آراء

الفريق أول البرهان وتداعي الاقتصاد.. ما أشبه اليوم بالأمس

بقية من فوضى يردعها الحزم، وفضل من اضطراب يزيله من لا يضعون أنفسهم موضع السخرية والاستخفاف، وتعود بعدها الأمور إلى نصابها، تعود مواقف الصراحة التي لا تحتمل شكاً ولا تأويلاً، فحكومتنا المشبل تبتغي أن يتعافى اقتصادنا من كل علة ودنف، وتسلك إلى تحقيق هذه المعافاة سبلها الواضحة التي يراها الناس جميعاً، فلن تنقض الهتافات آمالها، أو تبدد الاحتجاجات أمانيها، سوف يحملنا سادتنا أيها الأكارم على ما لا نحب، ويأخذونا بما لا نرضى، حتى تعود قيثارة الاقتصاد تجود بأعذب الألحان، اذن من خمود العقل، وبلادة الضمير، أن نخذل من ليس لهم سوابق في إزهاق الحرية، وقتل الأحرار، بل يجب أن نريهم جمال الصبر والجلد، وكمال الثقة والاطمئنان، وألا نسعى وراء شعارات لاذعة ممضة مفلولة الحد، مقطوعة الرجاء، ينفق فيها الجهد، ويضاع فيها الوقت، ويضحى فيها بالمهج، بل يجب أن ندنو من أصحاب البراهين القاطعة، والأدلة الناصعة، ونتحفهم بإذعان فيه الإباء كل الإباء، وخضوع فيه العزة كل العزة، لتمضي هذه السنوات العجاف وتكون حياتنا بعدها حافلة بالرفاهية، مترعة بالدعة والأمان.

لقد بلغ الجهد بخصوم الإنقاذ أقصاه، وانتهى بهم الإعياء إلى غاية دونها خرط القتاد، فالمعارضة التي تصور الإنقاذ دائماً بأنها أذاقت هذا الشعب أصنافاً من الذل، وأخضعته لضروب من الخسف، تنازع من أحالوا حياتنا القاحلة إلى جنان وارفة الظلال سدة الحكم، تسفه أحلامهم، وتسعى لوأد شأفة ما تبقى منها، وهم من نعرف في لين الجانب، ورهافة الحس، لقد تعلقت أفئدة هذا الشعب الرافل في حلل النعيم بهذه الناجمة لأنه لم يشهد في حكمها الممتد حيفاً أو شططًا، ويكفي أنهم أجلوا عنا غمرة العذاب التي كنا نكابدها في عهد الديمقراطية الثالثة، إن الحقيقة التي لا يرقأ إليها شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أن الإنقاذ قمينة بالهيام الخالص، والثناء الجميل، وما أحراها بالإعجاب والإكبار، وهي التي لم نشهد قط في سيرتها اعوجاجًا، أو في سياستها انحرافًا، أو في فهمها التواء، أو في شيعتها شبهة من فساد، إن مناقب الإنقاذ محاضرات يكثر فيها الكلام، ومناظرات يعلو فيها الجدل، بين أشتات يصلون مجدها التليد بالعهود الزاهية التي طبق فيها عدل الساسة آفاق الدنيا، وبين مستنكر لهذه المقارنة من أساسها، فقد تهالكت عليها جموع هذا الشعب لأنها لم تجد في حقبتها بأسًا أو شدة، أو ظلمًا أو حدة، فبعد كل هذه السيرة العطرة، والشيم النبيلة، تستحق منا الإنقاذ هذا الجور والعنت؟ ما هي شرور وآثام الإنقاذ التي دفعتنا للخروج عليها؟ ولماذا تلتفت المشبلة العطوف إلي الصحافة تنشد الإنصاف من هذه الشرائح التي تجوب حواف الطرق، وأقاريز الشوارع، منددة مستنكرة، فلا تجد إلا إعراضاً وازورارًا؟ ما هي جريرتها التي اقترفتها حتى توهيها الأوصاب المضنية، وتنهكها الأسقام الملزمة؟ لم كل هذا الجحود والنكران من صاحبة الجلالة؟ وهي التي ذاقت شهد الحرية في عهدي بعد أن كانت تتجرع علقم الكبت، وزقوم التكميم في أنظمة بائدة كانت تغالي في المبالغة، وتتورط في الغلو، فتعامل سجين الرأي كما يعامل شرعنا الحنيف من أتى بسوءة شنعاء، ومعرة دهماء، أهكذا يستغل خصومي رحابة صدري، وسعة مغفرتي؟ فيطنبوا في الإساءة، ويتمادوا في التجريح، وأنا التي لم يسبق لي قط أن أهدرت حقوقًا، أو امتهنت كرامات، متى ينتبه هذا الشعب الذي أوصلته إلى مراتب الترف والثراء، بعد حقب الملق والحرمان فيرعى حقوقي عليه، ويلزم غرسي؟ لقد أثقلت عليّ الأغلال أيها الشعب، وجعلتني غرضاً لسهام الطاعنين، وهدفاً لتزيُّد المفترين، وأنا التي لم أشعرك أبداً بأي إهمال أو تقصير، فما أقسى أن أظهر لك مودة وعطفًا، وتضمر لي عداوة وبغضًا.

هناك بكل أسف من يود أن يصور حقبة الإنقاذ التي هي حتماً أخف وطأة من عهد الحرية والتغيير، والخبير الأممي الذي لم يستنهض شيئا من همته، وعهد الفريق أول البرهان ومجلسه السيادي الآن، تود بعض الشرائح التي تلتحف برداء الدين، أن تبرهن بأن مرحلة المشير البشير هي التي صنعت المعجزات، وأنها كانت تملك رؤيتها المتوحدة التي صمدت أمام كيد الغرب المتربص بها، والتاريخ يقول لنا شيئاً خلاف هذا الزعم، وقائع الدهر تقول أن أقطابها سقطوا في براثن الصراع والنقائض، وأن غلتها من الاكتفاء الذاتي لم تكن موارد السودان الهائلة التي يعرفها القاصي والداني، ولكن كانت تترى إلى خزائنها من جمع الضرائب، وفرض الأتاوات، التي أضنت كاهل الشعب،  الشعب الذي ضيقت الخناق على حقوقه، وجعلته هدفا لإهانتها وتجريحها بأنها هي التي وهبته الكثير من المعطيات، بعد أن كان يتسربل بالقناعات الكافية، ففي عهدها الميمون أضحت مائدته عامرة، وحظه من رغد العيش وافر، وهو إفك  كشف خطله تعثر الاقتصاد والانكماش والضمور في استراتيجية الدولة ومقوماتها.

على جموع الإسلاميين أن تتحدث عن الإنقاذ بتجرد، ويدعوا عنهم المبالغة في الإطراء، والإغراق في الدعوى، يجب على الأقل ايلاءها المكانة التي تليق بها، ففي فترة المؤتمر الوطني كانت منظومة الأخلاق التي تمكن الشعب أن يقيم توازنا بين ثنائية الروح والجسد مؤثلة، تلك المنظومة التي كانت تعصمه من الرعونة والتهور.

***

د. الطيب النقر

 

في المثقف اليوم