آراء

حصوننا مهددة من الداخل

اياد الزهيريسمحت لنفسي أن أستعير هذا العنوان لمقالتي هذه وهو ذات عنوان كتاب الدكتور والأديب المصري محمد محمد حسين الصادر في سنة 1983م، والذي رد فيه على الأتجاهات الهدامة في الفكر العربي المعاصر. أن الدافع الذي دعاني الى أن أستعير هذا العنوان هو نفس الدافع الذي دفع الدكتور محمد محمد حسين لكتابة هذا الكتاب، ومعالجة نفس الأسباب التي سعى في كتابه لمعالجتها لأن أدوات الهدم التي شخصها كتابه هي نفسها من ناحية المستوى الشخصي والفكري ولكن الفرق أن الدكتور محمد محمد حسين قد تنبأ بها أو تلمس بداياتها، ولكني عشتها وتلمست آثارها وكتويت بنارها ورأيت بأم عيني كيف يُنهش جسد الأمة وتُحرق البلدان تحت نظر أبناءها وبأيادي أبناءها.

نحن نركز على العمل الداخلي المساهم في عملية التخريب لهذه البلدان، على أعتبار أن العمل أو الجهة الخارجية معروفة ولا تحتاج الى تشخيص، فمثلاً لا أحد يشك بأن أمريكا جاءت لأحتلال وتدمير العراق، ولكن الكثير يمكن أن تنطلي عليه شياطين الداخل المتعاونه مع أمريكا وحلفاءها، لذا نركز في مقالنا هذا على العامل الداخلي الذي لا يقل خطورة عن الجهة الخارجية المعادية للعراق .

لاشك أن ما يعيشه العراق من حالة تدهور خطير ومريع لايمكن أستبعاد عوامل داخليه بنيوية في حصول ما يحدث، وآفة ذلك هو حالة الجهل وتدني الوعي الثقافي لشريحة واسعة من المجتمع، والتي لولاها لما تجرأ العامل الخارجي أن يلعب دوراً تخريبياً فيه، أو يحصل على موطئ قدم على أرضه. هناك مثل يقول (يلعب الجاهل بنفسه كما يلعب العدو في عدوه)، وهو عين المثل القائل (الجاهل عدو نفسه). فالجهل هو السلاح الذي ينفذ من خلاله العدو الخارجي لعقر ديارنا، وعندما يحل الجهل في مجتمع يحوله الى معول يحطم به نفسه والى قطيع يقاد من قِبل أعداءه والخونه من أبناءه، كما يحول الجهل الشعوب الى مطية سهلة وأداة طيعة للمستبدين من حكامه، وبالحقيقة نحن شعوب الشرق الأوسط من بين أكثر شعوب العالم التي تعرضت للتجهيل عبر زمن حكم أنظمة الأستبداد والأستعمار، وأن ما نعانيه من كوارث ومآسي على طول التاريخ وليومنا هذا، وما نعانيه من حروب وصراعات، وما جرى علينا من أحتلالات وما وصلنا اليه من تخلف عن ركب الحضارة الأنسانية حتى أصبحنا في مؤخرة الشعوب، هو حالة الجهل الذي تلبس بها مجتمعنا، كما أن الأستبداد المتمثل بالحكومات الدكتاتورية هو أحد مخرجات الجهل، فالمجتمع الجاهل يمثل أرض خصبة لنمو الأستبداد فيه.

في مقالنا هذا سنتطرق فيه الى بعض العوامل التي ساهمت بشكل كبير في تحطيم حصون هذه الشعوب، وفتح أبوابها على مصراعيها لدخول الغزو الأجنبي ونهب ثرواتها ومحاولة ألغاء وجودها والقضاء على شخصيتها الحضارية التي بنتها عبر الزمن. هنا نأخذ نموذجين نطبق عليها ما نود الوصول اليه حول مساهمة الأستبداد والجهل في تحطيم الأمم والشعوب، النموذج الأول هو الأستبداد الأتاتوركي، والثاني هو مستنقع الجهل الذي وقع فيه الكثير من أبناء مجتمعنا العراقي.

لاشك أن الجهل هو الرحم الذي يولد فيه الأستبداد، وأن الحكومات هي أنعكاس لشعوبها، لذا كانت دولة الخلافة العثمانية وما مارسه سلاطينها من سياسة لا تمت للأسلام بصلة والقائمة على أستبداد السلطة، وجبروت القومية التركية وعجرفتها حوّلوا هذه الأمبراطورية الى ما يُطلق عليه بالرجل المريض، ونتيجة ذلك كاد البؤس والحرمان يغطي كل الشعوب الراسخة تحت حكم السلطنة العثمانية . هذه البيئة المتهالكة والنتنه كان من أهم عوامل بروز رجال الأستبداد، ومنهم كمال أتاتورك، هذا الدكتاتور المتسم بالقسوة المفرطة، ليس فقط مستبد، ولكن لا يخلوا من جهل كبير، حيث أسقط دولة الخلافة عام 1924م، وكان خطئه لا لأن الخلافة العثمانية تمثل وجه حضاري ناصع، ولا لأن الشعوب التي ترسخ تحت سطوتها تعيش الرفاهية، ولكن الخطأ كما يعبر عنه الدكتور محمد عمارة بأن (أتاتورك قد حطم الدولة العثمانية التي كانت لعدة قرون جداراً للشرق أمام أطماع الغرب الصليبي الزاحف والمتربص بهذه الأمة وبهذا الشرق)، وكان للدكتور علي شريعتي ذات الرأي مع الدكتور عمارة، وقد عبر عنه في كتابه (التشيع العلوي والتشيع الصفوي)، حيث يقول (ومع انكسار الدولة العثمانية تعرض الأسلام كقوة سياسية وعسكرية الى هزيمة، وبات الطريق معبداً أمام القوى الأستعمارية للهجوم على الشرق وبخاصة الدول السلامية) ومن ناحية أخرى يقر شريعتي بأن (الحاكم العثماني كان حاكماً جائراً وفاسداً وغير مؤهل) ولكن والقول له (اذا نظرنا الى الحاكم من زاوية كونه يقف حائلاً بوجه الأستعمار الغربي والتبشير المسيحي.... عندما يهاجم الغرب الحاكم العثماني فأنه لا يهاجمه لكونه حاكماً فاسداً أو مستبداً أو سنياً، بل هاجمه لأنه الممثل الرسمي لقدرة الأسلام في منطقة المتوسط، وهو سد منيع بوجه أطماعهم التوسعية نحو آسيا شرقاً وأفريقيا جنوباً) . لم يكن الدكتور شريعتي راضياً ومقتنعاً بالحكم العثماني، ولكنه كان عارفاً بما تضمره أوربا أزاء منطقة الشرق الأوسط والعالم الأسلامي، وقد شاطره الرأي الشيخ والمفكر المصري محمد رشيد رضا الذي كان من الناقدين والساخطين على سياسة الدولة العثمانية، بل وأزالتها ولكن بعين الأصلاح لا التدمير، وقد قال (يجب السعي دائماً لاأزالتها عند الأمكان.. ولا أن تجعل كالكرة بين المتغلبين يتقاذفونها ويتلقونها) لذلك دعا الرجل الى تشكيل حزب أسماه (حزب الأصلاح الأسلامي المعتدل) مقابل ما دعا اليه المتطرفون العلمانيون ذوي المنهج الغربي لأن التطرف العلماني لم يقل خطورة عن التطرف الديني فكليهما ضار بمستقبل الأمم والشعوب.

ما ذكرنا أعلاه يمكن أن تكون مقدمة لما نريد أن نتطرق له في الحالة العراقية، وكيف أن تطرف العلمانين لا يقل ضرر وفساد عن التطرف الديني، والذي يجد له بيئه منعشة في الأوساط الجاهلة، وقد أستخدم الأستعمار الغربي كلتا الحالتين كمعاول هدم لتصديع حصون بلداننا وفتح الباب واسعة لدخول أراضينا وأستباحة سيادة أوطاننا، ولنأخذ مثال حي نعيشه في ظاهرة الصرخي كظاهرة تمثل التطرف الديني في العراق، والتي يتزعمها شخص يُدعى بمحمود الصرخي، وهو رجل تدور عليه الشبهات، وله أرتباطات سابقاً بجهاز المخابرات العراقية السابق . هذا الرجل المشبوه يروج لفكر متطرف ويدعو الى العنف في تحقيق ما يرجو الوصول اليه من أهداف، ولكن السؤال المهم، كيف لهذه الأفكار المتخلفة ان يكون لها مكان في الوسط الأجتماعي لولا توفر عاملين رئيسين، وهو الأستبداد السياسي، المتمثل بالحكومات الدكتاتورية، وهيمنة وأحتكار طبقة تجهل فهم النص المقدس، والذي يزيد من خطورة هذه الطبقة عندما يهيمن بعضها على أدارة سلطة أو قيادة تنظيمات ذات طابع سياسي .

أن القوى الخارجية والطامعة بالعراق قد رصدت هذين العاملين في الساحة العراقية عبر عيونها المخابراتية، فعمدت الى أختيار حركات متطرفة تقوم بمهام التدمير المنظم في تصديع جدار وحدته الوطنية عبر تمزيق وحدة نسيجه الأجتماعي، وخلق حالة الفوضى العارمه في وسطه الشعبي، وتحقيق أهداف عجزت الآلة العسكرية من تحقيقة. أنها الحرب الناعمة، والحرب بالنيابة، وكان الصرخي وأمثاله هم الأدوات المناسبة لذلك، وقد أعدوا سلسلة طويلة من الحلقات التدميرية التي يبغون من خلالها الوصول الى تركيع الشعب العراقي وأستسلامة، وقبوله بما تملي عليه هذه القوى من مخططات رسموها سلفاً لهذه الدول ومنها العراق لما يُسمى بالشرق الأوسط الجديد . فقد بدأ الأستكبار الغربي بتحريك الورقة الطائفية والتي بدأت بأعمال عنف منذ عام 2006م وأخذت تنهش بالبلد عدة أعوام أحرقت الأخضر واليابس، تلتها بعد ذلك ظهور داعش وأحتلالها لأجزاء كبيرة من العراق، وبعد طرده عبر الحدود والقضاء عليه، جاءتنا صفحة أخرى من صفحات الأقتتال بين أبناء الطائفة الواحدة، وقد وقع الأختيار على الطائفة الأكبر والأكثر ممانعة لمشروع التطبيع مع أسرائيل، وكان أحد أبطال هذا الأقتتال هو المدعو محمود الصرخي الملتحف بأفكار متطرفة والمدعوم بأموال وأعلام بعض دول الخليج، ومن الملاحظ بما أن الجهات المتصدية لمشروع التطبيع هي جهات ذات طابع ديني، لذا عمدت محركات مشروع التطبيع الى تجيش أعلام وحركات وأحزاب ذات طابع علماني معادي فكرياً وعقائدياً للدين، حتى وصل الحال بهذه الحركات العلمانية الى مد حبل الوصل والتعاطف مع تيارات متطرفة من أمثال التيار الصرخي والتباكي عليه حين ينتفض المجتمع لحماية عقيدته ومتبنياته المقدسة، ومن المعروف أن الأعلام بكل أدواته وأساليبه هو السلاح الرئيسي في معركة العلمانيين ضد كل قوى التطبيع مع أسرائيل . فالمعركة ليست بالسهلة فهي تحتاج لمنسوب وعي عالي يقف بمواجهة هذه القوى العديدة والخطيرة، كما فنحن بأنتظار مشروع أتاتوركي جديد تصنعه أمريكا والدول المتحالفه معها يجتاح المنطقة لتغير خارطتها الجغرافيه والحضارية والدينية والديموغرافية، ولكي تُفشل هكذا مخططات، فلابد من سلاح قادر على أحباط كل هذه المؤامرات، الا وهو سلاح الوعي المصحوب بالعمل والجد، فكما المعرفة بالسباحة وحدها لا تنقذ الغريق، كذلك المعرفة بحجم المؤامرة لا ينقذ ضحايها المحتملين الا بالأستعداد المعنوي والمادي لرياح الشر الهابه نحو الشرق.

***

أياد الزهيري 

في المثقف اليوم