آراء

ثامر عباس: عمامة المثقف.. عصبيات ما وراء الخطاب!

في عراق اليوم من المفارقات والتناقضات ما لا يقوى عقل سليم على الإحاطة بكمها والإلمام بكيفها، ناهيك عن هضمها واستيعابها وتمثلها، لاسيما وإنها لا تخضع لنسق واحد ولا تلتئم في سياق معين، إنما تحدثها النوازع والرغائب الجامحة وتقودها الأمزجة والأهواء المنفلتة . ولعل من أبرز تلك المفارقات والتناقضات إن لم تكن أخطرها على الإطلاق، لجهة مآل الخيارات التي تبشر بها والتوجهات التي تقود إليها بالنسبة لسيرورات المجتمع حاضرا"ومستقبلا"، هي انتكاسة العقل ونكوص الوعي ليس على مستوى (الجماعات) المنظوية تحت لواء عصبياتها – فتلك مسألة مفهومة في ظل هكذا أوضاع مضطربة وظروف شاذة - وإنما على مستوى (النخب) الثقافية والأكاديمية، التي طالما طفحت خطاباتها المدججة بالمشاعر (الوطنية) بإعلان تخليها عن انتماءاتها الأولية وإشهار براءتها من ولاءاتها البدائية .
ولأن ما يحمله عقل المثقف من فكريات، وما يستبطنه وعيه من تصورات، وما يجسّده موقفه من سلوكيات، يعتبر من وجهة نظر سوسيو - سياسية بمثابة (بارومتر) شديد الحساسية، لا يكشف فقط عن طبيعة المجتمع الذي ينتمي إليه ويرتبط بجماعاته فحسب، بل ويميط اللثام عن نمط المسارات والتوجهات التي ينتوي ولوجها حاضرا"وانتهاجها مستقبلا"أيضا". فانه بمجرد تفكير هذا (المثقف) بالارتداد، على عقبيه صوب حمى قبيلته ومرابض طائفته، سواء بدوافع شخصية / مصلحية أو فئوية / سياسية، فان ذلك يعد إيذانا"بتخليه عن ثوابت وطنيته، ومؤشرا"على تنصله من التزاماته الأخلاقية، ودليلا"على تنازله عن مكانته الاعتبارية . وبالتالي شروعه بالانخراط ضمن صفوف الجماعات الأصولية المجيشة، والاندغام في أتون سيكولوجياتها المتطرفة، والاستبطان لرموز خطاباتها المتعصبة . ناهيك عما يترتب على تلك الانتكاسة العقلية من تصدعات عميقة في المداميك السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، حيث التذرر إلى قبائل متفاخرة، والتبعثر إلى طوائف متناحرة، والتشظي إلى اثنيات متنافرة .
والجدير بالملاحظة إن ما نعنيه بتعبير (العمامة) في هذا الإطار، لا نروم أن يقتصر مدلوله على رجال الدين المتأسلمين فقط – كما يوحي بذلك – إنما نقصد كل من آثر أن يضع رصيد وعيه ومخزن معارفه، لا في خدمة قضايا العراق الوطنية ومصالح شعبه المصيرية كما هو متوقع منه ومعوّل عليه، وإنما تحت تصرف الجماعات والتكتلات والمكونات ذات المنزع القبلي أو الطائفي أو العنصري أو اللغوي أو المناطقي . هذا دون النظر إلى احتمالات غنى ثقافته ومستوى وعيه وقيمة معارفه ودرجة علمه وطبيعة تخصصه . لاسيما وان هذه المواقف المخزية والمسلكيات المشينة، تحولت لدى الغالبية من (المثقفين) العراقيين إلى ما يشبه الفرائض الدينية، التي تقتضي من المريد التمسك بها والدفاع عنها والترويج لها والتماهي معها .
ولعل ما شجع على رواج مثل هذا النمط من (المثقفين) المعممين في الأوساط العراقية خاصة، حيث تنشط الجماعات (المذهبية / الطائفية)، والتضامنيات (القبلية / العشائرية)، والمكونات (العنصرية / الاثنية)، بدواعي ضمان حقوقها المسلوبة وتأمين مصالحها المهدورة وتعزيز مكانتها المهمشة، في ظل دولة فقدت زمام سيادتها، وتخلت عن مقاليد سلطتها، وأضاعت بوصلة هيبتها، وأضحت مطية لكل راكب وهدفا"لكل راغب ! . نقول إن ما شجع على ظهور هذا النمط الشائه من المحسوبين على (الثقافة) ظلما"وزورا"، هو إن الجمهور العراقي اعتاد على أن يقيّم (المثقف) من خلال رنين الكلمات وطنين العبارات التي يحتويها (خطابه) المقروء والمسموع، بدلا"من أن يسبغ هذه الصفة الاعتبارية على أولئك الذين يستحقونها حقا"وفعلا"، وذلك بالاعتماد على المواقف الفعلية، والركون إلى الممارسات الواقعية، التي تبرز من خلالها طبيعة النوازع وماهية الدوافع التي يضمرها ويسعى إلى تحقيقها هذا (الفاعل الثقافي)، ليس فقط تجاه حاضر وطنه وشعبه وما يحيط بهما ويتكالب حولهما من تهديدات مصيرية متفاقمة فحسب، بل وكذلك إزاء مستقبل الأجيال اللاحقة وما ينتظرها ويتوقع لها من تحديات وجودية متعاظمة .
والحال ليس مسموحا "للمثقف الحقيقي أن يتمظهر بأي (رداء) عصبوي للتعبير عن هويته، أو يتبختر بأي (جلباب) عنصري للإفصاح عن شخصيته، سوى ذاك الذي يدلل على فرادة تفكيره العقلاني وخصوصية ثقافته الإنسانية . أما إذا ما أصرّ على التبختر بوشاح القبيلة أو جلباب الطائفة أو رداء الاثنية فهذا شأنه وخياره، ولكنه منذ اللحظة التي يستمرأ فيها تلك الأوشحة والجلابيب والأردية الفضفاضة، عليه أن يغادر محراب الفكر ويخرج من رحاب الثقافة، إلى حيث مستنقعات التعصب والتطرف التي هي المكان المناسب لأمثاله! .
***
ثامر عباس

في المثقف اليوم