آراء

محمود محمد علي: فلاديمير بوتين والجهاد الروسي ضد النازية الجديدة

يتكرر كثيرًا ذكر مصطلح "النازيين الجدد» في خطاب القيادة الروسية، لتبرير غزوها الحالي أوكرانيا. حتى أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وفي آخر خطاباته الجماهيرية التي سبقت اجتياح الأراضي الأوكرانية بأيام قلائل، وجّه بوتين خطاباً حازماً لشعبه استعرض فيه مبررات الهجوم على أوكرانيا في وقت كانت قواته تتأهب لإطلاق "العملية العسكرية الخاصة"، وفي خطابه، تكرّرت كلمة "النازية" و"النازيين الجدد" 7 مرات. صوّر بوتين الحرب كضرورة لا كخيار، وذكّر الروس بتاريخ الاجتياح النازي الدموي في أربعينات القرن الماضي، الذي كلّف الاتحاد السوفياتي ملايين الأرواح وتسبب في فقدانه مناطق "ذات أهمية استراتيجية". وجّه بوتين رسالة واضحة لمواطنيه: "لن نسمح بتكرار مثل هذا الخطأ مرة ثانية".

وشدد الرئيس بوتين، في كلمة متلفزة وجهها إلى مواطني روسيا اليوم، على أن النازيين الجدد في أوكرانيا، يسعون لإشعال الحرب في شبه جزيرة القرم، وأضاف الرئيس الروسي: "تقدم دول رائدة في الناتو، من أجل تحقيق مآربها الخاصة، الدعم للقوميين المتطرفين والنازيين الجدد في أوكرانيا في كل شيء. وهؤلاء بدورهم لن يغفروا لسكان القرم وسكان سيفاستوبول اختيارهم الحر في إعادة التوحيد مع روسيا"،  وتابع الرئيس بوتين: "وهم، بالطبع يحاولون الدخول إلى شبه جزيرة القرم، وكذلك إلى دونباس، بطريقتهم الخاصة، من أجل قتل المواطنين العزل، كما قامت عصابات القوميين الأوكرانيين - شركاء هتلر خلال الحرب الوطنية العظمى، بقتل الأبرياء العزل".

وفي نظر بوتن فإن نظام زيلنسكي في أوكرانيا يدعوا إلي نشر الكراهية وترويج للعنف وإلغاء الديمقراطية وإعادة نشر الثقافة النازية من جديد، بعد أن تم حظرهم لعشرات السنوات ، ويستخدمون عشرات المجموعات اليمينية المتطرفة في الحرب ضد الجيش الروسي، حيث أشار الرئيس الروسي إلى أن السلطات الأوكرانية تمجد القوميين وتجعلهم أبطالا، وهدف روسيا من العملية العسكرية في أوكرانيا هو نزع السلاح وأن تكون دولة محايدة،  وأكد «بوتين» أن أوكرانيا تهدد سلامة الأمن القومي الروسي، قائلا «أوكرانيا لديها قدرات لتصنيع وتطوير أسلحة نووية".وقال بوتين: «إذا انضمت أوكرانيا إلى الناتو كان الحلف سيتدخل لقمع دونيتسك ولوغانسك، والسلطات الأوكرانية واصلت التصعيد ولم تنفذ اتفاقيات مينسك، وتابع الرئيس الروسي قائلاً إن الجيش الأوكراني كان يقمع المدنيين في لوغانسك ودونيتسك والسلطات الأوكرانية كانت تخطط لتهديد الأمن الروسي.

كما دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الدول المجاورة لروسيا إلى عدم التصعيد مع موسكو، وذلك تزامنا مع دخول حرب روسيا وأوكرانيا يومها التاسع، والتي تشهد تقدما للقوات الروسية على الأرض، لكن مراقبون يرون أنه تقدما بطيئا.

ومن هنا هيمنت  المقاربات التاريخية على خطاب سيد الكرملين، كان من بين الأهداف المباشرة التي حدّدها بوتين لحربه، "نزع سلاح أوكرانيا وإزالة الطابع النازي عنها". وقال بوتين إن دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في سبيل تحقيق أهدافها الخاصة، دعمت القوميين المتطرفين والنازيين الجدد في أوكرانيا، لافتاً إلى أن هؤلاء لن يغفروا لسكان القرم وسيفاستوبول اختيارهم إعادة التوحيد مع روسيا.

هذه الاتّهامات كررها وزير الخارجية سيرغي لافروف الجمعة، بقوله في مؤتمر صحافي مع مسؤولين انفصاليين موالين لروسيا في شرق أوكرانيا، إن "الرئيس بوتين اتخذ القرار بشنّ هذه العملية العسكرية الخاصة لنزع سلاح أوكرانيا وتحريرها من النازية كي يتمكن الأوكرانيون، بعد تحريرهم من هذا القمع، من تقرير مصيرهم بحرية".

وأضاف لافروف أن روسيا "ستفعل كل ما بوسعها لضمان استقلال الحكومة الأوكرانية، و(قدرتها على) تمثيل تنوع الشعب الأوكراني". وزعم لافروف أن "الحكومة الحالية تقع تحت سيطرة خارجية، وتسعى لدعم وتشجيع الفلسفة النازية، كما أنها تحت سيطرة الغرب روسيا تواجه النازيين الجدد في أوكرانيا. وأضاف قائلا: «قد نفرض حالة طوارئ جزئية وقد نذهب إلى الشاملة إذا تطورت الأوضاع، وحالة الطوارئ في روسيا تفرض وفقاً للقانون وبموافقة مجلس الأمن القومي، أن روسيا تواجه تهديداً حقيقياً، وعملت على تأمين ممرات إنسانية للمدنيين لكن سلطات أوكرانيا احتجزتهم كرهائن، واتهم سلطات أوكرانيا باحتجاز الطلاب الأجانب كرهائن.

بيد أن حلفاء كييف يرون أن بوتين ولا فروف يقدّمان تبريرات مغلوطة، تعتمد على الخلط بين عناصر تاريخية وواقع أوكرانيا اليوم، وفيما حارب قوميون أوكرانيون في صفوف النازيين خلال الحرب العالمية الثانية وساعدوا الألمان في اعتقال المواطنين اليهود، كما أسهموا في قمع انتفاضة وارسو في صيف 1944، فإنه لا دليل على دعم السلطات الأوكرانية اليوم "فلسفة نازية" كما ذكر لافروف، أو تفشّي فكر متطرف متعاطف مع النازيين بين صانعي القرار في كييف.

وفي مطلع العام، شارك مئات الأوكرانيين، وفق وكالة "أسوشييتد برس"، في مسيرة نظمها حزب يميني متطرف لتكريم زعيم ميليشيا أوكرانية حارب مع قوات ألمانيا النازية ضد الاتحاد السوفياتي، سعياً لانتزاع "استقلال بلاده"، وفق أنصاره.

ورغم ذلك، يبقى وجود اليمين القومي المتطرف في أوكرانيا مقتصراً اليوم على تنظيمات محدودة، أبرزها حزبا "الجبهة الشعبية" و"الحزب الراديكالي" التابع لأوليه لياشكو، اللذان فشلا في الحصول على مقعد واحد بالبرلمان خلال انتخابات 2019.

كما أُثيرت مخاوف حول "كتيبة آزوف"، التي تندرج تحت الحرس الوطني الأوكراني، ويهيمن عليها متطرفون يمينيون ومتعاطفون مع النازيين الجدد. وأسهمت الكتيبة، وفق تقارير إعلامية، في تدريب مدنيين على حمل السلاح بوقت سابق هذا الشهر، استعداداً لهجوم عسكري روسي.

ويرفض الرئيس زيلينسكي مزاعم الكرملين، مقارناً بدوره بين الهجوم الروسي على المدنيين وعدوان ألمانيا النازية. وقال على صفحته بـ"فيسبوك": "هاجمت روسيا أوكرانيا بجبن وبطريقة انتحارية، كما فعلت ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية".

ومع أن إعلام الولايات المتحدة الأمريكية وغرب أوروبا، يميل منذ الغزو الروسي لأوكرانيا - بل حتى قبل ذلك- إلى اعتبار مسألة النازيين الجدد الأوكرانيين، مجرد بروباجندا من بوتين لشرعنة تعطشه للتوسع العسكري في شرق أوروبا، واستعادة مناطق التمدد السوفيتي القديم، فإن وجود أيديولوجية نازية متطرفة في أوكرانيًا لا يمكن اعتباره وهمًا بأي حال. لأن ثمة قرائن لا يمكن الطعن في صحتها بخصوص عصابات أوكرانية نازية تنتشر في البلد الشرق أوروبي منذ العام 2014، وتنفذ بعلم وموافقة حكومة كييف، عمليات متطرفة على أسس قومية عنصرية ضد كل من تعتبرهم من غير المنتمين إلى العرق الأوكراني الأصلي. وربما فهم الإنكار الأمريكي - غرب أوروبي يصبح أوضح، إذا ما تذكرنا الاتهام الروسي الصريح لخصومها الغربيين بتمويل هذه العصابات النازية، وامدادها بالسلاح.

في العام 2014، وأثناء احتدام الأحداث التي أدت في النهاية إلى ضم روسيا شبه جزيرة القرم وإعلان انفصال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك عن الحكومة المركزية في كييف، قام أندري بيلتسكي، وهو فاشيستي أوكراني، بتشكيل ميليشيا تحمل اسم «آزوف»، كل أعضائها من المنتمين إلى اليمين القومي المتطرف في أوكرانيا. ومثل الأيديولوجية النازية القديمة التي أذاعتها ألمانيا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، وكانت مسؤولة مع غيرها عن ويلات الحرب العالمية الثانية، فإن النسخة الأوكرانية من النازية، تؤمن بالتفوق البيولوجي للعرق الأبيض، وترفض وجود أصحاب الأعراق الأخرى بين ظهرانيها، بحكم أن أولئك الأخيرين أقل قدرًا.

إضافة إلى ذلك، فإن النازية الأوكرانية تعتبر روسيا عدوها الرئيس، بما أن كييف كانت في السابق جزءًا من الاتحاد السوفيتي. وفي إعادة إنتاج لسياسة ألمانيا النازية تجاه الشيوعية السوفيتية، فإن النازيين الجدد من الأوكرانيين يسعون بالقوة إلى قطع كل صلة سياسية وثقافية وإثنية بين أوكرانيا وروسيا، من خلال قتال العناصر الموالية لروسيا في إقليم دونباس، وطرد الجيش الروسي من شبه جزيرة القرم، وكذلك التطهير العرقي ضد العناصر الروسية القاطنة في المدن والقرى الأوكرانية، وأخيرًا الدعوة إلى حظر تعليم اللغة الروسية في المدارس. وتلك الأخيرة تجد قبولًا لدى الحكومات الأوكرانية في كييف حتى الحظة الحاضرة.

وقد ظهر بيلتسكي للمرة الأولى رفقة مسلحي «آزوف»، كفرقة متطوعة خلال الاشتباكات الدموية التي شهدتها مدينة أوديسا الأوكرانية في مايو من العام 2014، بين الموالين للثورة البرتقالية في كييف، والتي طالبت بعزل السلطة الموالية لروسيا، وبين المعارضين لهؤلاء. وقد أظهر مقاتلو «آزوف» وحشية كبيرة في تلك الأحداث، حتى وصل عدد القتلى من صفوف المعارضين في أحد أيامها، إلى أكثر من 40 شخص.

كوفئت «آزوف» على قسوتها المفرطة بقبول ضمها رسميًا إلى الحرس الوطني الأوكراني، ودفعها إلى خطوط المواجهة الأمامية الجديدة مع الانفصاليين المدعومين من روسيا في إقليم دونباس. لتكون تلك لحظة البداية في العلاقة القوية التي جمعت الميليشيا النازية بالحكومة الأوكرانية في كييف، والتي أصبحت الآن موالية للغرب.

ومنذ ذلك الظفر بالاعتراف الرسمي من قبل السلطات الأوكرانية، عملت «آزوف» بصورة علانية في أوكرانيا. كما عملت حتى على إذاعة الأفكار العنصرية النازية على نطاق واسع، حتى أنها تجاوزت النطاق الجغرافي المحدود لأوكرانيا، إلى دعوة المؤمنين بالنازية في العالم إلى الانضمام إلى قضيتهم. وقد أوثر عن أندري بيلتسكي قوله إن هدف الميليشيا، هو «قيادة الأعراق البيضاء عبر بلدان العالم في حملة صليبية أخيرة ضد العرق السامي». وكان من أثر دعوته، أن قامت جماعات النازيين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية بتبني الشعارات التي تستخدمها «آزوف»، والمعروفة بأسماء: Wolfsangel و Sonnenrad.

بل إن تقارير أذاعتها الصحافة اليسارية في ألمانيا، ذهبت إلى التأكيد على أن «آزوف» أصبحت تملك فيلقًا شبه سري، يجذب إليه المتطوعون عناصر نازية غير أوكرانية، من بلدان مثل ألمانيا وفرنسا والبلدان الإسكندنافية، للقتال إلى جانب الميليشيا ضد الانفصاليين المدعومين من روسيا. وفكرة التطوع تلك، تدعمها بيانات صادرة حديثًا عن وزارة الداخلية الألمانية، تؤكد انضمام متطوعين من النازيين الجدد الألمان إلى رفاقهم في أوكرانيا، للقتال ضد الجيش الروسي.

وفقًا للتقارير نفسها، يدرب هؤلاء جميعًا على استخدام الأسلحة الثقيلة والحديثة، مع حلم مشترك بينهم لاستعادة ما يعرف بـ الرايخسكوميساريا، وهو كيان سياسي خلقته ألمانيا النازية في سنوات الحرب العالمية الثانية داخل أوكرانيا، لحكم الأخيرة نيابة عن الحكومة النازية المركزية في برلين.

بناء على كل ما سبق، يبدو من غير الممكن الآن التعاطي مع إعلان الرئيس الروسي عن استهداف النازيين الجدد في أوكرانيا، باعتباره مجرد بروباغندا يستخدمها داخل روسيا، أو أمام المجتمع الدولي، لتبرير فكرة الغزو. ولا شك أنه بالنسبة لـ بوتين، فإن الأسوأ من إمداد الغرب كييف بالأسلحة الحديثة، هو دعم أيديولوجية خطيرة مثل النازية الجديدة في أوكرانيا، يمكنها إذا استفحل أمرها على الحدود الروسية، أن تخلق مشكلات عويصة بالنسبة للوجود الروسي عامة في شرق أوروبا. وبالتالي، فإلى جانب رغبته الأكيدة في الإبقاء على أوكرانيا في غيبوبة عسكرية، عبر تدمير بنيتها التحتية التي مولها الغرب منذ العام 2014، فإن بوتين لن يقبل بأقل من تحطيم قوة النازيين الجدد، كما حطم أسلافه السوفيت القدامى منهم.

***

أ. د. محمود محمد علي

كلية الآداب – جامعة أسيوط

.........................

المراجع

1- خالد أبو هريرة: بوتين يسعى إلى تحطيمهم في أوكرانيا: من هم «النازيون الجدد»؟، تركيا الآن، السبت، 05 مارس 2022 09:05 م

2-قناة العربية : "تحرير أوكرانيا".. من هم، مقال منشور بتاريخ الأحد 3 شعبان 1443 هـ - 06 مارس 2022

3- نجلاء حبريري: ماذا وراء دعوة بوتين لـ«تحرير أوكرانيا من النازية»؟، الشرق الأوسط، الجمعة - 24 رجب 1443 هـ - 25 فبراير 2022 مـ.

في المثقف اليوم