُ العَزاءِ فَواصِلا

*

أجُبِلْتَ من لُبِّ البَسالةِ والفِدا

لَتَصدَّ عن مسرى الرسولِ نَوازِلا

*

بِفِدائكَ الطوفانُ أصبحَ شُعْلةً

فَضَحتْ لِغافِلَةِ الأنامِ أراذِلا

*

قَطَعوا براعِمَكَ الفَتيّةَ إنّما

ماإنْفكَّ صوتُكَ في الفضاءِ زلازِلا

*

وَأخالُ حَمزةَ يرْتقي أُحُداً وقد

شَهَروا على كَبِدِ الشَهيدِ مَناجِلا

*

ياهِندُ قد شَهِدَ الغُرابُ على التي

حَمَلتْ بمكنونِ الفُؤادِ غَوائلا

*

وَتَهونُ طعناتُ الرماحِ على الفتى

وتظلُّ طعناتُ الرِياءِ نواجِلا

*

لم يبقَ غيرُكَ ياإلهي موئلاً

فَلَقدْ نَعينا في الفلاةِ مَوائلا

*

أبَتاهُ إنّي كافِرٌ بِعروبَةٍ

عَجَزتْ ترينا في الوقيعةِ صائلا

*

أفنيْتُ عُمْري عاشِقاً لِعُروبتي

وَلِأجْلِ عَيْنيْها هَجوْتُ عَواذِلا

*

واليومَ جِئْتُكَ تائباً مُسْتغْفِراً

عن عِشْقِ سلمى موطِناً وَقَبائلا

*

طَلَلٌ تَهاوى خَلْفَ ذاكِرتي سُدىً

مُذْ هَدّموا فوقَ الفُؤادِ منازِلا

*

خانوا الرِسالةَ يومَ أن بَعَثوا إلى

تلكَ اللقيطةِ في الظلامِ رسائلا

*

يَرْجونَها مَحْواً لِغَزّةَ هاشِمٍ

مَعَ كُلِّ مَنْ حَمَلَ اللواءَ مُقاتِلا

*

أتَهاوتِ الغاياتُ ياابْنَ أرومتي

حتى ترى في الأرْذَلينَ وَسائِلا

*

أبَتاهُ عُذراً إنْ هَجرْتُ عُروبَتي

ماعُدْتُ في نَغَماتِها مُتَفائلا

*

دَهْراً تُلَقّنَني شَمائلَ قومِنا

وَلَكمْ أضاعوا ياحَبيبُ شمائلا

*

تَرَكوا الثَكالى في العراءِ مواكباً

وكذا اليتامى في الهباءِ قوافِلا

*

أَتَهبُّ من كُلِّ الديارِ أعاجِمٌ

وَنَرى ذَوي القربى النِيامَ هَياكِلا

*

يختالُ طاغيةُ البلادِ خيانةً

حتى يرى في العاصفاتِ جَحافِلا

*

وَتَكادُ تشتعلُ المدائنُ في الدُنا

مُستهجنينَ مجازِراً وَمَهازِلا

*

عجباً نرى عَرَبَ البلادِ تقاعَسوا

والشعبَ في بلداننا مُتَثاقِلا

*

ياخاذلينَ كِرامَهمْ حينَ الوغى

وَيُلومُ منكمْ خاذلٌ مُتَخاذِلا

*

وَغَداً يُباهِلُنا الذي بَذَلَ الدِما

أكْرِمْ بمن خَبِرَ الجهادَ مُباهِلاً

***

د. مصطفى علي

 

عُدتُ الى ضفتنا

كل شيء كما هو

المقعد الفارغ

السياج الواطئ بوشاح النبات المتسلق

بضع وردات وحيدات

الإوزة البيضاء والنهر بمصابيحه الراقصة

أصوات السكارى الطيبين

حتى أناقة المساء بصحوه الخجول

بدتِ الأشجار واثقةً في الحديقة

كما أثق الآن بوحدتي

قلَّدتُ جلستنا وتحدثتُ مع الهواء

أيقنتُ بأن حمامةً تراقبني

تغفو وتُسِرُّ لنفسها

الشعراء يفشلون في استعادة اللحظات الهاربة

يطيلون الموت عند الذكريات

و ينجحون في السكوت عندما تحدثهم القصيدة

كل شيء هادئٌ هذا المساء

أيها القلب  المتورط بالشغف

الخارج من الليل الى الفجر محملاً بالحلم

ومن الفجر الى الصباح مبللاً بالوهم والندى

انه الضوء

ابتسمتُ بصمتٍ وَمَضيتُ

إذ سمعتُ الحمامة تطير قائلةً..

على الشاعر أن يكون خاسراً

***

فارس مطر / برلين

15.1.2024

في ديسمبر من هذا العام

أجدني أقف بلا ظلي

أتوارى مني

أنا الهناك في العام الماضي

حيث تركت ضحكتي

على الطاولة

وابتسامة شقية للنادل الأنيق

ولمعة عيني وهي تلاحق الألعاب النارية

من الطابق العلوي

ويدي في يده

كان الدفء عنوان المكان

كيف تمكنت من الخروج

وتركت ظلي هناك

يقرأ القصائد وحيداً

وسط ذاك الخراب

عن المطر المؤجل

والسنابل الغزيرة مد البصر

عن المعاطف وحميمية العرق

عن الأحلام والأسرار التي في عهدة الوسادة

عن الأقلام والدفاتر والكتب

عن الروائح التي تصارع المسافة

ولا تتوه

لتوقظ فينا الحنين للأماكن

عن العصفور الذي يستريح على النافذة

ويغني

موطني

م

و

ط

ن

ي

عن العرافة وسوء طالع العشاق

في زمن الحرب

حينما يعز اللقاء

وتتبعثر المشاعر

وتتعثر اللغة

وينتصر القبح

فتنزوي الحبيبة

وتترك الأيام

لتلون وجهها وشعرها بالرماد

ظلي

يجول في الشوارع

يحدث نفسه

في ديسمبر

تتهافت صناديق الهدايا

لمعانقة البهجة

تتزين المرايا

لاستقبال تفاصيل جديدة

مابين نهاية وبداية

وتقف اللهفة بيدها شمعة

إلا هنا

هنا لا شيء

الشوارع فارغة من أي دهشة

والناس؟

المدينة بلا أي ناس

ي

ق

ه

ق

ه

ويترنح

ي

ص

ر

خ

مرحباً بكم في

مدينة الظلال

تفقدوا ظلالكم يا سادة ...!!!

***

أريج محمد - السودان

سيحدث ما يجب ان يحدث

رأيت جملا بسنمين

يرقص رقصة التانجو

كأنه يلعب على حبل

في باحة اضلاعها غير متساوية

*

قرأت عن قصائد

تحكي عن اشياء تافهة

مكتوبة بحروف ابجدية

محفوفة بالتعاويذ

والطقوس الفراهيدية

*

وسمعت عن اموات بلا كفن

يستنجدون برائحة التراب

الضارب الى السواد

في مقبرة  متأرجحة

على حين غرة

كادت تصيبهم نوبة احتضارية

*

ثمة جنرالات بلا زي عسكري

ولا نياشين مرصعة

ولا حتى بندقية صيد

تراهم يشترون الذمم

برائحة الغاز

وحفنة من نفط خام

ويعتقدون انفسهم

اكثر ذكاءا من الآخرين

في السياسة الميكفالية

*

وقرأت في كتاب فرنسي

عن فيزياء الجسد

لعوانس يكتمن اسرارهن

في حضن راهبات

يقطن دير مهجور

لا تلجأه الا العناكب المخصية

*

أتظاهر برفع الراية البيضاء

وادخل في حرب عسكرية

ضد الغزو الافتراضي

واشعر ان خسارتي الفادحة

سوف تعوضني برهان

لا يخضع لقوانين اللعبة النرجسية

*

اتمنى ان اكون هناك

بين ضفتي كتاب

او جدران زنزانة

تحرسها غربان

باقنعة انسانية

*

لوكان هناك متسع

لامتطيت ذاكرة المنفى

وقمت بهبوط اضطراري

على الضفة الاخرى النائية

*

لقد مات الشاعر

وقبل ان يغادرنا

مزق قماش كفنه

ثم كتب على شاهدة قبره:

هنا يرقد شاعر مفلس

لم يدفع فواتيرالحفر

ولا اجرة الدفن

ولا اجرة العزاء

حتى نواح العجائز

لم يزكيها احسن تزكية

***

بن يونس ماجن

للبحرِ أسرارٌ... ولي أســـــرار ُ

وغُموضنا في الحالتينِ قرار ُ

*

فهو الذي في موجـــهِ قيثارة ٌ

ولهُ بأفئـــدةِ الهوى أوتــــــار ُ

*

وبِعُمْـــقِهِ للمعجباتِ نفــــائس ٌ

تُبديها في سِحْرِ العيونِ مِحار ُ

*

وله بطرفِ الحور (كاريزما)..وما

للدافئاتِ بِحُضنــــــــــــه ِإنكار ُ!

*

وبِمَـــدِّه شغفٌ يُكرِّرُ سُــــؤْلهُ

وبِجَزْرِهِ  ردٌّ  هو الإضْمْـــــار ُ!

*

هو مافَشَى للضالعاتِ بأمره ِ

أن الهوى في صَدْرِهِ هَــدَّارُ

*

وبأنهُ في كل طَرْفَةِ عاشق ٍ

يَشدو ويَسمعُ هَمْسَهُ البَحَّار ُ

*

هو عـــــاشق ٌأبداً وحَسْبُهُ أنَّهُ

للزائـــــرات ِعلى ضِفافِه ِ دار ُ!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

كما في كلّ بلدة أخرى هكذا في بلدتنا المُعْتَزَّة أنّها كانت ولا تزال بلد العلم والثقافة بنسبة المُتعلّمين العالية، فمدرستها الابتدائية قديمة جدا بناها المسكوب الروس عام 1883 والثانوية أسّسها خمسة رجال من البلدة بعد عام النّكبة بثلاث سنوات. كان الطلاب يأتونها من أكثر من عشرين بلدة، وخرّجت الآلاف من الطالبات والطلاب الذين انتشروا في كلّ مَرافق الحياة وبرزوا بنجاحهم المُتميّز. وأوّل ثلاثة طلاب عرب بعد عام النكبة التحقوا بالجامعة العبرية في القدس كانوا من بلدتنا، حتى النّساء كنّ من عهد الانتداب البريطاني على البلاد تقرأن وتكتبن، والعشرات منهنّ تُدَرِّسْن في كل مدارس البلدات القريبة، وتُشغلن مناصب مختلفة، وعضوات في نواد كثيرة، وكان الناس من مختلف القرى المُحيطة يأتون إلى أسواقها ودكاكينها، فحلّاق القرية يأتيه الناس من مختلف الأماكن، والدكتور شيبان وصلت شهرته لكل البلاد بأنّه يُعيد الحياة لمَن يموت. أمّا عن خوري البلدة ميشيل فحَدِّث ولا حَرَج، مَلاك على شكل إنسان، يشفي من كلّ مرض، ويُعيد الضائع لأهله، وقصّته التي يرويها الناس عنه عندما غرق ابن بلدنا في البحر، وعَجِزَ السبّاحون ورجال البحرية من الشرطة في العثور عليه طلبوا من الخوري أن يُساعدهم، فرافق رجال الشرطة البحرية ووجّه السّفينة إلى المكان الذي حدّده وانتشلوه.

بلدتنا هذه كان فيها مختار لكلّ طائفة، وزعيم لكلّ عائلة يزوره رجالُ الحكومة والضيوف الكبار، ويحلّ من المَشنقة لعلاقته القويّة جدا بالحكومة، ومحبوب من كلّ الخواجات خاصّة من الحاكم العسكري. وما كان يُنغّص على المخاتير والزعماء يوم حضور شخصية حكومية كبيرة زمرة من الشباب الصّايْعين، كما كان يصفهم رئيس البلد، الذين يقومون بالصّراخ والسّباب في وجه الضيف، وإذا ما سأل الضيف باستغراب واستنكار:

- شو اللي بَسْمعو وبَشوفو، عندكم في بلدكم شيوعيّة؟

يُسارع الرئيس للتّبرُّؤ ورفض التّهمة ويردّ وهو يرتجف:

- لأ يا سيدي، هذول شوية شباب صايْعين لا تُشغل بالَك فيهم.

وفي بلدتنا كانت أم عوّاد المرأة القويّة التي تسير في الشارع وحولها أولادها رزق الله وسعد الله وعطا الله ونصر الله وركن الله وعز الله وفتح الله وحَسْب الله، وإذا ما قالت لها امرأة مرّت بها:

- الله يخلليك هالشباب

تُجيبها أم عوّاد بسرعة: خَمْسة في عيون الحَسود، سَمّي قبل ما تِحْكي.. لَتْكوني بِتْصيبي بالعين.

ولا تجد المرأة إلّا الاعتذار لأمّ عوّاد وتدعو لها ولأولادها بالصّحة والعافية والعمر الطويل وإبْعاد عيون الحُسّاد عنهم.

أم عوّاد امرأة محبوبة في البلدة، ضحكتُها لا تُفارق مُحيّاها وتُسْمَع من بعيد، ولكنّها امرأة مَهْيوبة ومَرْهوبة من كلّ نساء البلدة وحتى الرّجال. فإذا ما حضرت تحمل تنكتَها لتملأها بالماء من الحنفيّة وسط الحارة تؤكد للجميع أنّ الحقّ لها الآن لمَلء تنكتها فالدّور دورها واللي مش مْصَدْقة تروح تشكيها للرئيس تَشوف شو بَدْها تحصِّل من حضرته. فتضحك كلّ الموجودات، وتُفسِحْن لها الطريق، وحتى تتبرّع بعضُهنّ لمساعدتها.

أهل البلدة لا ينسَوْن مواقف أم عوّاد البطوليّة يوم معركة الزّيت ضدّ الشرطة والضابط أبو خضر الذي كان يُخيف المنطقة ويسجن ويطرد وينفي ويضرب مَن يريد من الناس ولا أحد يُحاسبه. وكيف كان يصول ويجول وخاصّة أيام جَمْع موسم الزيتون، ويراقب كل فرد من المَلّاكين وأصحاب مَعاصر الزيت حتى لا يقوم أي واحد بإخفاء بعض منتوجه من الزيت والزيتون، ولا يُسَلّمه لموظفي وزارة التّموين الذين يُقرّرون السِّعر للكيلغرام ، ويصادرونه لحساب الحكومة، وكثيرا ما كان يدخل البيوت ويُعيث فيها فسادا بعد وشاية تصله أو رغبة منه ليحافظ على هيبته وعنجهيّته وسطوته ولا يجرؤ واحد على الاعتراض. وأكثر ما كان يغيظه تعمّد بعض الشباب صغار السن الذين يمرّون بقربه ويضحكون بصوت عال أو لا يُعيرونه أيّ اهتمام وكأنّهم لم يروه.

أهل البلدة كلّهم يتذكرون بداية موسم جَمْع الزيتون عام 1952 كيف دخل الضابط أبو خضر إلى البلدة من الحارة الشرقية وحوله وخلفه عدد كبير من أفراد الشرطة يصرخ ويشتم ويُهدّد ويتوعّد كلّ مَن يجد في بيته نقطة زيت أو حبّة زيتون لم يُصرِّح عنها.

لحُسْن حظّ أهل البلدة وسوء حظّ أبو خضر أنّه التقى بالصّدفة بأمّ عوّاد وهي تسير وحولها أولادها والعديد من النساء بعد تأديتهن الصلاة في الكنيسة تتكلّم بصوت عال وتُشير إلى رجال الشرطة قائلة:

- أولاد الحرام صاروا جايّْين!

فسمعها أبو خضر وأراد تأديبَها:

- لوين يا حُرْمة تعي لهون

سألته أم عوّاد: بتحكي معي؟ ليش شو خصّك تَتِسْألني لَوين؟

فصرخ بها: أنت مش عارفة مين أنا؟ تَعي لهون.

نظرت إليه بجرأة وتحدٍّ: بَعرفك بِقولولك أبو خضر، بَسْ لو الخَضر يوخذ روحَك ويْرَيِّحْنا منَّك.

وهاج أبو خضر وتقدّم نحوها رافعا يده ليضربها فما كان منها إلّا أنْ أمسكت بيده وضربته على وجهه، ودفعت به بقوة فسقط في قناة العَكر الذي يخرج من معصرة الزيت.

وهجم رجال الشرطة وسارعت النساء الموجودات والأولاد وبعض الرجال لصَدّهم، ودارت معركة كبيرة انتهت بانسحاب الضابط أبو خضر مع يده المكسورة وثيابه المُبللة والمُلطّخة بالعَكر مع رجاله وهو يتوعَّد ويُهدّد بأنه سيعود لينتقم.

هكذا تحوّلت أم عوّاد لتكون البَطلة المحبوبة في البلدة: الكل يمدحها ويستعيدُ مشهدَ رَمْيها للضابط أبي خضر في القناة وبَصقها عليه، وصعوبة تخليصه من بين يديها على يد أفراد الشرطة، ولكنّ الكلّ خاف عاقبة فعلتها وما يمكن أنْ يكون انتقام الحكومة.

وجاء العقاب سريعا، فقد هاجمت قوّات من الشرطة برفقة موظفين من وزارة التّموين البلدة وصادروا كلَّ ما وجدوه من زيت وزيتون في الخوابي والبراميل. وتحدِّيا لما فعلته الشرطة كتب شاعر البلدة مسرحيّة باسم "موسم زيتون" تُخلِّد معركة يوم الزيت، وعلى مَدار ثلاث سنوات قام مَسرح تَشكّل من فتيات وشبان البلدة بعرض مسرحية "موسم زيتون" حضرها معظمُ السكان، وكانت تُخْتَتَم بتحيّة أم عوّاد بترديد اسمها ثلاث مرّات رغم غضب أفراد الشرطة الذين كانوا يقفون على بعد أمتار ويتابعون ما يجري.

وفي البلدة عاش أيضا الحَلّاق عيسى المُرجان، شاب خلوق يحلق للشباب شَعْرَهم مقابل قروش قليلة. كان يُعاني من شَلل في رجله اليسرى فيجد صعوبة في المَشي لكنه عوّض ذلك بكلامه الجميل وتقرّبه من كلّ الناس وخدمتهم بحَلق شَعْرهم. اختلف الناس في سبب عَرْجه، البعض يقول منذ ولادته كان مشلولا، والبعض يقول إنّ سبب شلل رجله أنه يوم دخل اليهود البلدة عام النكبة واحتلوها انتبه لطائرة تقترب منه فركض، وكان في مقتبل شبابه، ليحتمي في أقرب دار منه، ولسوء حظّه ألقت الطائرة قنبلة على الدار فهدمتها، سارع عيسى ليهربَ فعلقت رجلُه بقضيب حديد طويل وانكسرت في عدة مواضع، وهكذا قضى حياته مشلولا حتى عُرف عند البعض بعيسى الأعرج.

وكما عيسى المرجان أيضا كان في بلدتنا نايف الفوزي اليتيم الذي عاش حياته مع أمّه في غرفة بائسة، عمل في نَقْل الماء إلى البيوت مقابل أجرة محدّدة. نايف الفوزي كان شابا بسيطا صموتا لا يحبّ الكلام ولا يتصادق مع أحد. طوال اليوم ينقل الماء من العين إلى البيوت ويعود آخر النهار إلى أمّه يُساهرها وينام مبكّرا.

أذكر أنني كنتُ أحبُّ عيسى المرجان فقد كانت محلقتُه قريبة من بيتنا، وكان الذي يَحلق لي شعري بداية كلّ شهر. والأهمّ أنني كنتُ أجد عنده مَخبَئي من غضب والدي عندما كنتُ أقوم بعمل يستحق العقاب.

أمّا نايف الفوزي فلم تكن لي أيّ علاقة به، دائما أراه يسوق حمارَه أمامَه وعلى ظهر الحمار تنكات الماء التي عبَّأها من العين وينقلها إلى البيوت التي طلبتها. يسير ينظر أمامه، لا يُكلّم أحدا ولا يُلقي السلام على أحد، وإذا ما حاول ولدٌ التّعرّضَ له يرفع به ويضعه على ظهر الحمار ويقولُ له سأبيعُك للنَّوَر. فيصرخ الولد ويستنجدُ بالآخرين، البعض يُنجده ويُخلّصه، والبعض يتركه لأنّه تطاول على الذي يكبره بالسّن.

بمرور السنوات بدأت ملامحُ الضّعف والعَجز والتّعب تبدو على وجْهَي عيسى المرجان ونايف الفوزي. وكانت الضربة القاضية التي حلّت بنايف الفوزي أنّ العمل بمشروع إيصال المياه إلى البيوت تمّ، ولم تعد الحاجة له ولغيره بإيصال الماء من العين البعيدة إلى البيوت. فحُرم من مصدر رزقه. صحيح أنّ موت أمّه خفّف عنه المصاريف. ولكنه ظلّ بحاجة للمال ليضمن شراء حاجيّاته الأساسية ممّا اضطره لقبول العمل بأيّ شيء مقابل أنْ يحصل على المال. وبانقطاعه عن الناس وعدم حاجتهم لخدماته لم يجد غير عيسى المرجان ليزوره ويُجالسه ويُبادله الحديث. فهو مثله مقطوع من شجره. لم يتزوج وليس له أولاد. وحتى إذا ماتَ قد لا يجدُ مَنْ يقوم بغَسْله وتكفينه ودَفْنه. فأيام كانت قلوبُ الناس على بعضها انتهت، وقد لا يسأل الواحدُ عن حالة أخيه أو جاره. زمنٌ غدّار. هكذا كان عيسى المرجان يُكرّرُ على مسامع نايف الفوزي الذي يُوافقُه بهزّة رأسه.

وكثرت شكاوى عيسى المرجان لنايف الفوزي على أولاد يقومون بمُضايقته ومُناداته بالأعرج ويرمون ببعض الحجارة على بابه، وشكا بشكل خاص من مُضايقات وتَعدّيات سَعْد الله ابن أمّ عوّاد ومن عدَم مساعدة أحد له في طرد الأولاد.

وصدف أنْ كان نايف الفوزي يجلس عند عيسى المرجان وإذا بصَخَب أولاد يقتربُ وتدخلُ عليه أمّ عوّاد وأولادها مُحيية وسائلة باستنكار:

- صحيح يا عمي عيسى شو قَلْلي صاحبك نايف الفوزي إنّو اولادي بضايقوك وبِرْموا عليك حجارة؟

نَقَّل عيسى المرجان عينيه بين الأولاد فرأى إشارات التّهديد التي تتوعده من كلّ واحد.

فابتسم بخوف وقال وهو يُداعبُ رأس الشقيّ المُشاغب سَعد الله:

- يا أم عوّاد ولادك الله يخليهم مثل كلّ الولاد، وبَعِدّْهُم اولادي وبَفْرح فيهم، بَس بضايقوني شوية، أنا بَحبّهم بَس هذا العكروت قرد الله هو إلْلي مِتْعبني أكثر واحد.

وانتفضت أم عوّاد وصرَخت بأولادها:

- يلّا كلّ واحد يبوس إيد سيدو عيسى ويْقولو سامحني.

وبعد أنْ نفّذ الجميع ما أمَرت به قالت:

- وحتى يكون كل اشي منيح إسّى سيدكو عيسى بحلقلكو شَعركو.

واصطفَّ الأولاد، وأخذ عيسى المرجان يقصّ شَعر الواحد بعد الآخر. وبعد أن انتهى من عمله وقفت أم عواد وقالت:

- يسلموا ايديك يا عمي عيسى، وانشا الله بعد مرة بَسْمع إنُّه واحد منهم ضايقك وخاصة سعد الله سَأقْطعْله لسانه.

وخرجت والأولاد يُسابقونها ونظرات عيسى المرجان تُتابع خطواتها وبسمة حزينة تمتزج بدمعة حاول اخفاءَها بيده.

وانقطعت أخبار نايف الفوزي ولم يعد عيسى المرجان يلتقيه حتى علم من أحد الذين يحلقون عنده أنَّه مريض وحالته صعبه ولا يوجد مَن يمدّ له المساعدة بعد موت قريبة له كانت تعطف عليه وتزوره. وبعد أسابيع سمع أنّ نايف الفوزي تَوَفّاه الله وارتاح من مَصاعب الحياة.

وبعد أقل من ثلاثة أشهر لاحظ بعض جيران عيسى المرجان أنّ بابَ المَحلقة يظلّ مُقْفلا، وعرفوا أنّه مَرضَ وفَقَد القُدرةَ على الحركة، ولعدم وجود مَنْ يعتني به لم يصمد كثيرا ومات.

**

قصة: د. نبيه القاسم - الرامة - فلسطين

تخرج كل صباح تسأل قوت يومها، يرافقها قفتها التي اخذت تأريخ من مساحة عمرها، وهنة مثل سنينه، ضاع بين متاهات ازقة وهي تطرق الابواب طالبة الخبز اليابس، حتى ولو كان قد اصابه العفن عفن الفائض عن الحاجة، الشمس لا ترحم وهي تتزاحم مع رطوبة الجو، الرمضاء تأكل من اقدامها، برغم عجزها تقفز باحثة عن ظل يؤيها للحظة، خرج لسانها يعوي يلعق شفاة متيبسة طلبا للبلل.. لم تعينها قواها على السير اكثر، انزوت بسد جدار يزفر من بطنه هواء ساخن، ومن شدة زفرة يدفع حنقه قطرات الماء، تلقفها لسانها دون ان تسأل... فالعطش نال منها، كل ذلك وقفتها تتسائل كم حقير انت ايها الزمن؟ لا.. بل كم نحن حقراء في هذا الزمن، العناوين متفشية كالسرطان كثيرة لكن الفقر متفش بأضعاف، مبرات الايتام في ازدياد، مكاتب دعم الفقراء الشرعية والغير شرعية، دوائر حقوق الانسان، عناوين... وعناوين، لكن الحرمان اثواب سملة للمعوزين، يرتدوها ملابس اعياد أيام ميتة، كل من عليها فان، للصبر اجران، اجر الصبر نفسه واجر الصبر على الصبر، إذن هو الحنظل أليس كذلك؟؟! امسكت باصابع خشنة لسان قفتها وهي تقول: أششششش لا تثرثري فما عاد تجدي الثرثرة، لقد بتنا أناس اسلام دون مسلمين، ورع دون تقوى، امة تبحث تقتات الفقراء مناصب سياسية... تحول مأسيهم الى ارقام ونسب، يركبون ما يسمونه البرلمان، يركلون بأحذيتم البالية القديمة اصوات جوع الفقراء، يقتلونهم لأن الجوع كافر يستحق القتل، فلم تبحث عن المستحيل في اللامستحيل، انها رسالة الى ابواب السماء لكنها دون عنوان فجميع العناوين استنفذت كرسائل تماما مثل الوصايا العشر... ما ان عاد بها النبي موسى و شاهد السامري وقومه يعبدون عجلا من الذهب حتى حطم الوصايا، فلا حاجة لوصايا الرب لسادة يعبدون أصنام انفسهم اربابا، اما الفقراء فلا زالوا فقراء ما لم يزدادو فقرا، ان البحث عن بقايا خبز غيرعفن غاية طموحهم، هكذا خلقهم الله عوزهم كالنار وقودها الناس والحجارة، ساعات ظهيرة حارقة مرت وهي لازالت قابعة في ذلك الظل الذي سرقته الشمس عنها دون ان تشعر... مر احدهم، شاهدها مستلقية على قفتها، نادى عليها ايتها المرأة العجوز قومي معي، تعالي الى الداخل اروي ظمأك من هذا الحر، لدي الكثير من الخبز اليابس... لكنها كانت متيبسة كخشبة حطب منخورة فالموت قد آواها إليه رفقا بها.

***

عبد الجبار الحمدي

 

كَــنَــجمَتين فـــي الــدجــى

يَــــلــفُّــهُــنَّ الــمِــعــطَــفُ

*

الــــبــدرُ لــــو رأُهُــــمــا

مــن غَــيْــرَةٍ قــد يُــخسفُ

*

ذُهِــــلْــتُ لــــمّــا أشْــرَقــا

وراحَ قَــلــبــي يَــــرجِــفُ

*

قـــد أَحــدَثَــا فــي داخــلي

نـــاراً وريــحــاً تَــعصِفً

*

زَوابِـــــعـــاً مَــجــنُــونَــةً

مـــن هــولــها لاتــوصفُ

*

وأنــــقَــذَتْــنِــي بَــــسْــمَــةٌ

إذْ كــنتُ سـوفَ أتْـــلَـــــفُ

*

أَدرَكْــــتُ أنِّــــي هــائِــمٌ

لــلــحــبِّ قــلــبي يــهــتفُ

*

أحْسَسْتُ في الصغرى هوىً

أحــــلامُــهــا تُـــرَفْـــرِفُ

*

ومــــا خَــــفَــتْ بــقــلبِهَا

بــالــعينِ راحـــتْ تَــكْشِفُ

*

وقــالــتْ الــكــبرى: أَجــلْ

أهــــواكَ إنـــي أحــلِــفُ

*

ومِــــنــكَ يــــا مُــعَــذِّبــي

غَـــدَتْ عــيــوني تــذرِفُ

*

شــقــيقتانِ فـــي الــهــوى

طــبــعُ الــهوى لايــنصفُ

*

يــاقــلــبُ قــد حيَّـرتَنِـي

أُحِـــبُّ مَــنْ لا أَعْــرِفُ؟

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

بين اشتدادك... وانزوائي

خيط رفيع ضائع

ضياع الفصل

بين معنى الحلم

والتمويه في تفسير الوهم

نقيضان بينهما دمي

وسنين ...ينطفيء في بردها وهجي

بيني وبينك ....قصيد شهم

على صبواته جوع الهي

تشكل من حطب النأي

وحريق الانتظار

فانبعث انثى تتدثر

باغنيات الشرود

عند أطلال دارسات في الرمال

في دروب التيه... أنتفض

المعصم ندوب قيود ...لا تندمل

والذكرى على شاشة  الافق ترتسم

عصفورين مرصودين

في برد الشوارع

غارقين في نهر الحنين

ووشوشات الليلك

كلما رف طير الصباح

على وجنة اليقظة القاسية

رقصت في دمي الابجديات

ومات في شرياني الزيزفون

مجبولة حروفي على ملاحقة السراب

وربيعك عناد...جزر...واعصار

عند تخومه أرابط مهرة

تترامح بين الاياب والادبار

أعاتب الريح

والاماكن التي اجتاحها الضوء

قبل ان أدون على شاشة الليل

اخر اعترافاتي ....

موجز مخاض كاذب

رجني عند جدع نخلة خاوية

كنت آمل ان ينفلق الفجر

ندى ...وغماما

يلغي مسافات الخريف

لكن الريح ...

كسرت عناد الشعر

اقتلعت وتد القصيد

وأغرقت احلام الامس

في حمرة الشفق الذبيح

*

هذي الحروف

قشدة الزمن البخيل

لب الصمت المتمترس

في مساء انيق

ما انفك يسالني=

كيف حال الشوق في الغياب؟

أزرع كافورة في الغسق وأرد=

بعافية ...ايها المترجل في العشق

الحامل هم الحزن الوديع

ما رايك ان تؤرخ حلمي

من اول الحكايات البائدة؟

ليدرك العابرون

كم عثرة أجلت الوعد المكنون

كم بذرة تسامقت

كيما يلتقي الخطان المتوازيان

فيصيرا شجرة

تمد اغصانها ..قطوفا دانية

للحلم اليانع ...في المدى

من الكلام...يبتدعان زهرا

متحمسا لحدائق الهيام

مزينا سمته بشوك التمنع

ليتنامى في موجات اللهيب...السؤال

ويغدو الجواب

كل ما آنسه الاحتراق ...

عند اول الشعر ....واكتمال الانهيار

***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

أبوح لك بأمر ونحن في منتصف فصل شتائي يشتد برودة كلما بسط حضوره في مسام الورق وفي جلدي...

أخبرك بعد أن تقلص مداد قلمي كأن الأجواء الشتوية نابت عن كتاباتي....

بعد انكماش أبجديتي على السطر برغم تراكمات الأحرف الكتابية في مخيلتي... كأن الشتاء جاء مختصراً شارحاً كل المفردات المكتوبة باسمه....

لا يمكن تصور ارتجافي وأنا أقف على جانب حرف عصي على الخروج من رحم القلم كأن كتلة صمت متجمدة تسد الفوهة....

إنني أصارع حتى مفرداتي في حلبة الورق لأبقيك على مقربة من الأشياء المتوهجة على هيئة نص مكتوب بجر حبر وضوء حرف...

إنني أتساءل هل تصلك رسائلي باردة كبرودة كانون الثلجي العاصف من خلال سطر عصي على الكتابة...

لو كان بأمكاني أن أبعث لك شتاءات مطرزة بحبات الندى الصباحية وهي تتزحلق من أعلى نافذتي....

لو كان بإمكاني أن أعبر طريقاً آخر أكثر دفئاً وأكثر هدوءاً من تداخلات الطرقات الضيقة وهذا الشتات المبعثر على رصيف حرف طويل...

***

مريم الشكيلية / سلطنة عُمان....

(في شهادة الميلاد يكتبون متى ولد الأنسان، وأين ولد، ولكنهم لا يكتبون لماذا ولد..؟)... سافير

من جاء للحياة خلسة، ببطاقة دعوة فات آوانها، لن يخشى الموت ..

كان قلبي مذ عرفته

مولعا بالترحال

يخفق بقوة ويحلق بعيدا

نورس مهاجر وحيدا

أضنته الريح الهابة

وبلله المطر المنهمر

ينتصب أمامي بكبرياء جبل الحياة، متوجا بهالة من بهاء وطهر ونور، عيناي ترنوان لجلاله ورفعته .

**

أتأمل البحر المحيط، أتنفس هواءه، أشعر بقلبي يدق في صدره العريض، الموشوم بالزبد، دقات قلبي تتناغم مع إرتداد الموج من الساحل، في أنفاسي عبق بنفسج، يتفتح مع هبوب نسيم البر، ودمي يتوهج بين أصابع الفجر، صاعدا مع خيوط الشمس.

**

في ظلمة ذكرياتي، أناس إنسلوا على عجل، مختبئين في أروقة

النسيان، لكنهم لا زالوا يبحثون عن أسرار؛ خبأها البحر في رئتيه، يتنفس فتخرج فقاعات بشرية، تفقسها ريح عاتية آتية من أعماق الأبدية .

**

صور شتى في مخيلتي، عن كوابيس الماضي، لكن الدم المتوهج في آنية الزهر؛ يتجمد كبلورات ثلج، فأراه في عين الحقيقة، يثير في قلبي موجة بكاء .

**

في مدن اللامكان، عاش أناس في اللازمان، مدن فاق جمالها الوصف، نائية في كواكب الأفلاك البعيدة ..

**

أنتفض من غفوتي الآنية، فأتلمس شعري، أجده معجونا بزنابق الماء وبغبار وملح، تدهشني شدة بياض الزنابق، أوراق كتابي لم تفتح،  قطرات دم تطرز حواشي الكتاب، وبين السطور تسجد جروحي النازفة، فأتساءل:

أين أختبأ الزمن الموغل بالبغضاء، وأين ولت كل تلك النصال الغادرة والرصاصات القاتلة!

وكيف أنها بعد أن قتلتني، لم تترك أثرا في الريح، أو تحرق شيئاً من ذؤابات عشب الحدائق!

وأين ولت رصاصات آخرى خائبة، فطاشت ولم تصب هدفها!؟..

**

لماذا يسمح الله العظيم، للحديد أن يكون جباراً، شديد البأس، فينغرس كمخلب صقر جبلي، في اللحم الضعيف الطري، أيتوارى الحديد خجلا عند إقتحامه اللحم، ثك يتوسد العصب والعظم؟

لماذا الرصاص طائش متهور؟، يلعلع في الليل كطبول الحرب، بينما ينساب ضوء القمر؛ يرسم بسمته البيضاء الكبيرة في سواد الليل؟ ولماذا يسقط من كان واقفا ورأسه متوج بثلج وبركان من نار..؟

**

حينما يسقط البرئ مضرجا بدمه؛ تنحني له الملائكة، وتضوع روائح الجنة بشذى طيب، لا الروائح تكف عن التضوع ولا الجروح تتوقف عن النزف ..

**

في نهارات بلون بريق العيون الحالمة، أستيقظ مرة آخرى، فأرى أسلحة الموت قد أصابها الوهن؛ وعلاها الصدأ؛ وتحولت الى ركام في متاحف العاديات، يورث النظر اليها كأبة في العيون؛ وحسرة في القلوب ...

**

ترتفع الرقاب التي حزتها السيوف؛ أهلة من نور فوق ذرى الأشجار .

السنابل تحصدها المناجل؛ فتزداد تألقا؛ وبريقا تحت شمس الربيع، الحديد فيه بأس وقوة، لكن الدم فيه حياة وصخب، ينسكب كالزيت المقدس؛ فيتحرر تموز من عالمه السفلي، وترتفع راية الشهادة حمراء على ضريح الحسين، وينفض الحلاج الرماد عن رداءه الخشن، وينهض كالفينيق ينشر جناحيه فوق ضفتي دجلة، ويترجل المسيح عن صليبه الكئيب، بعد أن تسنم قمة العالم ..

***

صالح البياتي

 

بقي كلّ شيء صامتًا مستسلمًا في مؤسستنا العتيدة، إكثر من ثلاثة عقود من الزمان، إلى أن دخلها ذلك الاسمر مربوع القامة ثاقب النظرات. كلّ شيء كان مستسلمًا لإرادة مدير المؤسسة، يقول للشيء كن فيكون منصاعًا إليه بدون أية روية أو اناة، وأذكر هنا أن أحد المستخدمين في المؤسسة أعلن ذات لحظة هدوء بدا انها لم تعجبه، تمرّده على الاوامر غير المعقولة، فتصدى له المدير أمامنا، نحن جميعًا، ليقنعه بأن شيئًا لن يكون أفضل مما كان، وأن كلّ ما يخيل إليه وإلى أمثاله من مخالفات واخطاء، ما هو إلا نتاج العقل المتفتّح المجرّب والممارس. لقد خطر لنا حينها أن ما حدث بين المدير وذلك الموظف، إنما كان مرتّبًا له مسبقًا وأن الهدف منه تربية مَن تسوّل له نفسه التصدي للإرادة العليا.. أقول هذا بدليل أنه لم تمضِ سوى أشهر إلا وفوجئنا بذلك الموظف يعود إلى العمل بقوة أكبر ومركز حسّاس.. هو نائب المدير.

منذ تلك الحادثة التي تبدو بسيطة سارت الامور في مؤسستنا أشبه بخطى من يُطلب منه أن يمشي على العجين فلا يخربطه، وقد وقعت بين الحين والآخر أحداث أخرى مماثلة ما لبث مديرنا ونائبه، أن سيطرا عليها وأعادا الامور إلى ما كانت عليه وأكثر. على هكذا منوال بقيت الامور تجري في أعنتها، إلى أن حضر ذلك الاسمر الواثق من نفسه.. وكان أول ما فعله هو أنه اقترب مني أنا الكاتب الوحيد في المؤسسة، وأدنى وجهه من وجهي ليقول لي كلامًا أحبَّ أن يقوله على ما بدا، إلا أنه فضّل في اللحظة الاخيرة الابقاء على صمته مكتفيًا بابتسامة وقّادة ساحرة، تدُلّ على شبوبية متدفّقة لا ترضى بأنصاف الحلول وتعرف كيف تتعامل مع المياه الاسنة أو تلك التي تقترب من التلف.

بما أن غرفتي الصغيرة المتواضعة كانت قريبة من غرفة المدير، فقد كنت استمع إلى محادثاته مع آخرين دون قصد بالطبع وبإمكاني أن أسجّل هنا ملاحظة إجمالية لما كان يحدث في تلك الغرفة وهو أن المدير عرف كيف يحفظ خطّ الرجعة دائمًا، وأتقن فن المناورة وكأنما هو تعلّمه في أعلى المعاهد.. رفيعة المستوى في العالم، لدى الامريكان أو الروس، وربّما لدى الصينيين، فقد كان حاذقًا تمام الحذق في المحاورة والمناورة.. يحفظ خط الرجعة ويعرف كيف يدير النار إلى قرصه، دون أن يشعر مَن قُبالته بأن الامور تصبّ في مصلحته الشخصية.. دون العامة، وأتذكّر في هذا الصدد.. الوفير من الحكايات التي لا يتّسع لها المقام ويعجز عن سردها اللسان. منها أنه دأب على مواجهة الآخرين بالتحدّث عن المصلحة العامة وأقنع كلّ مَن خالفه، أن ما يطلبه من دفاع منه، إنما هو دفاع ضروري ومشروع عن المؤسسة التي تقدّم خدماتها لجميع أهالي البلد. بقيت أموره تمضي على هذا النحو إلى أن دخل ذلك الاسمر البسّام، ثاقب النظر والاحلام، واتهمه بأن مؤسسته إنما تعمل من أجل مصلحته الشخصية الصرف.. متجاهلة أنه توجد هناك مصلحة عامة تحتاج إلى مَن يرعاها ويسهر على أمنها وأمن عامليها ومستخدميها عندها انفجر بين الاثنين نقاش تاريخي.. استمعت إليه بالصدفة ودونًا عن رغبتي وإرادتي.. فيما يلي أقدمه محافظًا على حذافيره.. وأرجو ألا يكون هذا التلخيص مخلًّا بما أردت أن أنقله إليكم.

المدير: هذه المؤسسة أقيمت من أجل المصلحة العامّة.. أعتقد أنه يُفترض مِن كلّ منّا نحن العاملين فيها والمقربين منها أن يقوم بدوره في دعمها وتسديد خطاها.. في مواجهة مخاطر العنف المتتالية التي شهدها ويشهدها مجتمعنا في السنوات الاخيرة الماضية خاصة.

الشاب الاسمر: هل تعني بهذا أن المؤسسة ملك عام؟

المدير: ليس بالضبط.. إنما أعني أنها تعمل من أجل التغيير إلى الافضل.

هنا وجّه إليه ذلك الشاب الشجاع سهمه الاول. سأله:

- أريد أن أسالك سؤالًا واحدًا محدّدًا.. أرجو أن يأتي جوابك عليه واضحًا محددًا.

ارتعدت فرائص المدير، قال:

- تفضّل إسال.. كلّي اذان صاغية.

عندها ضرب الشاب الاسمر على الطاولة أمامه قائلًا:

- سؤالي هو كالتالي.. أنت تعمل في إدارة هذه المؤسسة منذ ثلاثة عقود من الزمان.. شخت وأنت فيها.. هل صادف أن تقاسمت أرباحها مع أحد؟

المدير: مَن تقصد؟

الشاب الاسمر: أقصد مثلًا هذا الكاتب الذي يجلس في الغرفة الصغيرة القريبة من غرفتك الكبيرة. لقد قدّم لك.. كما أجمع كلّ العاملين في مؤسستك.. على أنه أحرق شمعة شبابه في إنارة طريقك.. ماذا أخذ منه وماذا طاله منك غير الكلام المعسول المنمّق.. والفارغ؟

انفعل المدير: ولماذا أقاسمه أرباحي؟ هل هو شريك لي؟

الشابّ الاسمر:

- ما تقوله حقّ.. هو ليس شريكًا لك في الربح.. أما في الخسارة.. فإنه واحد من أشد الشركاء تبييضًا لصفحتك السوداء. لقد أحرقته لينير في ليلك دون أن تقدّم إليه شيئا يقتًات به.. أي جشع هذا؟

المدير ناظرًا إلى البعيد ونافثًا دخان سيجارته في وجه محدّثه:

- ألا يكفي أنني أوجدت له الاطار.. ووفّرت له بيتًا دافئًا يأوي إليه.. وينتج ما يودّ ويريد مِن قِصص وروايات؟

الشابّ بغضب:

- أنت اويته مقابل امتصاصِك دمَه.

المدير: هل أنت محامٍ عنه؟

الشاب: لست محاميًا عنه.. إنما أنا أردّ على ادعائك.. ان هذه المؤسسة تعمل من أجل المجتمع.. وليس من أجل جشعك الشخصي.

بعد نطق الشاب هذه الكلمات الاخيرة، انتفض مدير المؤسسة في كرسيه الشخصي الوثير، ونفر فيه:

- إياك أن تتدخل بيني وبين أحد.. خاصة صديقي الكاتب..

عندها وجدت نفسي مضطرًا للدخول إلى غرفة المدير.. لأفضّ الخلاف أو أساهم في فضّه على الاقل، حينها توجّه ذلك الشابّ الاسمر نحوي مفاجئًا إيانا، المدير وأنا، رافعًا بطاقة مفتش في وزارة المعارف، وقال مُوجّهًا الكلام إلي:

- لقد أتيت من أجل راحتك.. يكفي ثلاثون عامًا مِن القمع والاضطهاد..

وأرسل نظرَة إلى المدير وهو يواصل:

- مِن اللصوصية.. الرشوة والفساد.

انتهى ذلك اليوم على سؤال ينطحه سؤال.. لتبزغ شمس اليوم التالي وقد حمل المدير الظالم حقيبته اليدوية.. خرج مِن بوّابة المؤسسة.. إلى لا رجعة..

***

قصة: ناجي ظاهر

 

-..بعد عدة إتصالات مع الممرضة عفاف، أكدت ليلى الموعد بعد غدٍ الأربعاء الساعة الحادية عشرة ظهرا

ترددت الممرضة عفاف في تثبيت الموعد وفي إخباري عن مريضة تتصل وتطلب موعدا وجلسة علاجية ثم تعتذر عن الحضور،،

-..نظرت إلى عفاف نظرة خاطفة وقلت لها من واجبنا احترام المرضى مهما كانت حالتهم النفسية والأمراض التي يعانون منها وهذا جزء من القسم الذي أقسمناه أثناء قبولنا كمعالجين وأطباء وممرضين أليس كذلك ؟

-..أطرقت عفاف وجهها خجلا وقالت:

نعم هذا صحيح

وفي تمام الحادية عشرة من ظهيرة يوم الأربعاء كانت ليلى وهو اسم المريضة تجلس بكامل أناقتها ورائحة عطرها تعبق في العيادة، ونظارتها السوداء تغطي عيون بلون القهوة التي ترتشفها من فنجان حار قدمته لها عفاف اللطيفة ذات الإبتسامة الدائمة .

-..خرجت الممرضة تغلق الباب خلفها ..

-..بعد أن استقر بنا المجلس في العيادة

طلبتُ من ليلى أن تحدثني  عن مرضها وأعراض مشكلتها؟..

-..حدقت ليلى في فراغ العيادة وتغيرت معالم وجهها واختفت نضارة وجنتيها ..

تنهدت بحسرة وقالت بصوت مخنوق وبكاء مكتوم…

*-كنت سعيدة بعملي  ومقتنعة بما قسمه الله لي بعد وفاة زوجي وأغتراب أولادي

كنت ضيفة وحدتي في كل ليلة أسامر طيوف أولادي  والذكريات

إلى أن ظهر أحمد في حياتي .

كان رجلا في العقد السادس من عمره

بعد عدة لقاءات في أماكن عمله كمدرب ومشرف على تدريب الكوادر البشرية ونشر ثقافة الوعي الأسري والتواصل مع طلبة الجامعات من أجل تأمين فرص عمل لهم بعد التخرج بإعتبار أحمد مسؤول عن قطاع التوظيف في الوزارة التي يعمل بها ..اتفقنا على الزواج..

لا أدري كيف تسرب حبه في ثنايا قلبي وروحي

وكنت منقادة لأوامرة بكل طواعية ..

كان بيتنا جميلا يفيض بالدفء والحنان

وكنا نخرج في كثير من الأحيان  ولم يلحظ أحد علاقتنا الزوجية  لأننا كنا نظهر في أماكن العمل وكل واحد منا له عمله الخاص…

كنا نسافر في مؤتمرات.. ونلتقي في جلسات عمل وثقافة ناجحة جداً..

-..مضت ثلاثة أشهر ونحن سعداء..

أعود قبله إلى البيت المرتب والنظيف والهادئ

وحين يحضر كنا ننسى العالم خارج جدران بيتنا المتطرف قليلا عن مركز العاصمة..

-..

في سفره خارج القطر لأداء بعض المهمات كان يتصل ليطمئن عليّ وعلى عملي

لم أكن أتصل بأحد

ولم يكن أحد يعلم بزواجي إلا قلة قليلة من معارفنا..

كنت أصلي في كل ليلة وأشكر الله على هذه النعمة التي اسبغها الله عليّ بعد معاناتي الماضية..

وكان أحمد يغدق عليّ الهدايا ويقول: ليتني عرفتك في أيام الصبا والشباب أنت جنتي في دنياي..

ويعبر عن مدى حبه وتعلقه بي بالكرم وحسن المعاملة والتهذيب…

إلى أن جاء ذاك اليوم المشؤوم…

خرج أحمد في ذاك الصباح بعد ان تهندم وتعطر وحمل حقيبة أوراقه ومفاتيح السيارة

وأوصاني كالعادة بعد قبلة الوداع اليومية بأن انتبه لنفسي  وصحتي في فترة سفره إلى محافظة بعيدة بمهمة رسمية مكلف بها من قبل الوزارة التي يعمل بها…

رتبت البيت وجهزت أوراقي للخروج إلى عملي كالمعتاد وأنا بكامل أناقتي ودسست أوراقي الشخصية في حقيبة يدي.. لأن زوجي المسافر  كان يوصيني بذلك في كل سفرة يغيب بها عن البيت خشية تعرضي لأي حادث طارئ في فترة غيابه.. .

-..

وفي غمرة سرعتي لم انتبه إلى ظرف كان على الطاولة بجانب المزهرية.. فدسسته بين الأوراق بسرعة دون أن افتحه  وخرجت للعمل كالمعتاد تودعني تلويحة يديه عبر الهاتف وهو يقود سيارته في طريق سفره وأغلق الهاتف بسرعة ..

-..ومضيت إلى عملي بفرح وهمة وسرور..

في المساء جلست أرتشفُ قهوتي المعتادة

وأحاول الإتصال بأحمد لأطمئن عليه لكنه لم يرد..

وهي عادته إذا كان مشغول..

تفحصت أوراق حقيبتي وسارعت إلى الظرف وفتحته..

كان به مبلغا من المال..

وعقد إيجار الشقة الموسوم بإسمي

وعقد القران المؤقت والذي ينتهي أجله يوم غد…

قرأت تاريخ العقد أكثر من مرة..

لأدري كيف لم يخطر ببالي ان يأتي ذاك اليوم الذي ننفصل عن بعضنا

لقد كنا روحا واحدة تسكن جسدين..

وتمضي الأيام

***

د. نجاح حسين العرنجي / سورية

مرة هناك

ومرة هنا

كحجرٍ لم يهدأ له بال

أُتقاذف وكلي جنون

وأتقهقرُ وكلي عقل

لستُ معهن ولستُ من بينهم

كخدوش أحدثتها الأظافرُ  في طلاء

ما الذي أراده الجدارُ من انقضاضهِ

قبل ذلك أو بعده

أن يفصح عن انصاته

أم أن ينغلق كقبر

كلهم أرباب

وأنا المتلفتة من كل جهة

للصاعقة التي ستهبط

على رأسي

من أيّ حدبٍ ستطلُّ

ستفلّ العنقُ تلفتَها وتنحني في قالبٍ

كلهم أقوالٌ صائبة

وأنا البيت المزلزلُ الأركان

أي بابٍ ستفتح لي؟

أنا الجسد الماكث في خلاياه

فلا يطير

لا أنفذُ من المسافات

وكيف سأترك سجني؟

أقفالٌ للزمن تعلقُ في النظر

أعمدة تجندل الاعصار في التهمة

وكيف أنام عن ذلك كله؟

كيف أخرج من هنا

ومن هناك؟

***

د. سهام جبار

أكْمَشَ القدَمينِ، لكنِّي أسيرُ

أبعث الهَديُّ للرّيحِ مساءَ كل صلاةٍ

هَدْلة من شمالي…

هَدْلة من يميني….

واحرَّ ممَّا أنا فيه ……!

*

قادمٌ من الجنوب في اتجاه الجنوب

أغربُ في القولِ…

ويحسبني المدرك للسّر والنّجوى

والجاهر والخافت …

والناطق والساكن …

مصففاً شعرَ البلوى

راعناً في ظلام..

هائماً في دنيا الكلام

أعزل في رمض اللقاءِ..

بِيرُومَانِياً..

أتماهى بتلَهُّبِ رشَّاتِ المطرِ  ..

أتراشقُ ذررَ الجمرِ لأتلف بصيرة القمر  …

حرقتُ أسمالي ..

كتبي…ديوان حياتي…

حرقت البشرى…

دُميتي …وطريقي للدنيا الأخرى

فلا حَدَدَ أنْ أقصّ جناحي لأترك السَّماء ِلحَدْأة  النَّارِ…

. ولا حِذْقَ لي أن أدثّر البحر رماداً

ويدي تعانق طود الملح ِ….

أنا أسيرُ وفي ذالك منتهى الكفاية..

أتبرأ من لفعِ الحرائقِ  كلمّا بَخَّت سماء الله غيثاً…

وأبثرُ عنِّي شوائبَ الألغازِ

أختفِي  تحْتَ ضحْكتِي …

أسيرُ حتَّى الوقفة الأخيرة …

أتقمصُ شبيه الطّير، ولي في خرقِ الحائطِ كوَّةً للنسيانِ ..

لي سمعتِي في العِصْيانِ..

لي مع الرِّيح عنفوان المَيالِ

شطْحةٌ شَطْحتانِ…

لِي مركبٌ أعرجٌ

يحملُ صندوقاً من خشبٍ

سيَّالٌ العُجب….

موجة رِدْفُها موجة

وملاحٌ

ضريرٌ

واعيْنَايْ ألاَ تبْكِيَانِ …!

*

أكمش القدمين لكنِّي أسيرُ

أبعثُ للغائبِ سلامةْ….

وليعذرني إن كنتُ على ثمالةْ…

أنا طائر  بيرومانيٌّ ضحية

تعْمِيَة في الخلقِ ام في الخليقَةِ؟…

***

عبد اللطيف رعري

مونتبولي فرنسا

10/01/2024

(حكاية خرافية)

عنَ لسلطان البلاد أن يتفقد بنفسه أحوال الرعية، فخلع رداء الحكم والسلطة وتجرد من كل ما يمت للسلطان بصلة، حتى وزيره الأول تركه وحده يديرالأمور، فسار فى خلفه رجل فقير يجوب البلاد، وبعد وقت أحس بالعطش ولم يكن أعد للطريق ماء أو طعام، فوقف على باب بيت، فطرقه وانتظر، فخرجت إليه صبية تبدو على سيماها النعمة والجمال، فبهر السلطان بجمالها، ثم تدارك أمره، فقال:

- يريد الغريب شربة ماء، جزاكم الله خيرا

فابتسمت الصبية، وكأنها عرفت فى سيماه وجه السلطان ثم أجابت:

- سمعا وطاعة.. انتظر قليلا أيها الغريب.

وكانت قد قرأت فى وجه الغريب ما يدل على حاجته إلى الطعام أيضا، وبعد قليل عادت الفتاة تحمل فى يدها كوبا مليئا بعصير القصب، وصرة بها طعام، وقالت:

- اشرب أيها الغريب، أما الطعام فلعلك تحتاجه أثناء الطريق.

شرب السلطان العصير وأخذ الصرة وكاد أن يضع يده فى جيبه ليقدم للفتاة شيئا ولكن جيبه كان خاليا، فقال لنفسه لسوف أكافئها بعد عودتى إلى القصر، ثم وجد نفسه يسأل الفتاة سؤالا بدا غريبا من رجل فقير غريب:

- بكم عود من القصب ملأت هذا الكوب؟

تبسمت الفتاة وتأكد يقينها أن هذا الرجل من أهل السلطة، لعله الوزير أو الوالى أو السلطان نفسه، فقالت:

- هذا الكوب من نصف عود فقط، أما الطعام الذى بين يديك فرزق ساقه الله إلينا من البحر والسماء.

وكان بالصرة سمكا مشويا وخبزا طريا.

عند ذلك خجل السلطان من نفسه، وكاد أن يعتذر؛ فشكر الصبية وسار ليكمل جولته فى البلاد، فى آخر النهار عاد السلطان من الطريق نفسه قادما إلى بيت الصبية،فأخذ يدق الباب، فلم يرد أحد، أصر على الدق فخرجت له عجوز مكفهرة الوجه، وقالت:

- ماذا تريد أيها الغريب ؟

فقال السلطان فى لهجة المعتذر الفقير الجائع العطشان:

- شربة ماء يا سيدتى الكريمة تبلون به ريق رفيق سفر غريب.

نظرت إليه العجوز شذرا، وقالت:

- ألست أنت الرجل الغريب الذى شرب العصير هذا الصباح من يد ابنتى؟

فقال السلطان:

- نعم، أنا هو.

فقالت العجوز:

- إذن قل للذى أرسلك أن الماء قد نضب والزرع قد جف، فالماء قليل والحصاد جديب، لأن نية السلطان قد تغيرت، فقل الرزق، انتظر قليلا.

ثم سرعان ما عادت بكوب من العصير ليس فيه إلا اقل من نصفه، وقدمته للغريب.

- تفضل.. أعرف أنه لن يرويك.

فشرب السلطان، وحمد الله، ثم قال للعجوز:

- لقد ارتويت، لقد فهمت، قولى لابنتك أن السلطان فهم درسك وعليها أن تقابله فى القصر صباح الغد.

ويروى أن السلطان لم يزد قدر الضرائب المفروضة على الرعية هذا العام،أما الصبية فقد عينها وزيرة ولم يتزوجها كما يروى فى ختام الحكايات الخرافية.

***

د.محمد عبدالحليم غنيم

 

في أَزمنةِ الحروبِ

والأَوبئةِ والخرابِ

يَكْثرُ القتلةُ واللصوص

والفقراء والمجانينُ

والشعراء المداحون

والمتثاقفون المرتزقة

وكُتّاب التقاريرِ الرخيصة

والمُخبرونَ المجانيّونْ

والمتشاعراتُ والردّاحاتُ

والمتشاعرونَ والطارئونْ

وتكثرُ بناتُ الليل

ونساءُ المتعة

ومجاهداتُ النكاح

وبائعاتُ الهوى والهواءْ

والغلمانُ المثليونْ

والقَوّاداتُ والقوادونْ

والصبيّاتُ اللعوباتْ

والصبيانُ النزقونْ

والمهرجونْ والغانياتْ

والصعاليكُ الشحاذونْ

والبناتُ المهووساتْ

والادعياءُ والطارئونْ

والاغبياءُ والسفهاءْ

والعملاءْ والخونةُ

حدَّ التفاهةِ والجنونْ

ويكثرُ أيضاً

تجارُ الدينِ والسياسة

والمالِ والجنسِ والافيون

والحروب العبثية

والحروب الفنطازية

والحروب الوطنية

ويكثرُ الذين هم صمُّ بكمٌ عميٌ

ولا شيء يعرفونْ

ويكثرُ الظلاميون

والطغاة والطائفيون

والشياطين والذئاب

والافاعي والثعالب

والغزاة الدمويون

* يمكنكم الأن:

أن تضيفوا ماتشاؤون

من الأشياء العجيبة

والغريبة والرهيبة

والتي توجعُ القلوب

والتي ترعب الناسَ

والمدائنَ والدروبْ

آآ آآ آآهِ ايها الزمن الخؤونْ

آآ آآ آآ آآهِ أيها الوطن المسكونْ

باللعناتِ والقُساةِ والجناةِ والزناةْ

والذين يزنونَ باللهِ والارضِ والحياةْ

وينهبونَ ويُتاجرونَ ويقامرونْ

بالوطنِ الحزينِ والوحيدِ

والمريضِ والتعيسِ والحنونْ

والمجنونِ والمحزونِ والملعونْ

والذي لايريدونَهُ أن يكونْ

فكيفَ يُمكن أنْ ينهضَ من خرابهِ

هذا الطائرُ المظلومُ والمكسورُ

والمغدورُ والمذبوحُ والمدفونْ

في هاويةِ الغيابِ والخرابِ والجنونْ؟

كيفَ؟ ومتى؟ وهلْ ...يُمكنُ أنْ يكونْ؟

ونحنُ لنْ ننقذهْ

ونحنُ لنْ نحملهْ

ونحنُ لنْ نُشفيهْ

ونحنُ لنْ نَحْميهْ

ونحنُ مَنْ خرَّبَهْ

ونحنُ مَنْ ضيَّعَهْ

ونحنُ مَنْ نَدّعيْ

بأننا بابليونْ

وأننا سومريونْ

وأننا آشوريونْ

وأننا أَكديونْ

وأننا سِنّيونْ

وأننا شِيعيونْ

وأننا مسيحيونْ

وأننا صابئيونْ

وإننا كرديونْ

وتركمانيونْ

وسيريانيون

وأننا شيوعيونْ

وأننا بعثيونْ

وأننا إسلاميونْ

واننا مُخْلصونْ

وأننا وطنيونْ

وأننا

وأننا

وأننا عراقيونْ

فَهلْ نحنُ حقاً :

عراقيونْ؟

يااللللللهْ ... ياربّااااااهْ

هَلْ نحنُ:

عراااااااااااااااااقيونْ؟

أَنا أَشكُّ وأَشكُّ وأَشكُّ

وليقولوا... ما يقولونْ:

فليقولوا بأَنني خائنٌ وكافرٌ

وملحدٌ وسافلٌ وناقصٌ ومجنونْ

نعم ... أنا مجنوووووووونْ

بحُبِّ بلادي أَنا مجنووونْ

وبحبِّ شعبي وأَهلي

أَنا مجنووونْ

ومجنون بحُبِّكَ ياوطني

مجنووووونٌ ... أنا ... مجنووووونْ

م

ج

ن

و

و

و

و

و

و

و

نْ

***

سعد جاسم

 

يـــا  أقــصى حَــقًا لا تَــقْلَقْ

أبْـــوَابُ  الــعودةِ لــمْ تُــغْلَقْ

*

الــنّــصْرُ قــريــبًا قــد يــأتي

فَــجْرُ الــتّحْرِيرِ لــنا أشْــرَقْ

*

يـــا  قُــدْسُ رِجَــالُكِ نــيرانٌ

كــجَــهنّمَ إنْ فــارَتْ تَــشْهَقْ

*

والــخَوْدُ إذا انْتَفَضَتْ غَضَبًا

لا  تــقربْ مِــنْها يــا أَحْــمَقْ

*

سِــرْحَــانَةُ  ذِئْـــبٍ جــائــعةٌ

الــمــوتُ  بــعــينيها أبْـــرّقْ

*

غــضــبٌ عــربــيٌ مــشتعلٌ

مــــوجٌ   هــــدارٌ  وتــدَفّــقْ

*

الــــقــدسُ أمــيــرةُ عِــزَّتِــنا

الــويــلُ لــمــنْ فــيها بَــحْلَقْ

*

مــا عُــدْنا نَــرْجو مُــعْتَصِمًا

يــأتــيكِ عــلى فــرسٍ أَبْــلَقْ

*

لـــزوالٍ  يــمْضِي صَــهْيونٌ

ودعــاوى مُــغْتَصبٍ ْتــغْرَقْ

*

كـــمْ  تــاجَــرَ فــيــها قـــوَّادٌ

يــلْــهُو  وَيُـــرَاوِغُ كــالْزئبقْ

*

يــــأتــيْ  بــشــعــارٍ رَنّـــانٍ

وّيُــزَيَّنُ  بــالأَقْصَى الــبيرقْ

*

لــلــقدسِ طــريــقٌ مَــعْــلومٌ

لا لَــبْــسٌ فــيــهِ ولا مــفْرَقْ

*

فــلــمــاذا تَــبْــقى مُــنْــشَغِلاً

كيْ تَبْحَثَ عنْ دربٍ مُلْحَقْ ؟

*

أطْــلِــقْ لــلقدسِ صــواريخًا

صَـــدَّامٌ  قــبــلكَ قــد أطــلقْ

*

لــكــنّ حــقــيقتَكمْ ظَــهَــرَتْ

وبــبــحرِ خــيــانتِكم نــغْرَقْ

فــالــخوفُ يــساورُكمْ هــلعًا

وعــروشُ الــحكمِ لها رَوْنَقْ

*

تَــبْــني أحْــلامًــا مــن ورقٍ

وتــخوضُ البحرَ بلا زورقْ

*

سَــنُــلَبّي  يـــا قـــدسُ نــداءً

ونُــزِيلُ حِــصَارًا قــد أطْبَقْ

*

مـــا  عـــادَ الــوهْمُ يُــخدِّرُنا

بــحشيشِ الــشيطانِ الأزْرَقْ

*

وســنــأتي  أفْــوَاجًــا تَــتْرَى

ونــشــيِّعُ  أرْواحًـــا  تُــزْهَقْ

*

أحـــرارًا  نَــحْيا أو نَــمْضي

لــلْــجَــنَّةِ  أحــيــاءً تُـــرْزَقْ

*

شــهــداءُ الــعــودةِ يــاوطني

قُــــربــانٌ ودمـــاءٌ تُــهْــرَقْ

*

لِــتَــعُــودَ الــقــدسُ لأُمّــتِــنا

يَــكْــسُوها الــلَيلَكُ والــزَّنْبَقْ

*

ونــعــودُ عــصافيرًا جَــذْلَى

فــرِبَاطُ الــحقِّ هــو الأوثَــقْ

***

عـبد الـناصـرعـليوي العبيدي

 

مَثَله مَثَلُ رحم الأرض

دافئ في ظلامه

أليف في صخره

لا وحي فيه

إلاّ… همس الأرض !

*

في حوشنا القديم

مائدة الشّاي كانت تجلس القُرفصاء

في الظل .. بيننا

مرة في الصّباح

مرة في البكاء

حينما

خرجت جدتي في بياض البياض

اِنتظرت

اِنتظرت

ولم تعُد

*

في حُوشنا القديم

أبي .. متربّع على حصيره

حبّةٌ إثر حبّة … في سُبحته

صحراء في صمته

أسمر في جبّته

البيضاء

أمّي

عروس دائما

ما أحلى بسمتها في سِواكها

بين الجمر والفنجان يدُها

لمّاعةٌ فضّتُها في سوارها

أمّي

*

في حُوشنا القديم

الشّمس

ترتقي… تتدحرج أمامي

ثمّ تغرق في الرّمل

النجوم

أقرب إليّ من السّوق

كم مرّة اِشترت عيناي

تصاوير بالألوان

من الأقمار

كم مرّة ركبت الهلال أرجوحة

وغسلت له يديه

في إناء الفخار

*

في حوشنا القديم

الشّوك والحصى

أقدامي كانت الأرض

على مدى البصرْ

بلا حذاء .. بلا حدود

وبلا جواز سفرْ

***

سُوف عبيد – تونس

الوقت مسافة

بين الصحوة والنسيان

والحنجرة الكرستالية

علامة دالة على النباهة

حين الغناء وحين

الضحك والابتسام

2 -

قربك من النهر

نورس وبعدك عن

الينابيع هدهد حزين

وسنونو يبحث عن

قطرة ماء

3 -

وحدك  تستطيعين

رسم على جدار الحزن زهرة

وعلى جدار القلب

بنفسجة ذكرى

ونرجسة نسيان

***

سالم الياس مدالو

إضـاءاتُ الـنـزاهةِ ليس تَخفى

مـتى بـزَغَـتْ يُـبـاركـها الأَنـامُ

*

نَـقـاءُ الـقـولِ تَـعْـزِفُـهُ السَــجايا

اذا سُــرُرُ الــوفـاءِ ، لــه تُــقـامُ

*

مـنازلُ إنْ ثَـوى الإيمانُ فــيـهـا

يُـلاقـي حــتْـفَـهُ المَـكْـرُ الـزؤامُ

*

وإن نالتْ سِـماتُ الوصْلِ صِدْقا

فــلا زَيْـفٌ يـــدومُ ولا خِـصـامُ

*

فـكَـم مِــن نَــزْوةٍ أوْدَتْ بــحُـبٍ

فَـضاع الـحُــبُ واشــتـد الـملامُ

*

حديـثٌ إنْ حَـوَى كَـذِبَا تَـهـاوى

وأفْـصَحَ عـن حَـقِـيـقَـتِهِ الـرُكامُ

*

لَـعَـمْـرُكَ مـا عَلا نَـجْـمٌ جُـزافَـا

شُـــعـاعُ الـنـور للأدنـى زِمــامُ

*

إذا كـان الجَّـمالُ جـمالَ حُــسْنٍ

بـلا خُـلـقٍ ، فـبـئـس المُسْـتـدامُ

*

وإغـراءٌ بـحَـرْفٍ ، فـــيه زيْـفٌ

مَـكائـدُ يــسْـتَـقـي مـنها الـلِـئـامُ

*

إذا ما الـحُـرُّ أسْـفَـرَ عـن نــقاءٍ

تهاوى الزيفُ وانكـشف الظلامُ

*

وإن لاذ الـحـوارُ بــثـوب شــكٍ

ولم يُـفـصِح سـيـتـبعه انـفـصـامُ

*

ومَـن أخـفى عـيـوبـاً فـي لـسـانٍ

فــفي نـظـراتـِه ، يـبـدو الــكـلامُ

*

ربـيـعُ الخُـلْـدِ ، فـي خُـلقٍ وعـلمٍ

ومَـأثَـرَةٍ ، لـهــا نُـصْـبٌ يُــقــامُ

***

(من الوافر)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

 

أبِلْعـــِدْوان ِجِئْتُم والعتـــاد ِ

لتحرير العِبَاد َمن البلاد ِ؟!

*

لشَرْعِيَة ِالسراب ِوكل وهْمٍ

وفرضاً للحصار الإقتصادي

*

ونشر معاول الإرهاب حزماً

وإحلال السلاح بثوب ِ(هادي)!

*

وزرعاً للشقـــــــاقِ بكل شبر ٍ

وقصفا ً للحيــــــاة وللجماد ِ

*

خسِئْتُمْ يا صهـــــاينة ِ العقال ِ

وسُحقا ً يا زبـــــانية النوادي

*

وهيهات ٍ لمرتًــــــزق ٍ عميل ٍ

صفيق الوجه مزدوج الفساد ِ

*

يداس ُ كــ(بَعْرَة ٍ) بنعال دون ٍ

ويذعن ُللسِّفاد ِ ..وللسِّفاد ِ !

*

فلا (أمم الضلالة) سوف تُجدي

ولا كعب الكعوبِ لكم بفادي!

*

ولن يبقى لِوَكْرِ الجُورِ (أفعى)

و(هيمنة) السقوطِ إلى رمادِ!

*

أما تدرون أن الشعب لبَّــــــى

نداءالحُر: (حي على الجهاد ِ)!

*

له في كل حادثة ٍ حديث ٌ

شديد البأس ..متَّحد الأيادي

*

فذوقوا وَبَـال ماجئتُم إلينا

نكالا ً بالحذاءِ .. وبالزنـــاد ِ

*

فقد خَابَ العِدا جواً..وبَرَّاً

وأفلحنا بصبر ٍ ..واتحاد ِ

*

فمن أبدى لنا سِلماً..سَلاماً

فأهلاً بالسماحة ِ..والوداد ِ

*

ومن رام البلاد بســـوء فعل ٍ

فمقبرة (الغزاةِ) له تُنــــادي !

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

٢٠١٩م

العصفور الاول:

سقط من عشه

لا يعرف ماذا يفعل

والى اين يطير

رفض ان يتسكع

خلف اسوار الظل

لم يفهم ما معنى

كل الدروب تفضي  الى الاحراش

**

العصفور الثاني:

طائر مهاجر

خرج عن السرب

لا هوية ولا وطن له

لعل الريح تحمله

الى غابات استوائية

صارت تحت حصار حطاب غاصب

**

العصفور الثالث:

عصفور جريح

لاحقه صياد

يصرخ ملء حنجرته

امام نسر طاعن في السن

يحلق ثم يحط على  جحر افعى

**

العصفور الرابع:

عصفور أسير

كان ينتظر فوق غصن شجرة

متعددة الابعاد

في عشه بيضة واحدة

يتردد في فقسها

**

العصفور الخامس:

خرج من شجار عنيف

فوق اغصان عالية

ريشه غير مكتمل النمو

وجد ثعبانا

يرقد في عشه

**

العصفور السادس:

عصيان عصفور نادر

يرفض قوانين الطيران

ومراسيم اللعبة

مد اظافره

ونشر ريشه خارج القفص

**

العصفور السابع:

عصفور يصعب العثور عليه

فهو في منفاه

لا يفكر بالرجوع

الى شجرة يحرسها الذئاب

**

العصفور الثامن:

عصفو يحمل لافتة تقول:

هنا كان يرقد النسر الطاغي

في عشنا المصنوع

من نشارة الخشب

في وطن مغتصب

**

العصفور التاسع:

حمل الحجارة بمنقاره

ليشيد جسرا معلقا

يصعب التعشيش فيه

**

العصفور العاشر:

عصفور لا احد يريده

لا القفص

ولا فرع شجرة يستضيفه

فقد عشه وحريته

فصار يتحدى غرف الاعتراف

ومخافر الشرطة

وحرس الحدود

*

اما الحجارة

التي اسقطت العصافير العشرة

فقد التقطها بعض السيارة

وقدمها هدية لمتحف الاحجار الكريمة

تبركا واحتفاء بالزعيم البطل

***

بن يونس ماجن

 

امتلأت قاعة الشركة عن آخرها. احتفال بهيج، نهاية سنة وولادة أخرى. موسيقى تستوطن المكان وتسافر به الى عالم آخر. كله سحر وهدوء وجمال. كان الاحتفال. وكانت، هي هناك، ترمقه من بعيد. من وراء باب مكتبها. تتبعه بنظراتها الخجولة. تراقب كل حركة من جسده وكل تعابير وجهه. تبتسم لما يبتسم، تخاطب نفسها "هل لاحظ اهتمامي به؟" تسافر من جديد مع كل حركة من حركاته النشيطة. تخاطب نفسها من جديد وهي تكاد تحضنه بعينيها "أكيد لاحظ اهتمامي به وبكل حركاته وسكناته." ابتسمت وفي غفلة منها، اقتربت منها زميلة لها، وقالت لها في هدوء وسرية" أما زلت متيمة به؟" انتفضت كطائر جريح، وقالت لها "أنا؟ لا أبدا. لقد نسيته منذ مدة." وعادت تتكلم معها في أي كلام. لكن نظراتها ظلت بعيدة عنها، تراقبه وتغازله.

توارت عن الأنظار، لما لاحظت أنه تائه مع الآخرين في حديث وضحك. عادت الى مكتبها وعينيها تشعان حزنا وألما. مسحت دمعة هاربة وأعادت الى خزانتها هدية صغيرة كانت قد اشترتها له. فهي دائما تحب المفاجآت، وتحب أيضا أن تفاجئ من تحب. سمعت صوتا تعرفه جيدا يلقي تحية مؤدبة، التفتت. كان هناك، متكئا على حائط مكتبها ويرسم على شفتيه ابتسامة هادئة. كأن نظراتها سافرت اليه وحكت له عن حبها. خجل شديد على محياها، ارتباك غير مفهوم. ضحك بصوت مسموع. وقال لها "الكل يحتفل وأنت هنا. هل أنت مشغولة؟" فركت يديها دون وعي منها، وابتسمت وقالت له بصوت مبتهج" لدي عمل متأخر وقلت أنجزه اليوم."

اقترب منها وقال لها "لدي هدية، أرجو أن تقبليها مني." تردد كبير. "كيف علم بأنني أنا أيضا اشتريت له هدية؟" همست في غفلة منه. أخذت الهدية وكل جسدها يرقص فرحا. انها اللحظة التي كانت تنتظرها منذ سنة. احساسها لا يخونها. "انه يبادلني نفس الشعور" هكذا عبرت في صمت وهي تستعد أن تكتشف هديته. قال لها وهو يراقب حركات يديها وملامح وجهها الذي تحول الى ساحة صراع لإحساسيها: "هل أعجبتك؟" كانت ساعة يد رقيقة جدا وبسيطة جدا. قال لها "انها تشبك." ابتسمت كطفل حصل على هدية يوم العيد. وقفت وابتعدت عن مكتبها وقالت له بعينين دامعتين" جميلة جدا. شكرا لك." احتار في أمر الدموع، مسح دمعة فارة من مقلتيها وقال لها: "لماذا الدموع؟" لم تتمالك أحاسيسها التي استولت عليها وفضحت ارتباكها وفرحها، قالت له" انها دموع الفرح. أنا سعيدة جدا بهذه اللحظة." ثم تابعت دون أن تنظر اليه" أنا بدوري، اشتريت لك هدية." ابتسامة عريضة استوطنت شفتيه، وهمس اليها بصوت حنون" أين هديتي؟ " فتحت درج مكتبها وأعطتها له وهي ترتجف كأنها ارتكبت جرما. دقات قلبها ارتفعت، تردد سيطر على خطواتها كأنها تنتظر نتيجة الامتحان. فتحها وقال لها" لماذا أنت دائما متميزة؟ انه كتاب جد مهم ونادر. أين وجدته؟ " لم تكن تنتظر هذا السؤال. كانت ابتسامتها كالبدر أنارت المكتب، جلست الى مكتبها ونظرت اتجاه الباب حتى تتحاشى نظراته التي لا تقوى على مقاومة اغرائهما وقالت له" هل تذكر يوم زرنا تلك المكتبة المتواجدة في آخر الشارع؟ وقلت ساعتها ان هذا الكتاب جد مهم." أثارته هذه التفاصيل الصغيرة التي تنتبه اليها. مع أنه نسي تماما أين ومتى دخلا الى تلك المكتبة.

كلام وحديث ثم ضحك. وانطلقت كالريح تتسابق مع أنغام الموسيقى وتتحدث الى كل زملائها وزميلاتها، كانت الفرحة تكاد تنط من عينيها الخجولتين. في لحظة هاربة من أجواء سعادتها، سمعت صوتا يطلب من الجميع أن ينتبه. التفتت، كان هناك أحد مسئولي الشركة يزف خبر خطوبة حبيبها الذي أحبته في صمت، مع احدى زميلات العمل. كانت مفاجأة لها وحدها. كما قالت لها زميلتها" الكل هنا انتبه الى العلاقة التي بينهما منذ مدة. الا أنت. لقد نبهتك وقلت لك أنه يتلاعب بمشاعرك." ظلت حائرة، تنظر اليه وتحاول أن تفهم. فاختفت عن الجميع وانسحبت في هدوء. مشت تحت المطر وصوت الرياح القوية. وهي تحمل كم كبير من الحزن. لم تفكر ولم تتكلم. ما ان وصلت الى بيتها، حتى انفجرت بالبكاء.

فكرت في السفر حتى تنساه، قررت في لحظة دون تفكير مسبق، أن توافق على عمل كان مدير شركتها قد طلب منها أن تقوم به وكانت جد مترددة نظرا لتعلقها بحبيبها. كانت تحبه جدا وتفرح لما تراه، وتبتسم لما يلقي عليها تحية الصباح. قبلت العرض وسافرت على الفور.

احتمت بعالم تلك البلدة، وبناسها وهواءها وسكونها. بيت صغير ودافئ، حاولت أن تعمل كثيرا حتى لا تهاجمها صوره وكل اللحظات التي قضاياها مع بعض. انتابها شعور بالإحباط والملل، خرجت تكتشف المدينة، وتنساه. فقد كان حب من طرف واحد. وكل العلامات كانت تدل على ذلك، لكن عشقها له، منعها من الرؤية الصحيحة. مشت كثيرا دون هدف، تلقي التحية وتبتسم. شعرت بسلام داخلي وتأكدت من أنها اتخذت القرار المناسب لأنها بدأت تشعر بحالة سلام داخلي ينام بين أحاسيسها. لكن ما ان تخطت عتبة باب البيت، حتى تذكرت كيف أنه اشترى لها هدية وفي نفس الآن أعلن خطبته على أخرى. صرخت "كم كنت غبية." ساعتها، رن جرس الباب، "من سيكون وأنا لا أعرف أحدا هنا " همست لروحها ومسحت دموعها التي تهاجمها كلما تذكرته. كان بالباب رجل مسن، أنيق جدا. يحمل ابتسامة جميلة على شفتيه. ابتسمت أيضا وقالت له بكل هدوء:

- أهلا سيدي،

- أعرف أنك لا تعرفينني، أنا صاحب هذا البيت.

ابتسمت أكثر ورحبت به أكثر. وقالت له:

- لقد دفعت ثمن الكراء لشهر كامل. هل هناك من مشكل؟

جلس وهو يفتح معطفه وقال لها:

- كل شيء على ما يرام. فقط أنا تعودت أن أعرف بشكل شخصي كل من يسكن بيتي.

طلب كأس ماء ثم أضاف:

- أنا أرمل، توفيت زوجتي منذ سنة. أولادي يشتغلون خارج البلد. ففكرت أن أكتري هذا البيت وأعيش في شقة صغيرة.

ازدادت طمأنينة وهدوء بال. وارتاحت له كأنها تعرفه من زمان. جلست بدورها وهي تبتسم وتنتظر ان يكمل حكايته. تابع:

- قررت أن أكلف شركة مختصة في كراء الشقق. لما أخبروني بقدومك، فضلت أن أحضر بنفسي اليوم لأتعرف عليك.

لاحظت كم هو طيب وأنيق ويتحدث بشكل جيد. فهمت أنه متعلم. سألته:

- هل يمكن لي أن أعرف ماذا كنت تشتغل؟

ابتسم من جديد واتجه بنظراته صوب غرفة بالبيت مغلقة ثم قام وقال لها:

- اتبعيني، أخرج مفتاحا من جيبه، وفتح باب الغرفة.

انبهار كبير على محياها. كانت تنظر وتتأمل في ذلك الكم الهائل من الكتب المتراصة بشكل أنيق ومرتب.

قال لها:

- كنت أعمل صحفي بإحدى الجرائد. وأنا مولع بالشعر وعملت العديد من الحوارات الأدبية والسياسية ...

ظلت صامتة كأنها حصلت على كنز، ضحكت ورقصت من الفرحة. فقالت له:

- لماذا تترك هذا الكنز هنا؟ ألا تخاف ان يسرق؟

جلس وراء مكتبه ونظر اليها وقال:

- لهذا أريد دائما أن أتعرف على من يسكن بيتي. سألها بشكل مفاجئ:

- هل تحبين القراءة؟

- نعم، ربما هي الشيء الوحيد الذي ظل وفيا لي.

قام من وراء مكتبه واقترب منها وقال لها:

- أنا ارتحت اليك كثيرا يا ابنتي، فيك شيء من ابنتي البعيدة عني. سأترك لك هده الغرفة مفتوحة لكن بشرط أن تحافظي عليها كأنني موجود.

طارت فرحا وقبلته، لم تكن تعلم أن الحظ سيبتسم لها بهذه السرعة.

عاشت تلك الأيام في هدوء داخلي، انكبت على مهمتها التي جاءت من أجلها. وفي نفس الآن، كانت تقوم بحبس نفسها لساعات داخل المكتبة حتى يحل الليل. سعدت بحياتها الجديدة البعيدة عن تلك الأيام الحزينة. في يوم، وجدت بين الكتب التي كانت تتفحصها، ورقة، ملامحها قديمة. تجرأت وفتحتها. كانت عبارة عن اعتراف حب من طرف واحد. كانت مفاجأة بالنسبة اليها. "هل كل ما يقع لي عبارة عن صدفة؟" قرأت الاعتراف المختوم بحرفين م- م.

نامت وهي تحمل بداخلها قصة الاعتراف الذي يشبه قصتها مع الاختلاف في الزمن. تعودت خلال تلك الفترة أن تتكلم مع السيد الأنيق صاحب البيت بالهاتف كلما لزم الأمر. يومها قررت أن تدعوه للعشاء لتتعرف عليه أكثر وخصوصا أن مهمتها قربت على الانتهاء. كانت سعيدة كطفلة، نسيت الأمس الجارح. أعدت عشاء متنوعا، كانت تنتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر لأنه بداخلها سؤال كبير عن ذلك الاعتراف. ولا تدري كيف ستكون ردة فعله.

أمضيا ليلة جميلة، حكى لها عن حياته وكيف عشق مهنة الصحافة وكيف أن هذه المكتبة أنجته من الاكتئاب بعد وفاة زوجته. تجرا أكثر وسألها:

- إذا سمحت لي، هل أنت مرتبطة؟

لم تكن تنتظر هذا السؤال، لكنها وجدته فرصة لفتح الباب لكل تلك المعاناة التي ما تزال ترفض الرحيل من داخلها. ابتسمت كعادتها وقالت له:

- أحببت زميلا لي بالشركة، كنت أعتقد أنه يبادلني نفس الحب. رغم تحذير زميلة لي منه. كنت عمياء، أفرح لفرحه، وأبكي لبكائه. اساعده في عمله. كنت لا أرى سواه.

تركت الحرية لدموعها تسبح فوق ملامحها الحزينة، كأنها لم تتكلم منذ زمن وأكملت:

- يوم علمت بخطبته من أخرى، حاولت أن أغرق نفسي في العمل. وأحتفل، وأتسوق، وألعب رياضة. لما ألج بيتي، ألفني لوحدي، أغرق في البكاء وأنهار.

انتبه السيد الأنيق، لحالتها النفسية التي تغيرت. حاول تغيير النقاش، قال لها بكل هدوء:

- اسمعي يا ابنتي، لست وحدك من مر من هذه التجربة. تجربة الحب من طرف واحد.

وبدأ يحكي قصته التي قرأتها في ورقة الاعتراف. كم كانت محرجة أن تفاتحه في الموضوع، فجاء الجواب من عنده.

وقال لها:

- الكتب أنقذتني من حبي الأول، وأنقذتني من الموت بعد وفاة زوجتي التي كانت هي حياتي.

فجأة وقفت، ضحكت وقبلت رأسه وقالت له:

شكرا لك، لقد حررتني من سجن كبير كنت أعيش فيه رغم محاولاتي المتكررة للهروب منه. وأطلقت العنان لآهات متكررة وصرخت بكل سعادة:

- الآن أنا ارتحت وصرت حرة وطليقة.

قبل أن يودعها، قالت له:

- أطلب منك أن تغفر لي جرأتي.

ظل صامتا ينتظر. ولم يشأ أن يحرمها من تلك الفرحة التي كانت تنط من عينيها كأشعة شمس يوم صيفي. وتابعت:

- بالأمس، وأنا في المكتبة وقعت بين يدي ورقة اعتراف حب، ومختومة بحرفين: م- م

قبل أن تكمل، نظر اليها واتجه صوب الباب، توقف قليلا ثم قال لها:

- انها حكايتي التي حكايتها لك قبل قليل. والحرفان هما اسمي، محمد واسمها مريم.

خرج وتركها تعيش حالة من الفرح والتردد والتأمل. انطلقت كالسهم الى غرفة نومها وعانقت وسادتها ونامت كما لم تنم من قبل.

اتصلت به في اليوم الموالي، دعته الى لقاء في مقهى بالمدينة. وهي فرصة لتشكره على ثقته وعلى الساعات الجميلة التي قضتها بصحبته وجعلتها تستعيد ثقتها بنفسها وتتحرر من صمتها. خلال استعدادها للخروج، جرس الباب من جديد، فتحت. كان هناك، لم تتوقع أنه سيكون هو. حبيبها الأول، حل سكون ليل البراري. ظلت واقفة أمام الباب. نظرات متوجسة، ارتفعت نبضات قلبها. قال لها بابتسامة واثقة:

- كيف حالك؟ لقد اشتقت اليك.

- .....

- هل سأظل واقفا؟

 ...

- لم أستحمل غيابك المفاجئ. وقررت أن أحضر بنفسي لأشرح لك كل شيء.

- لدي موعد مهم، وأرفض أن ألتفت الى الوراء. وأنت ورائي الآن.

انطلقت سعيدة، تكاد تطير من الفرح لأنها استطاعت أخيرا أن تقول له إنك لم تعد تهمني. واحتفلت مع السيد محمد بلقائهما. وطلبت منه أن يزورها في بيتها لما تعود الى عملها.

***

أمينة شرادي - المغرب

لا تمر فرصة الاِّ ويتبادر لذهني هذا الكائن الجميل بيلوان.. ويرغمني على توطيد العلاقة بيني وبينه..

عيبي أنِّي كسرتُ الجرَّة

عدد زفراتي..

لا كنز بها كما تدعي الجدة

ولا تركتها للماء حافظة..

مُفرِطَ العِنادِ برأسٍ فرقعهُ الپَّرادوكسْ

تهيُّجنِي المتشابهات

وتنذرني باليأسِ الطويلِ

خلطة الغربان ولقالق الجَابِيرُو ..

عكازتي من كرمة نبيذية لا تقودني لصوابٍ عيناي جَبَّنَها شُرودي الهستيري

وأقدامِي تتَرنَّحُ بلا ثباتٍ .. .

مشَّاءٌ بين اليمينِ واليمين

أقَرِّظُ الوجْه الذَّميمِ بما ليس فيه.. .

وشّحتُ صدرَ المنتظر بحَبلٍ منْظُومٍ بكُوكِيَاجَات فرَّ عنها البحر..

ولازلتُ أنشُّ فراغَ يدَاي من رَائِحةِ الأكْفَانِ وأتحاشَى لمس لِحيَتِي الهَلْهَالةْ..

مخافة إيَّابِ موسمِ الديدانِ ..

راهنتُ على وجهي مسافة أصبعين منَ المرْآةِ.. حينها علمتُ أنِّي شبَحٌ بشع..

بنيتُ شَرَكاً لذكرياتِي كيْ تنامَ الأبد

وأعيشُ لوحدتِي مائة عام..

لكنِّي، انتهيتُ بوسطى أصابعي تحتَ ذقني.. ! خرجت أنقبُ عنْ بديلاً لكَ يا بيلوان..

المرأة الخشبية التِّي تغارُ منْ عينكَ

قلَّصَتْ شَغَبها

وراحتْ تَبْحثُ عنْ غيرِي في ماخُورِ الدعَارةِ..

لم تعدْ تعتني بالصحون..

ولا تنكسُ حيِّزَ حُلمِنا..

كلمّا مرَّتْ بمكنستها ترميني بغُبارِ الدارِ.. وأهديها تقاسيم وجهي وأقول لها:

ولوِلِي وَلْوِلِي .. .

وتردُّ: تْفُو تْفُو..

لا نهاية للكلابْ ..

ليتنا متنَا قبْلَ حِينٍ..

وليت قابض الروحِ مرَّ منْ هنَا..

بيلوان.

. أفتقد فيكَ حتَّى الآن سِمةَ الدعابةِ.

. أفتقِدُ فيكَ شروطَ الأمانةْ..

أفتقِدُ فيكَ منْطِقَ السلمِ والسلامَةْ

أفتقِدُ فيك أنانيتِي .. عزَّتي.. خُلْوتِي.. نخوَتي.. نشوتي.. حياتي وما حيِّيتْ..

عفواً يا بيلوان لقد مرَّ الطُوفان وخَطفَ منِّي بعض من ذكرياتي معكَ ..

وها أنا أنسجُ مِنْ رذاذ المطرِ

قماشاً لإخفاء ما تعرَّى منْ هيكلكَ..

وها أنا أقِفُ في وجه الرِّيحِ

حتّى يظل قبركَ أهمَّ إنجازاتي..

بالله قل لي:

من أين لك بهذا البهاء..؟ "

وتاكْ الموتْ"..

ننتظرُ "رشَّة مِمنْ بَالَ عليكْ"..

عُدنِي فجراً أو قبل الظهيرة بقليل أمسدُ ظهرك ونلهو معاً "لعبة هاكْ وأرَا".. .

لن أزعل هذه المرَّة حين تلطخُ حذائي بالوحلِ.. لنْ ألعن يوم ميلادك كما كنتُ ..

سأقرأ لك كل قصائدي الممنوعة من النشر..

ونتقاسم نخب الإنتصارات..

لمْ يعُدْ منذُ رحِيلكَ أحدٌ يصرخُ في وجهي

وأنا ألعَنُ حاكماً

ويتوعدُنِي آخر بخِصَائِي أمام العمومِ.. .

انتهى زمن العصيانِ

وصرنا خرافاً كالخرفان .. ..

آه يا بيلوان هل أتاك حديث الطّغاة في الوطن..؟

يتأهبون للرَّحيل..

عدْ لقبرك يا بيلوان

مُتْ ألف عام لا شيء تبدّلْ

فوق صخرة الذهب أنت المتَوَّجُ كأحسن خلق للذِّكرى..

بيدي سعفة الحاضر أهشُّ بها على دبابة المستنقع..

بيدي شمعة تغازل ريح ميناء رفح..

وتملِّي غزَّة بالشهيدِ..

. ها أنا منشغلٌ بآخر بقايا سفينة نوح

هل تعلم يا بيلوان لم ينخرها دود ولا تسوّستْ الماء لا يأكل الخشب

بل

الخشب يشرب ماء

سأعيدها إلى أعلى الجبل تحَسُّباً لطوفانٍ قادمٍ.. عبد

***

عبد اللطيف رعري - مونتبولي

07/01/2024

وَدَخلنا العامَ محْروسينَ بِالجّنِّ وَرُؤيا العارفاتِ

قد دخلناهُ وَمِنْ بابِ فَقاقِيعِ الأغاني

وبزمّارِ التَّعاويذِ وأوزارِ الأماني

بنعاسِ الكلماتِ في بِطاقاتِ التَّهاني

مُشْرئِبًّا كان هذا العامُ مِن ثُقْبِ التَصاويرِ

يُفَلّي الذِّكْريات

غَضَبٌ يَخذِلنا

وظلامٌ راعَهُ ظُلمَتِنا

فدخلناهُ رَحيبًا وحَريصينَ بزهو وجنون

*

قد دَخَلنا..

بأهازيجِ مَلاكِ النازِلاتِ

خُلعةً يُسْرجُها الوَهمُ لثيرانِ المآثرْ

قبلَ انْ تَعْبرَ في الحَلقِ ذُبابه

نحوَ إغْضاءِ العِواصفْ

*

قد دَخَلنا..

بِجرادِ الحوْلِ والْقوَّةِ

أَنَّى يَنزَغُ السُّلطانُ في مَغنَمهِ حَمدًا وشُكْرا

وَزنَهُ الرَّيْبُ إِلى خُبْثِ الكبائِرْ

قد مَلأنا كُلّ صَحْراءِ العروبْ

بسيوف الخانعين

*

قد دَخَلنا..

مشجَبًا تَرقدُ فيهِ جُثّةُ العامَ الجديد

وفيوضٌ مِنْ صِياغاتِ التواريخِ اللّئيمةْ

وذيول من خيول الغابرين

قد نَسيْنا قَبْضَةَ الدّرْعِ وصَدّقنا الرَّخاءْ

وحَلَلنا رَبْطَةَ الصّدقِ وأبدَلنا القِناعْ

كالأميراتِ السّبايا

نَسْتَرِّقُ السّمعَ من جُحْرِ العدوِ

علّهُم يَرضونَ عَنّا.. عاهِراتْ

*

قد دَخَلنا..

بشهودِ الشّكِ ما جاءَ بهِ حَيضُ المَخابِرْ

غُصِبَتْ خاصِرَةَ الأرضِ وأزْنوا بِالأجِنّةْ

غَيّروا أمْلاحَ قَلبي بِأَساطيرِ السّباتِ

ونَسوني عارِيًا اكظمُ موتي

لُحْمَة موّهَها الباطلُ في فَيضِ سُداهُ

*

قد دَخَلنا..

بدموعِ الأمهات

انهنّ جَنّةُ اللهِ على الأرضِ ومَوالِ السنابِل

ومَرايا الحاضِرِ السّائِرِ فينا

نحوَ مَحوِ الإنكِسار

قُبَلًا من حصّةِ الباقين منا بالبَصيرَةْ

*

قد دخلنا..

ومعَ المَجدِ بِبارودِ الحروبْ

قَوسهُ الطافَحُ بالدّمِ وأحْشاءِ الصّغارْ

لِينادي لِيعاسيب الملوكِ القتلةْ

أنتم الباقون حتى انْ خَسِرتُمْ

سوفَ نَعْتادُ على لونِ الجريدة

واقتصادِ الضّحكَةِ المُنضَبِطَةْ

...

...

ودخلنا العامَ مَهزومينَ بالصّمتِ كَزيزانِ الحُقولْ

صَوتُنا عالٍ ومنْ دونَ حِوارْ

سَقَطَتْ منّا الشِفاهْ

سَقَطَتْ أذْرُعُنا

وتَوارَيْنا سَرابًا في دُجى تيْهِ الخَراب

دونَ دارٍ او جدارْ

كلّنا الآن حِصارٌ في حِصارْ

فانْثُرينا

انْثُري أيْتُها الدُّنيا الدَّنيئةْ

جَمرَةَ الحَربِ وفَيْروسَ الفَناءْ

*

أيّها الواقِفُ عِندَ العَتَبةْ

قبلَ ان تَدخُلَ من بَوّابةِ العامِ الجَديد

لتُضِيءَ من دُروبِ الحَقِّ دَربًا

او تُصلّي في المَنامْ

**

طارق الحلفي

 ............

* المَخابِر: جَمعُ مَخْبَر ومُختَبَرـ مكان الفحص وإجراء التجارب

 

حين أَحلُمُ

أَمسكُ بقبضتي

بتلابيبِ الرِّيحِ

أسرُجُ حِصاني

وأحرِّكُ الكَونَ بصولَجاني

حين أحلمُ

لا تعرفُ الورودُ

لونَ الذُّبولِ

ولا يفترقُ الأَحبَّةَّ

ولا يصمتُ حَسُّونٌ

ولا يغادرُ شَحرورٌ

ولا يموتُ في البِحارِ

مُهاجِرْ

حين أحلُمُ

لا يخشى اليمامُ

طلقاتِ الصَّيادِ

ولا تختبئُ السَّناجِبُ

بينَ الأغصانِ

ولا تَحكمُ جاداتِ الحيِّ

عصاباتُ الأوغادِ

حين أحلمُ

لا تسقطُ ورقةٌ خضراءُ

ولا تموتُ أُغنيةٌ

ولا تعرفُ الفُرقَةَ

أرواحٌ وأفئدةٌ

ولا يعتري نُورُ الشَّمسِ

أُفولٌ

حين أحلمُ

يعزِفُ مَوجُ البحرِ نغماتِهُ

فيرقصُ النَّرجِسُ

وتتمايلُ سَنابلُ القَمحِ

وتموجُ طرباً

زُهورُ الأقحوانِ

كُرمى للعُشَّاقِ

وحبَّاًّ لعيونِ

عبلةَ وليلى

وابنةِ الجيرانِ

حين أحلمُ أحاربُ

الكونَ بقصيدةٍ

أرسمُ ألوانَ الطّيفِ

بعد ليلةٍ ماطرةٍ

أغازلُ لَوحتيَ الأثيرةَ

وأشربُ نَخبَ الحُبِّ

في كلِّ المؤتمراتِ العالمية

وأهتِفُ بصَوتٍ مَبحوحٍ

مُطالِباً بِحُقوقِ الرَّعيةِ

من غير أن أخشى

ضَربةَ سَوطٍ

أو قبضةً حديديةً

حين أحلمُ

يموتُ الصَّقيعُ

ويصيرُ لطيفاً وهجُ الشَّمسِ

ولا ينامُ أبداً

وجهُ القمرِ

ولا تكفَهِرُّ وجوهٌ

ولا يعتري الحُزنُ

أصواتَ العصافيرِ

وقسمات وجوهِ الشَّجرِ

في عهودِ حُلمي

لا تفنى فراشاتٌ

ولا تُغتالُ أفيالٌ

ولا تُصلبُ في السَّاحات

عاشقاتٌ

ولا تَتعَفَّنُ في الزَّنازين

أُمنياتٌ وأجسادٌ

حين أحلُمُ

جِراحاتُ الهَوى تلتئِمُ

ودموعُ الأمَّهاتِ تَعتكفُ

وتصيرُ البَسمةُ عَادةً

وتُغرِّدُ في كلِّ حينٍ

ضَحكاتٌ وتَرنُّ قهقهاتٌ

ويصبحُ كلُّ العبيدِ سَادةً

أحلمُ وأحلم ثم أحلمُ

من غير توقفٍ ولا نِهاية

***

جورج مسعود عازار

ستوكهولم السويد

 

لا شِعْرَ فيها فالْكلامُ مُباشِرُ

وَقَصيدَتي فيها الضميرُ مُحاوِرُ

*

أمواجُ (كامِلِها) تَمورُ صَراحَةً

فَلِسانُ حالي في الصَراحَةِ باتِرُ

*

هذا طَريقي في الدُنا وَطَريقَتي

لكِنَّ حَظّيَ في الصداقَةِ عاثِرُ

*

غالى مُثَقّفُنا الشَقيُّ تَغرُّباً

وَعلى غِناءِ الوافِدينَ مُثابِرُ

*

يَهْذي بِفَلْسَفةِ الأنامِ مُكابِراً

وَلَكم تَباهى في الهذاءِ مُكابِرُ

*

يَجْترُّ أوْشالَ الذينَ تلاعبوا

بِتُراثِنا حتى تضيعَ مَصائرُ

*

فَعَلى موائِدِهمْ يَتيمٌ بينَما

هُوَ عن مُعاناةِ الثَكالى نافِرُ

*

ياناكِراً وأْدَ الطفولةِ غَفْلَةً

قد زادَ من وَجَعِ الطفولةِ ناكِرُ

*

مُتَعاطِياً أفْيونَ تطبيعِ النُهى

يَحسو ثُمالَةَ غاصِبٍ وَيُعاقِرُ

*

تَرَفاً يُحاكي زيْفَ فلسفةِ الورى

وَبِلَغْوِها بينَ الديارِ يفاخِرُ

*

هَجَرَ اليَنابيعَ التي في روحِهِ

وراحَ يلهثُ خلفهم ويُغامِرُ

*

لِقُشورِ ما نَثَرَ الكِبارُ مَهابَةً

ألْفيْتُهُ مُتَعبّداً يَتَصاغَرُ

*

يَهْفو رُوائِيٌّ الى شَطَحاتِهمْ

وَيَهيمُ في هَذَيانِهِمْ مُتَشاعِرُ

*

هُوَ سادِرٌ في غَيِّهِ وَغُرورِهِ

وَمِثالُهُ في الفلسفاتِ أكابِرُ

*

مِنَ الذين تَكَلّموا وَكَأنّهمْ

أرواحُ صِدْقٍ للورى وَضمائرُ !

*

مُسْتَشْرِقينَ: أديمُ الشرقِ أسْكَرَهمْ

وَعيونُهُمْ خلفَ الكُنوزِ سَواهِرُ

*

سَرَحوا دهوراً في لُحاءِ جُدودِنا

نطقتْ أزاميلٌ لَهمْ وَدَفاتِرُ

*

رَقَصوا على أشلاءِ ماضينا كما

رَقَصَتْ على صوتِ الفُؤوسِ مَقابِرُ

*

حَمَلوا رُؤى الأسفارِ فوقَ ظهورِهمْ

وَقُلوبُهمْ بالخافياتِ تُجاهِرُ

*

لا يَطلبونَ سِوى الحقيقةِ غايَةً !

وَبالأمانةِ والنقاءِ تظاهروا

*

كانوا الطليعةَ للغُزاةِ الى الحِمى

وَتَجاهلتْ عينَ الدَليلِ مَعابِرُ

*

يمشي على آثارِهمْ مُسْترْشِداً

وَفُؤادُهُ خلفَ القوافِلِ حائِرُ

*

نَسِيَ الفتى القَيّافُ أنَّ طَريقَهُ

نحْوَ السَليقةِ والبَهاءِ مُغايِرُ

*

لم يلْتَفِتْ سَهْواً لِغَزّةَ هاشِمٍ

مُتَغافِلاً عَمّا جَناهُ الغادِرُ

*

هل فِرْيةُ الإرْهابِ أعمتْ قلبَهُ

أم بيتُ صهيونَ الضحيّةِ طاهِرُ؟

*

يا أصدقاءُ الحَرْفِ لَستُ صَديقَكُمْ

قد فرَّقَتْنا في الدُروبِ مَجامِرُ

*

قلبي مَعَ (القَسّامِ) أقْسمَ كُلّما

حاقتْ بخارطةِ الجُدودِ مخاطِرُ

*

مرّوا على المَسْرى العظيم مواكباً

خلفَ الضياءِ لكي تُضاءُ منائرُ

*

نَزَلوا إلى نَفَقِ الوغى لا رَهْبَةً

لكنّ بُرْكانَ البواطِنِ ثائِرُ

*

فاهبِطْ إلى سوحِ النِزالِ مُنازلاً

خيْرَ الفوارِسِ ياعَدوّي الطائرُ

*

ياساكنَ النَفَقِ المُضاءِ بِنورِهِ

بَصَراً حَديداً تقتفيهِ. بصائرُ

*

طلّقْتَ أبهاءَ القصورِ تَزهّداً

وفي جِنانِ الخُلْدِ قصرُكَ عامِرُ

*

إحْدى معاني الحُسْنَيْنِ وكُفْؤها

فطريقُ عِزٍّ بالكرامةِ ظافِرُ

*

أنتمُ كُماةُ (الفَتْحِ) ليسَ سواكُمُ

فظهورُهم للعابِرينَ قناطِرُ

*

يا أدعياءَ (الفَتْحِ) كُفّوا لَغْوَكم

فالرأسُ ثوْرٌ في المعاركِ خائرُ

*

مُستجْدياً مُتَوَسّلاً عَطفَ العِدا

وعلى النشامى ثَمَّ وَغْدٌ فاجِرُ

*

هل صارَ أشباحُ الجزيرةِ قُدْوةً

مأْمورُها يرغو بما يَجودُ الآمِرُ

*

أَوَجَدْتمو دربَ الحضيرةِ طَيِّعاً

فاسْتبْشرتْ عِنْدَ اللقاءِ حضائِرُ

***

د. مصطفى علي

هَلْ تتذكّرُ ما قالَتْهُ لنا شاعرةٌ عمياءْ

حينَ اِلتَقَطَتْ أُذْناها ما قُلنا ذاتَ مساءْ

كنّا نتحدّثُ عن أشعارٍ لَمْ نَكْتُبْها

وحياةٍ لم نَخْبُرْها

كنّا نتمنّى

أنْ نمشي فوقَ الماءْ

ونُحلّقَ في الأجواءْ

كنّا نَزْعُمُ أنّ الشعراءْ

لا تُغْرِقُهُمْ غيرُ مياهِ الشّعرِ

و لا يحتاجون إلى أجنحةٍ للطيرانْ

قالتْ دَعْكُمْ..

من أوهام كاذبةٍ .. دَعْكُمْ

فأنا عمياءَ، ولكنّي

أبصرُ في عقلي أوضحَ منكُمْ

ما تضمرهُ الأمواجُ،

وما تُخفي الأيّامْ

عنّي، أو عنهُمْ، أو عَنْكُمْ

قلتُ لهُ هَلْ تَتَذكّرُ؟

قالَ تذكرتُ الآنَ،

خُلاصَةَ ما سأَلَتْ :

هل أحدٌ منكُمْ

يعرفُ كَمْ مرّ بدنيانا من شُعراءْ؟

ماذا كان اسم الأولِّ منهُمْ

ومتى قالْ

أولّ ما مرّ بخاطرِهِ من أشْعارْ؟

كانَ يحاولُ أنْ يتذكّرَ أكثرْ

لكِنْ لَمْ يتذكرْ

شيئاً أزْيَدَ يُذكَرْ

..............................................

..............................................

قالتْ واثقةً

تلكَ الشّاعرةُ العمياءْ

إنّ الشّعرَ يحلُّ اللّغزَ،

ويبتكرُ الأضواءْ

قالتْ هذا ومضتْ

تاركةً لكلينا أسئلةً

ظلَّتْ دونَ جوابٍ حائرةً

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن - أستراليا

في البدأ كانت الوان قوس قزح

ترسم على سقف السماء

وكانت "الموناليزا"

تخفي ابتسامتها

خلف فرشاة دافنشي

فجاء الغمام  ذات صيف عاصف

وعلى متنه توابيت مستعملة

تتأرجح بين الارض والسماء

غيرعابئة بسراب تائه

يطارده مطر المنفى البعيد

*

النمر المرقط

هذه المرة غير جلدته

والحرباء المخاتلة

تتردد في انسلاخها الجسدي

اما الليل حتما

فلن يغير لونه

والشمس لن تتخلى عن ضوئها البرتقالي

والقمر مل من اصفراره

فلا الصقيع مبتهج بجليده

ولا النار ابتلعت

رماد الهشيم

*

ارض خراب تعبت من الزلازل

ورائحة الموت

تشيع الشهداء تحت الانقاض

ويبقى الامل يراود الاموات

من جديد

*

في وطني ارواح فاقدة الوعي

مكبوتة الاماني والاحلام

مسكونة بهواجس نرجسية

تنظر في المرأة كثيرا

فترى ما لا يراه الزعماء

*

لا شيئ يدعو

الى تسونامي آخر

فقد نامت العاصفة المتمردة

على كتفي قوس قزح

والخائفون من الضباب الكثيف

يرسمون على الرمل

سرابا وغيمة حبلى بطغاة جدد

***

بن يونس ماجن

 

في زمن مضى كان الإنسان يفتقد إلى الوعي، ولم يبق له سوى الأمل كحلمه الوحيد. ففي أحد الأيام أشرقت شمس الصباح، واحتفل الإنسان بيوم  جلاء  الغبش الطويل، فاستيقظ الإنسان فرحًا على عالم متجدد ورحيب، يحمل رسائل المستقبل، ويعطي الأمل حقه الطبيعي. عالم يفتح الأبواب للحرية والازدهار.

وفي إحدى الليالي الهادئة، وبينما كان الإنسان نائمًا ويحلم بنشوة الحرية، وفجأة استيقظ مصدومًا ليرى وجوهًا غامضة تعصب عينيه، ودون سابق إنذار أخرجوه من السرير. ثم ألقوا به في زنزانة ضيقة ومظلمة جدًا لا يصل إليها أي ضوء، وكان سقفها مرتفعًا إلى ما لا نهاية، وجدرانها سميكة للغاية بحيث لا يخترقها الصوت.

وفي هذا الحبس الجديد، لم يمنح الانسان نفسه فرصة التأمل لافتقاره إلى شريان الفكر، فلجأ إلى حل ساذج للخروج من مأزقه: ففي جوٍ يسوده ظلام دامس، لا يحتاج الإنسان إلى الرؤية، لذلك عمد إلى اقتلاع العيون من محاجرها. وبما أن الصوت مكتوم فلا يحتاج الإنسان إلى الكلام، فوضع اللسان بين الأسنان وقطعه على الفور. ولم يكن هناك شيء يستحق السماع عن الأمل، لذلك صفق الإنسان على الأذن بقوة فمزق أغشية السمع. وعاش في سجنه أصم أبكم لا يسمع.

***

كفاح الزهاوي

ليس لي ذَنْب ٌ

سوى أنَّي مواطنُ

في (بلائي)!

يَقْطُنُ البَرْدُ ردائي

وحياتي دون ماء ِ

دون أدنى كهرباء ِ!

ودوائي..

عِلٰةٌ أخرى

لأسْلِحَةِ (العِدا) المُنْحَط

في نَشْرِ الوبــــــــــــــــاء ِ!؟

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

٢٠١٨م

حين توفي أبي كانت الدولةُ كلها في عطلة رسمية لأسبوع بسبب الحداد العام. الحداد ليس بسبب وفاة أبي بالطبع، ولكنه بسبب وفاة "الزعيم" الذي كان يحكم البلد في وقتها. وكان سبب وفاة أبي كما نظنُّ، أنه لم يجرع مرارة فقدان الزعيم الذي كان يحبه كثيراً، فحدثت له أزمة قلبية توفي بسببها. في الحقيقة أنني لم أحزن على وفاة أبي كثيراً. نعم تأثرتُ بعض الشيء لكنني كنتُ مرتاحاً بيني وبين نفسي. لأنني قد نجوت بأعجوبة من إهانات وضربات أولاد المحلّة التي كنّا نسكن فيها آنذاك. أولئك الأولاد الذين كان أبي يعذّب آباءهم في معتقلات الزعيم. حين كان يعمل جلّاداً في معتقل أمني، وكان كلما اعتقلتْ مباحث الزعيم رجلاً من رجال المحلّة بسبب شبهة أو تهمة ملّفقة، عذّبه أبي لنزع اعتراف منه بشتى أنواع الجلد والضرب والاضطهاد. وهذا الأمر دفع بأولاد المحلّة الذين تعتقل السلطات آباءهم، إلى أخذ ثارات آباءهم المعذبين منّي. فبعض الآباء حين يُفرج عنهم ويعودون إلى منازلهم بعد نجاتهم من الاعتقال، يحكون لعوائلهم عن الشخص الذي كان يشرف على تعذيبهم. وهكذا لم تتوقف هذه الدوامة إلا بوفاة أبي، ونجاتي ونجاة أهل المحّلة من هذه المحنة. كان أبي يقول أن الزعيم خالد، وأنه لن يموت، وحين كانت أمي تصلّي يسخر منها، ويقول لها صلّي باتجاه صورة زعيمنا، إشارة منه إلى أن الزعيم هو الرب الذي يؤمن به ويعبده. والذي كان يعلّق له صورة في كلّ ركن من أركان المنزل. ولشدّة هذا الحب للزعيم الراحل لم يحتمل أبي مرارة فقده، فتوفي بعد أن سمع بموت الزعيم ببرهة قصيرة. وعادة حين يموت الإنسان لا يموت ماضيه معه. ذلك الماضي الذي عاش فيه أبي ولم أرث منه سوى لقبي - ابن الجلّاد- الذي ظل لصيقاً بي. وفشلت كلّ المحاولات التي مارستها لكي أمحو الماضي، أو أزيل اللقب عن كاهل سمعتي في المحلّة. فقد ظل كما أسلفت ملتصقاً بي كما تلتصق العِلْكة بشعر الفتاة. على الرغم من تكلّف الملاطفة مع الآخرين، والسعي في عمل الخير هنا أو هناك. ظل الناس ينظرون لي على أنني واحد من أبناء الجلّادين. ولم يشفع لي اللطف ولا أعمال الخير في إزالة تلك الصورة عنّي. ولستُ أدري ما هو الشيء الذي يرضي الناس؟!. فليس هناك من صنيع خير إلا وصنعته!!. ولم يتبق إلا الرحيل من المحلّة وتركها للأبد، تاركاً السمعة واللقب اللذين ورثتهما عن أبي. وهذا لم يحدث بسبب الدافع الذي كان يدفعني لتغيير صورة العائلة. متخيلاً أن رحيلي من المحلّة سيكون انهزاماً وهروباً لن أعيش بعدهما في رخاء أبداً. وهنا تفجّرت في ذهني الفكرة الخطيرة. إن كنتُ أريد محو اللقب والسمعة فيجب عليّ أن أقوم بعمل بطولي. عمل يغطي بفداحته على كلّ الآثام التي ورثتها وأرهقت كاهلي. حين توفي الزعيم استلم من بعده ابنه مقاليد الحكم. لم يتغير النظام كثيراً. لقد بقي كل شيء على حاله. الشيء الوحيد الذي تغير في صور الزعيم. حيث تم دمج صورة الابن مع صورة والده في الشوارع والجداريات العامة. وهنا فكّرتُ أن أفضل وسيلة لصنع تاريخ جديد للعائلة، هو أن أنضم إلى جماعة مناوئة لنظام الزعيم الجديد. وإذا دخلتُ المعتقل وتعرضت للتعذيب فسيكون هذا يوم سعدي. على الأقل سيُقال عنّي أنني بطل ومناضل ضد الحكم الجائر، وغيرها من صفات الشهامة والرجولة. غاسلاً بهذه الصفات كل أدران الماضي. وسينسى الناس لقب "ابن الجلّاد" ويبتكرون لي لقباً جديداً بلا شك. لكن الحظ السيء كما يبدو لا يفارقني. لأنني قبل أن أشرع في هذه الخطوة زارنا ذات يوم أحدُ الجلّادين الذين كانوا يعملون مع أبي. وأخبرني أن دائرة الأمن ترغب في أن أحلّ محلّ أبي في وظيفة شاغرة. نزل عرض الجلّاد كالسوط على بدني. ولم أملك خياراً سوى الرفض. كيف أقبل بعمل في مكان كان يعمل فيه والدي مازلتُ أعاني من سمعته الشائنة؟!. لهذا رفضت الوظيفة الشاغرة ولم يكن رفضي مباشراً، بل تحجّجت بحجج واهية لكي أفلت من القبول بذلك العرض الذي كان مغرياً. وقبل أن يخرج زميلُ والدي الجلّاد من المنزل، خرجتُ قبله لكي أطالع الشارع خوفاً أن يراه أحد. والمصيبة أنه حين خرج من المنزل قد لمحه أحد الجيران. وكما هو مألوف لدى أهل المحلّة. خبر زيارة زميل والدي لنا انتشر كالنار في التبن. وهذا ما أضاف لمهمتي الجديدة عبئاً في إقناع الناس أن لا شأن لنا به. ولم يتبق سوى أن أضع مكبر صوت وأنادي بأعلى صوتي في شوارع المحلّة: أيها الناس صدقوني، لقد تم عرض عمل عليّ في معتقل الأمن ورفضت كرهاً وبغضاً. ومع كل المحاولات لكسب ثقة الناس بي إلا أنني لم أفلح. حتى الجماعة التي كنتُ على وشك الانضمام لها سراً، عن طريق صديق حكيت له عن تمنياتي في مناوئة هذا النظام. رفضتني ولم تقبل الانضمام لها، وابلغوا صديقي أن يتركني وشأني، لأنهم ظنّوا أنني جاسوس أعمل لدى النظام. وزيارة الجلّاد زميل والدي لمنزلنا كانت الضربة القاضية التي قصمت ظهر أحلامي. حتى عشتُ أيامي في نكد ومشقة، حين أمشي في الشارع ويخزرني الناس بأعينهم. تلك الأعين التي كانت تشتمني بنظراتها الحادة. ثمّ مرت الأيام وأنا محبوس في المنزل. أراقب بين حين وحين العالم من النافذة. وأعود إلى غرفتي مطالعاً صورة أبي المعلقة. وكانت تجلدني تلك الصورة بسياط الحزن وأنا أتمتم: لماذا... لماذا؟!. حيث صرتُ أعيش ما بين سياط ماض لم أرث منه سوى لقب مشؤوم وإهانات وضربات أولاد المحلّة. وبين حاضر ومستقبل يجلدني بسياط العار والهوان. ولم أجد لي ملاذاً سوى التصوّف والانعزال عن الناس. في محاولة منّي لغسيل نفسي من كدوراتها وأحزانها. وهذا الشيء ساعدني في أن أتعرف على شخص أرشدني إلى جماعة دينية. كانوا يرحّبون بأي عضو ينضمّ إليهم. بغض النظر عن تاريخه وسمعته!!. وبالفعل كان الأمر جدّ سهل والمهمة في الانضمام لم تكن عسيرة. أيام وأيام من اللقاءات بالإخوة الذين كانوا في الجماعة. إرشادات وخطب سرية مناوئة للنظام. وصلوات وأحاديث تحثّ على تزكية النفس والشريعة والعقائد. حتى أطمأنت نفسي مع هذه الجماعة الإيمانية، وصرتُ لا أقو على مفارقتهم والامتثال بأمرهم. الشيء الوحيد الذي لفت انتباهي أن الجماعة كان أفرادها جلّهم من الغرباء. وعرفتُ لاحقاً أن الأمر مقصود ومقنع في الوقت ذاته. حتى يسهل الفرار والإفلات من أيدي النظام. هنا عادت إليّ ثقتي بنفسي. لأنني وجدتُ في هذه الجماعة المنظمة طريقاً للثأر لكرامتي ومحو ذلك التاريخ المشين الذي تركه لي أبي. وشيئاً فشيئاً صرتُ أتقرّب إلى أن اصبحت أن الذي يؤم المصلين في مقرّنا السري. فقد حصلتُ على المباركة في الصلاة من "شيخ الجماعة" الذي لم نكن نلتقي به. ولم تصلنا أوامره إلا عن طريق وسيط منّا. والسبب أن الجماعة تخشى على حياة شيخنا المستور وراء حجاب الحيطة والحذر. ثم جاءت الأوامر من  شيخ الجماعة بعد أن كثر عددنا واشتد عودنا. وصارت لدينا القوة لكي نخرج إلى الشارع. حيث أُمرنا أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر في المحلّة التي كنّتُ أعيش فيها. وهنا جاءت الفرصة لكي أردّ الصفعة لتلك المحلّة التي نبذتني سابقاً. حيث سأعود لها وأنا في صفّ جماعة لا تأخذها في الحق لومة لائم. وبالفعل كنتُ والإخوان نلقن أهل المحلة دروساً قاسية في الالتزام بما نأمر به وننهى عنه. حتى وصل الأمر إلى استعمالنا "التواثي"* لكي نؤدب المخالفين والمارقين على تعاليم الجماعة. وكنتُ أنا شخصياً أحمل العصا ضارباً بها من أراه خارجاً عن أوامرنا. ولم أزدد في عين الناس إلا احتراماً وخشية، وفي عين الجماعة إلا مكانة وحظوة. حتى همس في أذني الوسيط الذي كان يربطنا بشيخ الجماعة. وقد أخبرني أن الله اجتباني لنعمة كبرى. إلا وهي اللقاء بشيخ الجماعة المستور. حيث سأفوز ببركات اللقاء به ومباركته لي شخصياً. وبالفعل ذهبنا سوية إلى المكان الذي كان يسكن فيه الشيخ. حيث كان على وشك اللقاء بي وبإخوة أخرين من جماعات متفرقة تابعين له. وبعد تبادل السلام والتهاني بيني وبين الإخوة الآخرين، دخل علينا شيخ الجماعة الذي استقبله الآخرون بالتكبير والتهليل. كان الجميع فرحين بهذا اللقاء إلا أنا. حيث تسمّرت في مكاني مدهوشاً. أطالع بفضول هيئة الشيخ ووجهه وملامحه التي بدت مألوفة عندي. لقد كنتُ أعرف جيداً هذا الشيخ على الرغم من ملابسه البيضاء وغترته ولحيته الطويلة. خصوصاً بعد أن نظر إليّ مبتسماً وصار يطالعني حين اقبلت عليه مسلماً. فعرفت فوراً حين صافحني بحرارة، أنني قبلتُ من حيث لا أدري بالوظيفة الشاغرة التي عرضها عليّ من قبل.

***

أنمار رحمة الله – قاص عراقي

.............................

* التوثية: باللهجة العراقية تعني العصا الغليظة

 

أنا عميلٌ سريّ للحدائق العامة

وللبساتين المتجاوزةِ على مساحة النهار

أتوارى داخل تويجات الورود الغافلة

وأسرقُ شَفراتِ رسائلِها العطرية

وعندما تتعبُ الأشجارُ من الوقوف

أتبادلُ معها الأدوار

لأتحسّسَ رحِمَ السواقي الحوامل

ومن مخبئي السريّ داخل اليقطينة

أراقبُ مؤامراتِ المطر

وأردّ عليها بالطشوتِ والقبعات

**

أنا العميلُ السريّ

للمزارع المزهوّة بأقراطٍ من الخنافس

أكتبُ تقاريرَ عن إصابة الحشائشِ بالصَلَع

وأقترحُ نقلَها للنوم في سريري

وأبالغُ في تقدير خطورة الخصوم

فأوصي بارتداءِ اليعاسيبِ نظّاراتٍ سود

**

أنا العميل السريّ للغابات الولود

تلك التي تُنجبُ في كلّ ولادة

آلافاً من غرف النوم والاستقبال

أبحث عن فسائلَ تُقاسي الوحدةَ واليُتم

وعن براعمَ مَلّتِ العملَ بدوامٍ كامل

فخرجتْ للتنزّهِ حاسرةَ الوجه

وربما أتّهمُ الفراشات والديدان بالخيانة

فأوعز للمقصّ بشنّ حملات تفتيش

وغاراتٍ مفاجئة

**

لا ضرورةَ لإنكار بصمةَ إبهامي

فأنا عميلٌ لسلطات الخضرة من أقصى الأمزون

حتى مذابح النخل البصرية

أتبعُ الدعسوقةَ إلى مستشفى الولادة

متوسلاً إليها أن تُنجبَ توائمَ

ببقعٍ تومض كالمصابيح

وأوقّع مواثيقَ لتقاسم الفصول

ما بيني وبين حديقة الجيران

فلا ساقيتهم تجرفُ حصّتي من الضوءِ إلى تقاويمهم

ولا ساقيتي تُغري ضفادعهم بالانتساب إلى أبنائي

**

أنا والأحراج

تدرّبنا في المعسكرات المُعطّرة بأنفاس الطين

وتقاضينا ثمن عمالتينا عناقيدَ عنب

ربما في غدٍ أتحوّلُ شجرة

فتنمو لأكتافي أغصانٌ وأوراق

وتُحوّلُ عظامي نُخاعَها إلى نسغ

***

شعر: ليث الصندوق

يا لها من لحظات ساحرة فردوسية الروح.. كان الربيع يتمايل على أنغامها طرباً.. أومأت الشمس بغمزاتها  القرمزية مودعة رياض الحياة بعد نهار حافل بالعشق والفرح.. وبينما الربيع يزخر بهذه النشوة العارمة حَطت على كفّيه فراشة كسيرة الجناح يخفق قلبها ألما كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة وتودع لحظاتها وتستنجد متلهفة !!

 ارتعد الربيع، وقال: ما الخبر يا فراشتي؟؟؟

  أجابته هامسة: لا أدري يا ربيعي.. أنا فراشة آتية من قوس قُزَح لأنشر السلام والحب في جميع أرجاء الأرض وأُزيّن الدنيا بألواني الرومانسية العاشقة.. كنت أعيش حياة حرة طليقة.. أزهو بألواني.. أغازل أكمام الزنبق وعناقيد الكرز، وألثُم براءة النسيم، وأسابق الريح مع الأطفال.. فجأة طاردني صيادون، وحاولوا اصطيادي فوقعت بين كفّيك ألتمس عطفك وحنانك فلا تتركني..

 طفقت عينا الربيع بالبكاء.. ولامس جناحي الفراشة برفق متناهٍ .. وهمس قائلا: يا فراشتي القُزَحية.. لأجلك سأفعل المستحيل حتى ترفلين ثانية كما عهدتك.. فأدمعت عينا الفراشة من الحسرة، وسألته بغصة: هل أنت ربيع حقيقي؟؟؟

أجاب: أفديك بدمي وروحي يا فراشتي الجميلة، لك ما تشائين، وسأمنحك كل الحب دون مقابل..

وتسأله: أليس بالحب تحدث المعجزات؟؟.. سأبعث فراشة قُزَحية لأجلك ونَغمر الأرواح المستغيثة على الأرض بالأمل إنما أريد مساعدتك..

الربيع: أطلبي.. وسأكون عند حسن ظنك، وإلى جانبك ما حييت..

الفراشة: أريدك أن تطلب من جميع من في الطبيعة، نسيمها، وزهورها، وطيورها،وأشجارها، وحشائشها وفيافيها، وبراريها، ولياليها، ونهاراتها وكل دابة فيها أن يؤازروا بعضهم بعضا وأن يشيعوا المحبة فيما بينهم، وأن يتصدوا لهؤلاء الصيادين الذين يطاردونني ويريدون أسّري و كل الأحرار، وأن يؤدّوا الصلاة والتأمل لسلامة الأرض، ولشفائي هذه الليلة، لأنني لن أبعث من جديد إلا بمحبتكم، وأريدك أن تحفظني في قلبك وتغمرني بدفئك وحنانك ..

فما كان من الربيع إلا أن وعد الفراشة وعدا قاطعا بأن يحفظها في قلبه، ويحرسها بعطفه وحنانه لتنام ملّتحِفَة بشغافه بعد سماعه كلماتها المستغيثة، ثم نادى على جميع من ذكر في الطبيعة طالبا منهم تأدية الصلاة والمواظبة عليها بأمانة وصدق، وكذلك مؤازرة "فراشة قُزَح" في مطاردة الصيادين صباح مساء دون هوادة لتخليصها من براثنهم المميتة..

تملّكت الفراشة سكينة صامتة أنجبت فجراً وردياً مُشرقاً بعدما شعرت بتضامن الآخرين معها، والتفافهم حولها في معركتها حتى تنتصر أحلامها وتتحقق رغباتها، فجأة  طارت  من  قلب ربيعها فراشة ناصعة البياض مزركشة بلون الصفاء والنقاء والسلام.. وقالت: لأجلك بُعثت أيها الربيع لأني أعشقك ولا حياة لي بدونك، ولأجل رسالتي الغالية التي أطمح في إيصالها للبشرية.. ابتسم الربيع بملء شدقيه مجيبا: أنت فراشة قلبي، وتعانقا معا عناق الأحبة..

بعد أن اطمأنت الفراشة القزحية لهذا اللقاء وعلاقتهما الأبدية التي لا ينفصم عراها طارت تعلو نحو السماء والسرور يغمرها..

 ناداها الربيع: إلى أين أنت ذاهبة يا فراشتي البهية؟

أجابته والدموع تملأ مقلتيها: سأعود العام القادم في مثل هذا الوقت.. انتظرني.. أنا مُمتَنّةٌ لك جدا على مساعدتك الدائمة لي ولن أنساها طالما يسري النبض في عروقي.. وكل عام وأنت ربيع عمري وحياتي، والحق، والعدل، والخير، والسعادة.. والربيع الحقيقي.

***

سلوى فرح - كندا

 

صوتُ الحقيقةِ

ناحَ على دروبِ الرَّدى

تُباغتُنا الحروبُ

بأقنعةٍ شيطانيَّةٍ

تُرعِبُنا

وتُشرِّدُنا

وتجعلنا في بوتقةٍ حمراءَ

نتهجّى كلَّ ألوانِ

العذابِ

ونكفرُ بالألمِ في دربِ الظَّلالِ

وهم قابعونَ

يخيطونَ جلودنا

بإبرٍ سامةٍ

ويبيعونَها على أرصفةِ الموتِ

نقاومُ الزَّحفَ… بالزَّحفِ

نصطادُ الوقتَ المبعثَرَ

على قارِعَةِ الشُّجونِ

لطردِ ضبابِها الأسوَدِ

الممتدِّ في كلِّ الجِهاتِ

كعاصفةٍ حمقاءَ

تُدَمِّرُ كياننا وتعبثُ

بكلِّ ما هو جميل ..

***

سلام البهية السماوي

من ديواني النثري (على أجنحة التيه)

 

الساعة على وشك منتصف النهار، وضوء الشمس في يوم صيفي قائظ قد حرك ستائر نافذه غرفة النوم بلهيب رقراق.. فتحت ريحانة عينيها لكن ما لبثت أن أغمضتهما من جديد، واضعة ذراعها على وجهها،فاشعة الضوء كانت اقوى من أن تحتملها مقلتاها..

من شهر وقبل أن يعلن الصيف لهيبه المبكر بعد سنة من جفاف شح فيها المطر، وريحانة تفكر في تغيير ستائر غرفتها بأخرى أكثر سمكا وأشد غمقا. يداهمها أمر مفاجئ فتنسى الستائرالى أن يأتي يوم جديد،تضرب الشمس عيونها صباحا فتنتبه للستائر التي يجب أن تغيرها.. 

أكثر من مرة خرجت لتقتني ستائر جديدة، فتتدفق عليها، ذكريات ماضية في الطريق، فتقصي كل غرض قد خرجت من أجله ؛ كم حاولت أن تتغلب على نسيانها هذا لكن لا تلبث ان تسقط فيه وتتمرغ في جديد طارئ تنشغل به الى أن يتبخر الأصل الذي كانت تعول على إنجازه..

اليوم يوم الستائر عبارة وضعتها في صلب عقلها وعلى طرف لسانها ترددها :

الستائر، الستائر، الستائر... ولاشيء اليوم غير الستائر..

تعد فطورها وهي تركز في نوعية الستائر التي تناسب ألوان غرفتها، تتناول ما أعدته وألوان الستائر هي ما يرفرف أعلاما بألف نوع وشكل، مصفوفة أمام بصرها، تضيف لغرفتها جمالا ورونقا، تغير لباسها وهي تدندن:

طلع الصهد فالراس

 ودوخني حر اليوم

النسيان راه وسواس

يحرك لعتاب واللوم

الرضا بواقعها ما يملأ صدر ها بقناعة،فهي قد فقدت أمها وهي صغيرة، وكان ابوها غارقا في السياسة تبتلعه بمشاكلها الى أن أخذت عمره ففقدت ريحانة كل حنان قد يعوضها غياب الأم، ملأت الغربة كيانها وكادت أن تبدد شخصيتها التي تشرذمت حين هاجر أخوها الى كندا لاتمام دراسته، ولم يتبق لها غير الغربة تعقد معها ألفة وثيقة..

طرقات على الباب تقرع سمعها فترد باسمة :

ـ ستائر انتظري..

 تتوالى الطرقات..من هذا المتعجل الذي اتى ليشغلها عن الستائر؟

يفاجئها بالباب رجل أشعث، كث اللحية ذابل الجسم،يبادرها بسلام..

تدير وجهها وقد أقفلت الباب وهي تقول : "الله يسهل "

صدى الرجل يصل اليها متقطعا كأنه يتوسل أمرا :

ـ ريحانة القلب أرجوك، تمهلي..

بسرعة تعيد فتح الباب وقد فاجأها الرجل وهو يردد اسمها كاملا. تقف أمامه متفرسة في وجهه.."أعد ما قلته"

يخفض الرجل بصره ويردد ـ

لم أقل شيئا للا ريحانة، بادريني بأكل الله يرحم الحاج المعطي..

ردد العبارة بمسكنة وتذلل ولدت في نفسها شفقة ورحمة !!..

تزداد استغرابا، الرجل يعرف اسمها واسم المرحوم أبيها، ربما أحد ممن كان تحت سلطة أبيها.. تشرع له الباب وتدعوه للدخول قبل أن تتحقق ممن يكون.. تتركه وتقصد المطبخ لتجلب له أكلا..

حين عادت وجدته يتفرس في محتويات البيت، وكأنه يسترجع ذكريات ماضية.. ركبتها رهبة جعلتها تأخذ كل الحذر وهي تضع له ما يسد به جوعه.. فما أثارها في الرجل أكثر بكثير مما استكانت اليه، وقد شرع يتصرف وكأن لا أحد يستطيع مقاومته..

دلفت الى غرفة نومها، أخذت هاتفها وحاولت ان تستدعي خالها، إذ يلزمها مؤنس يصد عنها ما قد يباغثها، فصدماتها السابقة في فقدان أمها ثم قتل أبيها غدرا من قبل رجل دنيء الأصل رضيت به زوجا، جعلها تشك في زائر غريب كم تؤنب نفسها بتوبيخ وندم أن سمحت له بالدخول الى البيت وهي وحيدة بلاحماية.. بسرعة يفاجئها الرجل بباب غرفة نومها يتطلع اليها في خبث فتضطرب، عيناه تنفذان الى دواخلها في وقاحة لم تلاحظها من قبل، يسقط الهاتف من يدها :

ـ من أنت ؟ وماذا تريد ؟ تركتك تأكل وأنا بك واثقة، وأمهلتك حتى تنهي أكلك ثم أسألك عمن تكون ؟

كشر الرجل عن أسنان سوداء :

ـ أحقا لم تعرفيني ؟ أنا فعلا تغيرت..ألم تكوني تسخرين من سمنتي ؟..أنا إسماعيل، زوجك، حبيبك، من كنت تسمينه "عبل " خرجت أمس من السجن واليك بادرت بزيارة..شوق الى مطلقتي العزيزة..

ترتعب، حلقها يجف، والحصرم ما يتوقف في حنجرتها، كل مافيها يهتز من رعب، عشرون عاما غيرت شكله.. كان بدينا حليق اللحية، أقصر قامة مما هو عليه الآن..وها هو أمامها بشعر طويل، ولحية كثة، ضامر الجسم وقد غارت عيناه فصارت كل عين في وقب عميق تحيطه حراشيف وقشور. تتجلد متحملة نظراته الوقحة عساها تخفي عنه خوفها، لكن عقلها شغال، يبني حلولا لنجاتها.. تراجعت قليلا الى الخلف، تمسكت بستائر النافذة..

ـ ماذا تريد مني، قتلت أبي،وافترقنا بطلاق،فماذا تريد بعد ؟

يسترسل في ضحكات المكر مكشرا عن أنيابه فتتبدى أكياس صغيرة تحت عينيه كأنها مملوءة بسوائل على وشك الانفجار، رعب أكبر يتملكها، شيطانا يتبدى لها، جثة أبيها تتماوج أمام ناظرها، بدقة تراقب الزائر أمامها في لحظة تحاول أن تطرد صورة أبيها حتى لا يغيبها أثر الحادثة عن حضور البديهة، فينقض عليها كما انقض على أبيها حين فاجأه وهو يفتح خزينته فطعنه بسكين بلارحمة ثم ارداه قتيلا..ولم يتم القبض عليه الا بعد شهرين من بحث وتربص..

يتقدم خطوة منها، عيناه تتحركان كبوصلة تحدد موقعا، أدركت أنه يتقصد أسهل طريقة للارتماء عليها وشل حركتها "قاتل، خبرته كبيرة بكيفية الانقضاض على ضحاياه ".. يرن الهاتف، فيتراجع،و بلهجة آمرة يقول :

ـ ردي على الهاتف،ربما يكون حبيبا،خطيبا جديدا،أليس كذلك؟

أدركت أنه يريد أن يتمكن منها فتعمدت أن تترك الهاتف يرن فوق سرير نومها، لاتوليه التفاتا، حذرة من أن تفقد قدرة تركيزها على الزائر.. يقترب أكثر من السرير، ثقته بنفسه شجعته على أن يمد يده ليلتقط الهاتف،استغلت انحناءه و نثرت ستائر النافذة بقوة، والقتها عليه فصار يتخبط داخلها كمن ركبه مس من جنون، يضرب يمنة ويسرة يحاول الانفكاك من شرنقته..

بسرعة تفتح النافذة وتقفز منها الى حديقة البيت تستغيث.

حاول الهروب بعد أن تخلص من ستائر النافذة فوجد حراس الحي بالباب وقد تنبهوا لاستغاثتها فأطلقوا الكلاب تنهشه نهشا الى أن اتى رجال الشرطة..

خسيس وضيع، لم ينفع فيه سجن ولا عقاب يوم أتى لخطبتها لم يكن غير موظف بسيط قفز بالتملق يرتقي السلالم بسرعة بعد أن ساعد اباها في الانتخابات الجماعية فاستخصه الأب كاتبا له حين تم انتخاب أبيها عمدة للمدينة، ما أن تزوجها بعد تزلف كبير لأسرتها حتى ظهرت أطماعه و نوازعه الشريرة.. انحطاط نفسه جعله يتاجر بأسرار ابيها لصالح منافسيه من تيارات أخرى وعليه يتآمر.

ذات ليلة.تسلل اللئيم من غرفة نومها وحاول سرقة وثيقة سرية وخطيرة من خزانة أبيها ولما كشفه الأب أرداه اللئيم قتيلا ثم عاد الى جانبها لينام قرير العين حتى إذا اصبح الصباح كان ممن روجوا عن أبيها التلاعب بميزانية الجماعة فانتحر اتقاء للفضيحة..لكن دهاء الشرطة كان اقوى من نفسه الشريرة فكشفت لعبته بأثر دم لا يكاد يبين وجد على وسادة زوجته فكان الخيط الذي عرى جريمته التي تم على إثرها حل حزب وتوقيف أشخاص آخرين.. شهران وهو فار متخف في قبو أحد معارضي أبيها الى أن كشفته الزوجة الثانية للمعارض..

لم تنس ريحانة ستائر نافذتها، رحل الصيف وحلت تباشير الخريف بعد إقامة عند خالها لشهور، وعاد أخوها من كندا، وقد هدأت زوابع زائرها القاتل اللئيم الذي تم الحكم عليه بالمؤبد لتختار ستائر لنافذة غرفة نومها وهي أكثر صلابة واوفر ثقة بنفسها، بين عيونها قرار حتمي: لاثقة في سائل متمسكن، ولا شفقة على دنيء وغد..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

ســيذهبُ كــلَّ مــاتركَ البُغَاةُ

وتَــذْرُوهُ الــرِّيَاحُ الــسّافِياتُ

*

ويَــسْقطُ ماادَّعَوْا زَيفاً لشِعْرٍ

ولــنْ يَــبقى لــهُ إلّا الــرُّفاتُ

*

وإنْ شَــغَلَ المنَابرَ والمقاهي

ونــاصَرَهُ الأَكــابرُ والذَّواتُ

*

طلاسمُ أربكتْ عُمْقَ المعاني

ومِــنْ سَقطاتِها انتحرَ النّحاةُ

*

لــيجعلَهَا الــعَييُّ لــهُ مَــلاذاً

إذا ضــاقتْ عــليهِ المفرداتُ

*

تَــلَــقَّفَها الــشّغوفُ بــكلِّ آتٍ

مــن الأغــرابِ كانَ لهمْ أداةُ

*

فلا البحرُ المُقَرفِصُ فوقَ تلٍّ

مـــع الأيــامِ تــرويهِ الــسقاةُ

*

ولا قِــطٌّ يــطيرُ بــلا جَــناحٍ

ومِــنْ طَــيَرانهِ تخشى القَطَاةُ

*

ســيصبحُ قِــبلةً للناسِ مَهوىً

كــنــجمٍ فــيــهِ تــأتــمُّ الــهداةُ

*

فــأَصْلُ الــشعرِ تِــبْيانٌ جَلِيٌّ

مَتَى غَلَبَتْ عليهِ المُبْهَمَاتُ.؟

*

ســيبقى الأصلُ جذاباً جميلاً

مــدى الأيــامِ تــرويهِ الرُّواةُ

*

ســيبقى صــامداً مادامَ عُرْبٌ

بــهمْ نَــفَسٌ وإنْ قــلَّ الرُّعاةُ

*

فــذوقُ العُرْبِ مصقولٌ رفيعٌ

ومـــا تُــغرِيهِ إلَّا الــطيّباتُ

*

ســيَلْفِظُ كــلَّ مــولودٍ هــجينٍ

غــريبٍ قــد يجيءُ بهِ الغزاةُ

*

بثوبٍ عَورَةٍ ما صانَ عِرْضاً

وقد غابتْ عن الجسدِ الحياةُ

*

أَنُــبْدِلُ بالحَصَافةِ شِبهِ عُرْيٍ

ومِــن أَثْــوابِنا غَــارَ الــعُرَاةُ

*

فــلا تركنْ لِمَنْ يَشْتَاطُ غَيظاً

ولا تــسمعْ لِــما قــالَ الوشاةُ

*

فــمَنْ يَــعْتَدْ عــلى زادٍ وفيرٍ

فــهلْ تُــغنِيهِ فــي يــومٍ فتاتُ

***

عــبد الناصرعليوي الــعبيدي

 

المسيح لم يولد

منذُ أعوامٍ عدة.

اليَدُ التي تقرعُ الاجراس

مبتورةُ الاصبع

تَلوَنت خدودُ العذراوات بالسوادِ

انصهارُ الكحل

بجمِر الدمع

يترك ندبا على ثنايا الروح

كُل الاماني ذابلات

أزهار الميلاد بلا روح

على دكِة المغتسل

تنتظُر الدفن!

هطولُ الأمطارِ، ذات شتاء

سَتروي الزرع

هَلّ جفَ الضرع؟

لا قدور على موائد الايتام

لااماني

لا احلام

تمازح لَيل الفاتنات

هلّ باع التاجر اقمشة

بالوان زاهية!

في الصيف القادم

ساعاقر كاس ماء بارد

لكن  أنا

رجلٌ عاقرُ

الا انها

لم تكن كذلك

هذه الارض

انها

ولادة انجبت

خوذاً، ورماحاً

واعذاق  تمرـ

***

كامل فرحان حسوني - العراق

 

في نصوص اليوم