آراء

مصعب قاسم عزاوي: الأمم المتحدة والبؤس العربي

يقتضي المنظار التاريخي المستبصر النظر إلى الأمم المتحدة وسليفتها عصبة الأمم في سياقهما التاريخي الذي قام بإنتاجهما آنذاك، وهو دون كثير تعقيد شكل لاتفاق الأقوياء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى ممثلاً في اتفاقية عصبة الأمم، وأولئك المتسيدين عقب الحرب العالمية الثانية والتي تمخضت عن الأمم المتحدة، على تقاسم الغنائم بين من كانت لهم اليد العليا ممثلة باقتسام كوكب الأرض وموارده وحتى اقتصاداته ومفاتيح السيطرة على حركية مجتمعاته كمناطق نفوذ حدودها شبه واضحة بين المنتصرين، ودون الأخذ بعين الاعتبار أي ما قد يرتبط بالمصالح الفعلية للبشر الحقيقيين ومجتمعاتهم التي تم وضعهم في جعبة هذا المنتصر أو ذاك.

وذلك الواقع البائس أفصح عن نفسه في العديد من المفاصل التاريخية الحاسمة قد يكون أهمها على المستوى التاريخي اتفاقية فرساي عقب الحرب العالمية الأولى وشروطها المجحفة التي كانت الزناد القادح للحرب العالمية الثانية، وفي الحالة العربية احتيال المنتصرين في الحرب العالمية الأولى على الأعراب الذين صفوا في صفهم خلال تلك الحرب، بالتنصل من وعودهم بمد يد العون لمساعدتهم في تأسيس دولة عربية كبرى تشمل المشرق العربي كله كحد أدنى وفق مراسلات الحسين-مكماهون بمعناها الحرفي الواضح، وليس التأويلي العجابي على طريقة الساسة البريطانيين، ومن لف لفهم في مؤتمري سايكس بيكو، وسان ريمو، والذين شكلا الأرضية البور التي نشأ فيها عوار وقصور وهشاشة كل الدول العربية، وما استتبع ذلك من بزوغ للنظم العسكرية الأمنية العربية التي ظلت منذ استقلال العرب عن مستعمريهم المباشرين إبان حقبة الانتداب وحتى اللحظة الراهنة تقوم بدورها الوظيفي كنواطير مفوضين بحفظ وتسيير مصالح نفس أولئك المستعمرين القدماء، المسؤولين بشكل مباشر عن ديمومة واستقرار نظم الاستبداد العربية، وتبييض صورتها سياسياً وإعلامياً، وتسليحها حتى الثمالة بما يكفي لوأد أي انتفاضة شعبية فيها، أو عبر تصعيد شخوص يتم انتقاؤهم بعناية من الطبقة العسكرية الفاسدة المرتبطة عضوياً بإرادات أولياء أمرها من المستعمرين القدماء الجدد للتصعد والحلول محل شخوص آخرين من نفس تلك الطبقة حين يتم انتهاء صلاحيتهم، للالتفاف على إرادات الشعوب في التغيير الحقيقي، عبر إيهامها بأن استبدال «شهاب الدين بأخيه» تغيير لا بد من استمرائه على أنه الخيار الوحيد المتاح الذي دونه الفوضى والتدمير الكلياني وتحويل المجتمع المنتفض إلى حطام بالقوة العسكرية العارية التي يعود أسها ومفاصل الحل والعقد بتحريكها إلى نفس أولئك المستعمرين القدماء الذين لم يرحلوا إلا شكلياً عن المجتمعات العربية.

وبشكل أكثر تبئيراً فإن البنية الناشزة والنفعية وغير العادلة التي حكمت تشكيل عصبة الأمم التي تحولت إلى الأمم المتحدة لاحقاً لا زالت حية ترزق، وما فتئت تشرئب، في ضوء انحشار مفاتيح تحريك الأمم المتحدة بأي اتجاه في يد «مجلس تشخيص مصلحة الأقوياء» ممثلاً بالدول الدائمة في مجلس الأمن الدولي، والتي تمتلك حق «النقض» لأي قرار يتم اقتراحه ولا يلائم مصالحها المباشرة. وهو واقع أنتج عقماً فعلياً للأمم المتحدة تمثل في إفقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة لأي قدرة تأثيرية على الفعل، واعتبار أي من قرارتها عبارة عن رؤى ومقترحات غير ملزمة لمجلس الأمن والدول الدائمة العضوية فيه، والتي أصبحت أكثر خبرة في فن تبادل المصالح وتقاسم المغانم وتحويل كوكب الأرض إلى مناطق نفوذ لكل منها، بالاستناد إلى أن أي قرار يمر في مجلس الأمن لا بد أن يحظى بموافقة كل الدول الدائمة العضوية فيه، والتي لا بد أن تقوم «بنقضه» ما لم يكن مبرمجاً بشكل مسبق ومتسقاً مع ترتيبات اقتسام المصالح بين دول الأقوياء على حساب كل المستضعفين ومجتمعاتهم في عموم أصقاع الأرضين. وقد يكون الاستنتاج الأكثر موضوعية من النسق التوصيفي الأخير هو أن مبدأ الأمم المتحدة من الناحية النظرية مبدأ خير ومصيب ولا بد من محاولة توطيد وجوده إن كان له أي وجود فعلي في الواقع العياني المشخص، وهو ما لم يتحقق بعد بأي شكل ذي معنى.

وإلى حين تحقق ذلك، فقد يكون من الأجدى والأكثر عقلانية الاتكاء على مبدأ الاستقواء بالمجتمع لا الاستقواء عليه، كمدخل لمحاولة المستضعفين تقوية لحمتهم الاجتماعية الداخلية كمجتمع قادر على مقاومة إرادات الأقوياء وفئات الهيمنة داخلياً وخارجياً، إذ أن التجارب التاريخية خلال العقود الأخيرة تشي بأن المجتمعات السائرة في طريقها الخاص سواء على طريقة كوريا الجنوبية، أو حتى تايوان، لم تتمكن من تحقيق ذلك لولا اتكاؤها على قوة المجتمع الداخلية في مقاومة إرادات الأقوياء المنتصرين -و إن كان ذلك محدوداً في كثير من المنعطفات- لتمكين المجتمع من تقوية قدراته الإنتاجية ومستوى حيوات أفراده، كوسيلة أولى للنهوض الاجتماعي وتحقيق شكل وإن كان قاصراً و جنينياً من الاستقلالية لا خيار فعلياً سواها في ضوء اختلال موازين القوى بين الأقوياء والمستضعفين على المستوى الكوني.

وفيما يتعلق بالحالة العربية بالخصوص، فإن الحقيقة المرة هي أن كل الاستحقاقات المجتمعية والسياسية والاقتصادية سوف تظل معطلة وغير قابلة للمقاربة بأي شكل يحتمل أن يؤدي إلى أي نتائج فعلية في حال استمرار تسيد الاستبداد وطغاته ونظم فساده وإفساده على حيوات المظلومين المقهورين المفقرين في المجتمعات العربية، لتناقض عضوي بين كل من تلك الاستحقاقات وبنى وآليات عمل الاستبداد كأداة أولى لضبط المجتمعات وتنظيم نهبها وإفقارها وتحويلها مصدراً رخيصاً للمواد الأولية، وقوة العمل شبه المجانية، وسوق تصريف مفتوحة على أعنتها لنتاج الشركات العابرة للقارات لدول الأقوياء، برقابة مباشرة من نواطير ووكلاء أولئك الأخيرين ممثلين بنظم الفساد والإفساد والاستبداد ورموزها وبصاصيها وعسسها وجلاديها ومحتسبيها وما كان على شاكلتهم عربياً.

***

دكتور مصعب قاسم عزاوي 

في المثقف اليوم