آراء

كريم المظفر: أيها المُعيّب لا تُعيّب، فإن العَيبَ فيك

تقع اعيننا يوميا خلال تصفحنا مواقع التواصل الاجتماعي ومشاهدة نشرات الاخبار التلفازية، على قراءات ومقالات وتحليلات التي يقدمها كل من (هب ودب) العارف وغيره، وهم يدلون بآرائهم عن أسباب العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا وتوقعاتهم عنها، ولماذا حار الاعلام الغربي في تسميتها، فالرئيس الروسي اطلق عليها العملية العسكرية الخاصة لاعتبارات شرحها في خطاباته، لكن الغرب، تارة يسميها " حربا " وتارة أخرى " غزوا "، وبدأ أعلامه " المأجور " ببث سموم " تسهم في " تشتيت " الفكر لدى المشاهدين، ويقدم عبارات تهدف الى النيل من الإنجازات الروسية العسكرية والتقليل من شأنها، " كالجيش الروسي فشل في كذا وكذا، أو الجيش الروسي كان يتوقع حرب خاطفة، والجيش الروسي تكبد خسائر كبيرة في الارواح والمعدات، أو إنه " لم يتمكن من دخول كييف حتى الان" بسبب " ذوبان الثلوج " مرة، وأخرى " بسبب نقص في التعزيزات "، واللافت هنا أن جميع مصادر هذه الاخبار تسند الى جهات غير حيادية، وانها تنطق باسم واحد وسياق واحد ومن جهة واحدة، وكأن كل وسائل الاعلام المرئية والمسموعة الأجنبية وبعض القنوات الإخبارية " العربية "، يعملون في غرفة أخبار واحدة، وجميه هذه الاخبار تحمل في صفاتها العامل التحريضي والتضليلي، وجميعها تجافي الحقيقة تماما، بحسب الكثيرين من الخبراء العسكريين والمحللين السياسي، حتى من داخل الدول الغربية ذاتها .

ولعل التحقيق الصحفي الذي أجراه موقع MintPress الأمريكي الذي سلط الضوء على وقوف جهات أجنبية وراء تمويل الحملة الدعائية المكثفة التي تجريها حكومة أوكرانيا على خلفية العملية العسركية الروسية في أراضيها، يؤكد حقيقة قولنا، وقد أشار التقرير إلى أن الجيش الأوكراني منذ بدء العملية الروسية يحاول خلق صورة "جيش صغير شجاع يواجه العملاق الروسي" ويخوض لهذا الغرض حملة دعائية متطورة رامية إلى كسب دعم المسؤولين والرأي العام في الدول الغربية، وذكّر الموقع بأن صحيفة "واشنطن بوست" في تقريرها عن الاستراتيجية الدعائية للحكومة الأوكرانية أقرت بأن المسؤولين الغربيين لا يستطيعون التحقق من مدى مصداقية المعلومات التي تنشرها كييف.

وخلص التقرير إلى أن "جيشا من استراتيجيين سياسيين أجانب وأعضاء جماعات ضغط في واشنطن وشبكة وسائل إعلام مرتبطة بأجهزة استخباراتية" تقف وراء الحملة الدعائية الأوكرانية، ولفت التقرير بحسب (RT) إلى الدور الرئيسي الذي تلعبه في هذه الحملة مجموعة واسعة تضم أكثر من 150 شركة أجنبية متخصصة في العلاقات العامة تعمل بشكل مباشر مع وزارة الخارجية الأوكرانية، مضيفا أن هذه المبادرة، وفقا لموقع PRWeek، تعود إلى شخص لم يتم الكشف عن اسمه وزعم أنه مؤسس شركة متخصصة في العلاقات العامة مقرها في أوكرانيا.

ووفقا لـMintPress، يقود هذا الحراك الدولي أيضا المؤسس المشارك لشركة العلاقات العامة PR Network، نيكي ريغازوني، ومستشار بارز في مجال العلاقات العامة، فرانسيس إينغهام، الذي لديه علاقات وثيقة مع الحكومة البريطانية، وأكد التقرير أن وزارة الخارجية الأوكرانية وزعت ملفا يضم إرشادات إلى شركات العلاقات العامة بخصوص كيفية تغطية التطورات في البلاد، بما فيها الترويج لشخصيات نازية.

ويشرف على هذا الملف رئيس منصة Ukraine.ua ياروسلاف توربيل الذي أكد MintPress أنه سبق وأن عمل لصالح منظمات مجتمع مدني متعددة مرتبطة بشكل وثيق مع حكومة الولايات المتحدة وتلقى تدريبا في مؤسسة Internews الأمريكية المرتبطة بالاستخبارات التي تعمل تحت شعار الدفاع عن حرية الصحافة، ولفت التقرير أيضا إلى حملة متوازية تمارسها ناتاليا بوبوفيتش، مؤسسة شركة العلاقات العامة One Philosophy في كييف، وهي عملت لصالح الخارجية الأمريكية وكانت مستشارة للرئيس الأوكراني السابق بترو بوروشينكو، وهي كذلك من مؤسسي "المركز الإعلامي الخاص بالأزمة الأوكرانية" الممول من قبل وكالة التنمية الدولية الأمريكية وجهات أخرى في الولايات المتحدة.

وهنا تبرز عدة تساؤلات منها، هل أن الجيش الروسي الذي يمتلك أسلحة حديثة ومتطورة، وثاني جيش في العالم لا يمتلك قادة ومختصين في الفنون العسكرية الذي يخططون ويرسمون المعارك العسكرية مع جميع عواملها الجيدة والحالات الطارئة التي تظهر خلال هذه المعارك، واعداد الخطط البديلة لتجاوز هذه المخاطر ؟، ألم ترسم القيادة العسكرية الروسية استراتيجيتها وعقيدتها العسكرية التي تعتبر مفتاح أي تحركات عسكرية للبلاد ؟ ألا تمتلك روسيا قيادة عسكرية من القادة الاكفاء الذين يشهد لهم في المعارك؟ بالتأكيد توجد لكل هذه الأسئلة أجوبة يعرفها الغرب قبل غيره، ويعرف القدرة العسكرية الروسية وقدرتها وامكانياتها الهائلة، لذلك فهو جعل (أي الغرب) من أوكرانيا " كبش الفداء "، كي يواجه روسيا في حرب " بالإنابة " عنهم، مع امداده بكل المستلزمات العسكرية من السلاح والمعدات والأنظمة الدفاعية والمعلومات الاستخبارية، لا لشيء سوى انه " يخاف " المواجهة مع روسيا، (وهذا ما اعترف به الرئيس الاوكراني نفسه في احدى رسائله اليومية)، ويسعى الى إطالة امد الحرب الى أطول مدة ممكنة، رغبة منه في جر الجيش الروسي الى حرب إستنزاف وحرب المدن، وهذا ما تيقنه الجيش الروسي منذ البداية .

والجواب على تلك الأسئلة طبعا، يكمن في ما حققه الجيش الروسي خلال فترة الشهر (والتي لا يسع المكان كتابة تفصيلها)، فليس من المعقول ان تدار حرب خاطفة (كما يرددها الغرب ) في أسبوع واسبوعين، في بلد تبلغ مساحته اكثر من 600 ألف متر مربع، ويمتلك 300 ألف مقاتل، مدجج بسلاح (الناتو)، لذلك فإن الغرب يحاول أن يقدم تفسيرا خاطئا لبطء تقدم القوات الروسية في أوكرانيا، تلك القوات التي حرصت منذ بداية العملية العسكرية الخاصة الى تجنب المناطق السكنية والحرص على حياة المدنيين، وهنا لا يسعنا الا ان نذّكر بحرب عام 2003 في العراق، فالجيش الأمريكي عندما بدأ حربه الظالمة على العراق، بدأها بشن ضربات جوية أستمرت لمدة 45 يوما، طالت كل المدن العراقية من شمالها الى جنوبها، واستهدفت كل البنى التحتية والمستشفيات والدوائر الحكومية والجسور والشوارع ومحطات الكهرباء وتصفية المياه حتى الملاجئ المدنية، وشاهدنا هنا هو ملجأ العامرية، الذي راح ضحيته اكثر من 400 مدني معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، بحجة ان هذا الملجأ هو مقر القيادة العسكرية العراقية، وعندما بدأت الحرب البرية بعد 45 يوما من القصف الوحشي، احتاجت أمريكا الى 14 يوما حتى تدخل قرية صغيرة في محافظة البصرة في (قضاء أم قصر)، بعد مقاومة شديدة من افراد الجيش الشعبي، وليس الجيش العراقي لا يتجاوز عددهم ال (200) فردا، مسلحين بأسلحة خفيفة لا تتعدى الرشاشة الالية والقاذفات (آر بي جي 7)، ومن فضائح هذه المعركة ان الجيش الأمريكي المدجج بكل أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة والطيران، عجز عن الدخول الى هذه القرية، الا بمساعدة ايران التي وافقت على دخولهم أراضيها للالتفاف عبر حدودها والسيطرة على هذه القرية .

إن التحليل الغربي يستند إلى نظريات الحرب التقليدية، وأن الحقيقة عكس ذلك تماما، ويمكن فهم ذلك البطء في ضوء الوقائع التالية وكما يراها الخبير في الشؤون الروسية الأستاذ الجامعي نور ندا، أولا - أن تكتيكات الجيش الروسي حديثة جدا، ويصعب على الكثيرين فهمها باستخدام أساليب التحليل العسكري التقليدية، ثانيا - الجيش الروسي، ولأول مرة في تاريخ الحروب، يبدأ القتال بضربة صاروخية نموذجية، وليست ضربات جوية باستخدام القوات الجوية كما هو معتاد في الحروب، وهذا التحول، سوف يبقى درسا عسكريا مهما في أكاديميات الحرب والقتال، وثالثا - يمتلك الجيش الروسي خبرات عملية ضخمة في قتال المدن اكتسبها أيضا في سوريا، ورابعا - هناك حرص شديد من القيادة الروسية على حياة المدنيين، وخاصة أن نسبة كبيرة من سكان المدن المحاصرة هم من أصول روسية.

وكما هو معلوم فإن التاريخ العسكري يعد علم أساسي، في المدارس والاكاديميات العسكرية، وكتب التاريخ مليئة بالخطط العسكرية، وفيه من القصص والعبر الكثير، ونأخذ منه مثال الفرنسيين الذين بقوا 70 عاما ولم يستكملوا احتلال الجزائر، وجلس الجيش الفرنسي 3 سنوات عند وادي الحراش، لأن القائد بن زعموم، أوقف جيشهم بمقاومته الشديدة هناك، وهنا لا يجوز القول ان الامر يختلف الان، ففي ذلك الوقت، من كان يمتلك القوة النارية (السلاح الحديث في وقته) هو الجيش الفرنسي، ومن قاومهم مواطنين بسطاء .

اما بالنسبة لتاريخ الولايات المتحدة الامريكية القديم منه والحديث فهو (اسود ومصخم)، فإنه يخبرنا بتجارب الولايات المتحدة العسكرية الفاشلة منذ تأسيسها في أعقاب حقبة الاستقلال الأمريكي، ومعظم دول العالم الخارجي تعدّها قوة عسكرية لا يستهَان بها، غير أنّه كانت هناك نزاعاتٌ تورّطت فيها الولايات المتحدة الأمريكية ولم يكن الحظ حليفاً لها فيها بأي حال، وهذه حروب خسرتها أمريكا، و يمكن لنا النظر مثلا إلى الحرب الكورية التي اندلعت بين عامَي 1950 و1953 على أنها كانت بمثابة هزيمة ساحقة للولايات المتحدة الأمريكية في الحرب، إذا اعتبرنا أنّ عدم نجاحها في تحقيق الهدف الذي دخلت بسببه الحرب كافٍ لتوصيف الهزيمة.

كما مُنيت الولايات المتحدة الأمريكية بهزيمةٍ نكراء أخرى، أثناء غزو خليج الخنازير في كوبا، ففي 17 أبريل/نيسان عام 1961، حاولت جماعة Brigade 2506 شبه العسكرية التي ترعاها المخابرات المركزية الأمريكية غزو كوبا، وإطاحة حكومة كوبا الشيوعية التي يرأسها فيدل كاسترو، غير أن القوات المسلحة الثورية الكوبية، بقيادة فيدل كاسترو، هزمت الجنود الأمريكيين شر هزيمة، مجبرةً إياهم على الانسحاب في مدةٍ لم تتجاوز ثلاثة أيام فقط.

أما حرب فيتنام (1955-1975) فهي حدث أسود في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وصفحة سوداء في تاريخ أمريكا تحديداً، التي بعد خسارتها لآلافٍ من الأرواح في الحرب، منيت بهزيمةٍ نكراء وأُجبرت على الانسحاب في النهاية، بعد ان تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب بدعمها لحكومة فيتنام الجنوبية غير الشيوعية، لم تتوقَّع أن تستغرق الحرب كل هذه المدة .

ولا ننسى العام الماضي 2021، حين فر الجيش الأمريكي بعد 20 عاما من احتلاله لأفغانستان بحجة محاربة الإرهاب، تاركا وراءه الالاف من المعدات العسكرية والأسلحة الثقيلة والطائرات، قدرت بأكثر من 80 مليار دولار، وانفقت خلالها الولايات المتحدة خلال سنوات احتلالها لأفغانستان اكثر من ترليوني دولار على عملياتها العسكرية في المنطقة، أستنادا إلى تقرير المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان (SIGAR)، فر الجيش وهو يجر وراءه اذيال الهزيمة، في أكبر فضيحة " مذلة " عرفها التاريخ بكل مراحله، وهنا نذّكر الامريكان بيت شعر معروف (أيها المُعيّب لا تُعيّب، فإن العَيبَ فيك).

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

في المثقف اليوم