آراء

صحوة الأمين العام غوتيريش

كريم المظفرصحوة الأمين العام  للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، وجولته التي بدأها في تركيا ومن ثم موسكو، ومحطته الأخيرة التي ستكون  في كييف، أجمع الجميع من المراقبين والسياسيين، على انها جاءت متأخرة بعض الشيء، وان كانت كل الآراء تشدد على ان لا دور للأمم المتحدة في أي مساعي في أي من القضايا الدولية، لأن أمينها العام، شئنا أم أبينا لا يتعدى عن كونه دبلوماسي يعمل في وزارة الخارجية الامريكية، وينفذ ما يملى عليه من قرارات سياسية لإقرارها وتنفيذها لتأخذ الصبغة الدولية، ونحن لسنا بصدد " تعرية " منظمة الأمم المتحدة، لأن مثل هذا الموضوع يحتاج الى كتابة مجلدات، وأن القضايا  التي أخفقت الأمم المتحدة  في معالجتها لا تعد ولا تحصى .

وعلى ما يبدو أن غوتيريش من مشجعي المقولة الشهيرة، " أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي "، أراد وبشكل " ظاهري " وحسب تصريحاته   المؤكدة على أن منظمته،  تهتم بشكل كبير بخلق ظروف ملائمة لوقف إطلاق النار في أوكرانيا وتسوية الوضع هناك بطرق سلمية، في ذات الوقت الذي يعترف فيه بأنه بسبب الوضع الصعب في أوكرانيا،  توجد بين روسيا والمنظمة الدولية اليوم تفسيرات مختلفة لما يحدث هناك،  لكن هذا لا يحد من إمكانية إجراء حوار جاد للحد من" المعاناة الإنسانية".

المشكلة في " المعاناة الإنسانية "  هي أنها دائما ما يراها الغرب والمنظمة الدولية  من زاوية واحدة، و وفق مفهوم " غوتيريش "، فالمنظمة تحاول مساعدة الأوكران المتواجدين في كييف والمناطق الغربية، متناسية في ذات الوقت هناك مواطنين اوكرانيين، يعيشون في إقليم دونباس (في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك) المعترف بهما من قبل روسيا،  الذين تعرضوا ويتعرضون للقصف من قبل الجيش الاوكراني والمجاميع اليمينية المتطرفة  وتعرضهم للتهجير أيضا، والتي تتطلب الوقوف معهم وعلى معاناتهم على قدم المساواة، لكن هذا لم يحدث لا من قبل الأمم المتحدة ولا أعضاءها الذين يتبجحون بمبادي حقوق الإنسان، وغيرها من الشعارات " الزائفة "، فازدواجية المعايير " تركبهم " من رأسهم حتى أغمص قدمهم.

روسيا انتهزت فرصة زيارة المسئول الأممي، ليعيد الرئيس فلاديمير بوتين، الى أذهان ضيفه والغرب على حد سواء  "بسابقة كوسوفو"، خلال حديثه عن اعتراف روسيا باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين عن أوكرانيا، وبقرار محكمة الأمم المتحدة حول كوسوفو، القاضي بأنه في الحالات المتعلقة بحق تقرير المصير لا يعتبر كيان معين ملتزما بطلب موافقة السلطات المركزية للدولة التي يعلن الانفصال عنها، والأشارة إلى أن الكثير من الدول الغربية اعترفت باستقلال كوسوفو بعد إعلان الإقليم انفصاله عن صربيا في 2008، وأنه كان من حق الجمهوريتين في دونباس إعلان الاستقلال لأن "السابقة القانونية قد نشأت"، وقال الرئيس بوتين  مخاطبا غوتيريش " ونحن عملنا نفس الشيء تجاه جمهوريتي دونباس، وبعد أن قمنا بذلك توجهتا إلينا بطلب تقديم المساعدة العسكرية لهما في التصدي للدولة التي تخوض عملية عسكرية ضدهما"، مضيفا "  " كان من حقنا فعل ذلك بالتوافق التام مع المادة 51 من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة".

روسيا ارادت من زيارة الأمين العام للأمم المتحدة ان توجه رسائل الى أولئك الذين يتعاملون بالمعايير المزدوجة بشكل كبير في جميع القضايا الدولية، وليس فقط مع روسيا، وارادت اسماع من خلالها لمن به صمم، والتأكيد أنه من المفترض ان يكون ميثاق الأمم المتحدة هو الأساس في العلاقات الدولية، والوثائق الأخرى التي اعتمدتها هذه المنظمة، وليس قواعد وأوراق كتبها البعض  كما عبر عنها الرئيس الروسي، خدمة لمصالحه.

الزيارة الى موسكو من وجهة نظر المراقبين جاءت أيضا أمام تطور عسكري خطير، وهو إعلان مجلس الأمن لجمهورية ترانسنيستريا المعلنة من جانب واحد بشرق مولدوفا، عن تعرض وحدة عسكرية قرب العاصمة تيراسبول وهجوم على وزارة أمن الدولة أمس وتفجير هوائيين بمركز إذاعة في وسط الجمهورية، لـ"هجوم إرهابي"، وسط شكوك بحسب مصدر في دوائر حكومة ترانسنيستريا، من أن "كييف تسعى إلى إقحام  مولدوفا و ترانسنيستريا في الصراع،  ومن الواضح أن كييف، من خلال أفعالها، تسعى إلى " جر مولدوفا و ترانسنيستريا إلى الصراع الذي اندلع في أوكرانيا بسبب خطئها، ليضع  وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف،  أمام غوتيريش في مؤتمرهما  الصحفي المشترك، سؤال مهم، يتجسد في إن القضية التي يتم تحديدها الآن هي أن العالم يمر الآن بلحظة الحقيقة التي ستحدد ما إذا كانت البشرية ستعيش على أساس ميثاق الأمم المتحدة أو تستسلم لإملاءات أحد الأطراف وتوابعها؟، ولكن مثل هكذا سؤال تحتاج لرجل شجاع وذو مبادئ مؤمن بها، ونعتقد أن السيد غوتيريش " لا يتمتع بمثلها " .

كما إن هذا التطور الخطير، جاء أيضا متزامنا مع "تلاشي الخطوط وأصبح الخطاب الأمريكي أكثر حدة"، تلك الخطوط التي يزعم فيها  الرئيس الأمريكي، جو بايدن، على أنه لا يريد تحويل هذا النزاع إلى مواجهة بين روسيا والولايات المتحدة، وتصريح وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، في بولندا  بعد زيارته إلى كييف، عن نية أمريكيا " إضعاف روسيا يدل على استعداد واشنطن لمواجهة طويلة الأجل مع موسكو من أجل السلطة والنفوذ "،  وان أرتبطت هذه الاستراتيجية " ببعض المخاطر" بالنسبة للولايات المتحدة، وبالتالي أكدت واشنطن بذلك  "تحول النزاع" في أوكرانيا وهو يتميز الآن "بمواجهة أكثر مباشرة بين واشنطن وموسكو".

والحالة هذه باتت مخاطر اندلاع حرب نووية الآن كبيرة جدا ولا يجب الاستهانة بها بحسب رأي الوزير  الروسي، الذي يرى أيضا أن الكثيرين يضخمون هذا التهديد بشكل متعمد، مشيرا الى أنه في يناير الماضي أعادت الدول النووية الخمسة التأكيد على عدم جواز شن حرب نووية، معتبرا ذلك  " هو موقفنا المبدئي الذي ننطلق منه، وأنا حقا لا أحبذ ذلك الآن "، ولكن بالنسبة لعلماء السياسة المرموقين يقول لافروف، عندما تكون المخاطر كبيرة جدا "فأنا لا أرغب في تضخيمها بشكل مصطنع، ولكن هناك الكثيرون ممن يريدون ذلك "، وتابع أنه مع ذلك فإن "الخطر جسيم وحقيقي ولا يجوز الاستهانة به".

وتأكيد الوزير لافروف من  إن بلاده لا تدرس إمكانية استخدام أسلحة نووية في أوكرانيا، وأن أن بلاده كانت مضطرة لبدء عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا لحماية دونيتسك ولوغانسك، أنعكس بشكل مباشر على التصريحات الامريكية، حيث أكد المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي بأن واشنطن لا ترى أي سبب لتصاعد الأزمة في أوكرانيا كي تصبح صراعا نوويا، مشيرا إلى عدم وجود تغير في مستوى جاهزية قوات الردع الاستراتيجي لديها، وانه  "يتفق مع السيد (وزير الخارجية الروسي سيرغي) لافروف أنه لا يمكن أن يكون هناك رابحون في حرب نووية ويجب ألا تندلع، لا يوجد أسباب لوصول الصراع الحالي في أوكرانيا إلى هذا المستوى".

زيارة الأمين العام المتحدة تأتي أيضا عشية تناقض كبير يعيشه الغرب مع نفسه، والذي اعتبرته المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، وهي تعلق على تسابق الغرب فيما بين اعضاءه  لتزويد أوكرانيا بالأسلحة، وقالت "يبدو لي أن هذه الدول تعض لجامها، وتتدافع ط وان  الذين سيوفرون المزيد من الأسلحة وكل ما يمكن قتله في أوكرانيا، وفي الوقت ذاته يقولون إنهم يسعون من أجل السلام وأن الأعمال "العدائية يجب أن تنتهي"،  في وقت أن الأسلوب الأكثر فعالية لتحقيق السلام هو تحفيز عملية التفاوض.

كما ان التناقض وصل ما بين رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الذي أكد بأن لندن لا تريد خروج النزاع في أوكرانيا عن حدودها، أنه من حق كييف "الدفاع عن نفسها"،ليتعارض مع وزير دفاعه جيمس هيبي، الذي حث  أوكرانيا على توجيه ضربات إلى أهداف على الأراضي الروسية لمنع تزويد القوات الروسية التي تجري عملية عسكرية في أوكرانيا، لتحذر موسكو  لندن  من تحريض كييف على استهداف روسيا، لأنه  في حال الرد  ستوجيه الضربات الى مقرات صنع القرار الأوكرانية في كييف، وان المستشارين من رعايا إحدى الدول الغربية لن يمثلوا بالضرورة "مشكلة لروسيا"، مستخدمة  عبارة قالها المسؤول البريطاني في تصريحاته،  "لن تكون هناك بالضرورة مشكلة إن تم استخدام الأسلحة التي قدمتها بريطانيا إلى أوكرانيا في ضرب أهداف داخل الأراضي الروسية".

زيارة الأمين الاممي الى موسكو، أنتهت برسالة روسية  اعرب فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن أمله في الاتفاق مع أوكرانيا بالطرق الدبلوماسية، رغم استمرار العملية العسكرية الروسية، خصوصا وأن المفاوضات بين الوفدين الروسي والأوكراني في إسطنبول حققت "اختراقا جديا"، لكن  تصرفات الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، وصفها وزير الخارجية سيرغي لافروف ومواقف زيلينسكي  الأخيرة " بالمتقلبة "، ففي الوقت الذي بادر  زيلينسكي بالدعوة للمفاوضات، لكن موقفه الغير ثابت والمتغير باستمرار،  هو  "مخيب للآمال".

***

بقلم: د. كريم المظفر

في المثقف اليوم