آراء

وساطة للتفاوض

قاسم حسين صالحمهداة للتيار والأطار والمستقلين

توطئة: كان السيد رئيس الوزراء الأسبق الدكتور حيدر العبادي قد واجه مهمة غاية في الصعوبة والتعقيد تمثلت بتشكيل حكومة جديدة تتمتع بالقوة والكفاءة والنزاهة والمواطنة والانسجام.. والمشكلة ذاتها تواجه الان كل الأطراف في العملية السياسية بين حكومة أغلبية وحكومة توافقية.. وهذه المقالة مهداة لثلاثة أطراف: التيار الصدري والأطار التنسيقي والنواب الثلاثة والأربعين المستقلين.

عــقد مزمنــة

قبل ان نتحدث عن التفاوض الذي اصبح الان علما له نظرياته واساليبه، والمواصفات والمهارات الخاصة بقائد التفاوض، نشير الى ان تتابع الاحداث اثبت لنا نحن المهتمين بعلم النفس والاجتماع السياسي ان حكومات ما بعد التغيير، كانت منتجة للأزمات، وانها برمجت العقل السياسي العراقي على ان يتفنن او (يتذاكى) في خلق الآزمة للآخر.. نجم عنها ان جرى تفعيل لخلايا الدماغ والمراكز الخاصة بالكراهية والخوف والشك بالآخر، وسبات للخلايا والمراكز الدماغية الخاصة بحسن الظن بالشريك.ولأن هذا الحال استمر اكثر من (18)سنة، فان العقل السياسي العراقي ادمن على هذا الايقاع، وحصل ان شاع لدى الجميع أفكار غير عقلانية.. اخطرها فكرة (الغالب والملغوب).. بمعنى أن التنافس او الصراع السياسي صار في عرفهم ان ينتهي (بانتصارك) وهزيمة خصمك.

تلك عقد سيكولوجية تحكمت في العقل السياسي العراقي، أخطرها وجود عقول ما تزال تتحكم بها افكار غير عقلانية تعتمد تكتيك (علّي سقف المطالب) لتحصل على ما تريد.. التي هي بالضد من عملية التفاوض التي تقوم على مبدأ التنازلات المتبادلة.. فضلا عن تعصب عشائري، قومي، طائفي، حزبي.. وعقول مصابة بحول عقلي، ترى فقط ما هو ايجابي في الطائفة التي تمثلها، وترى فقط ما هو سلبي في الطائفة الأخرى.. وتحمّلها مسؤولية الأزمة وتبّرأ نفسها منها مع انها شريك فيها.

ان التفاوض، ايها الأخوة، هو ان تدخل في حوار مع طرف او اطراف بهدف الوصول الى اتفاق يرضي الاطراف المتفاوضة ويضمن لها الحد الادنى المقبول من المكاسب .هذا يعني ان تكتيك (علّي السقف) يجب ان يلغى من حسابات الطرف المفاوض وان يكون لديه استعداد نفسي للتنازل المتبادل.. بعيدا عن روح التعصب والتصلب والالتزام الشديد بالمواقف، وان تكون لديه الرغبة في التراخي.. لأن احد اهم شروط التفاوض الناجح هو وجود قدر من المرونة من الاطراف المعنية، بما يعني ان يراعي كل طرف حقوق الطرف الاخر، وان لا يكون هدفه هو الكاسب الأكبر.

صفات المفاوض الناجح

يحتاج التفاوض من المفاوض ان يتمتع بالقدرة على تغيير اتجاهات الطرف الآخر وصولا الى الاقناع.وهذا يتطلب ان يكون اسلوب المفاوض مؤثرا، اذ لا يكفي ان يكون الحق معه حتى يكون مقنعا للطرف الاخر وانما لابد ان يكون قادرا على تفنيد حجج الطرف الاخر باسلوب موضوعي يتناسب مع طريقة تفكير هذا الطرف وقدراته الادراكية وخلفياته الثقافية، وان يعي نقاطا جديدة بصورة سريعة، وان يستجيب لها باسلوب مناسب.. ولن يحصل هذا الا حين تكون رسالة المفاوض واضحة تحمل معنى واحدا محددا وفهما مشتركا.

وينبغي في المفاوض الجيد ان يتمتع بالقوة التي لا تنفر الاخرين من التفاوض معه وانما عليه توظيف قوته في دعم حججه. والقوة وحدها لا تكون كافية في قيادة عملية التفاوض بمهارة وانما ينبغي ان يكون هنالك طموح عال في الوصول الى الهدف مع استخدام المهارات الاتصالية والاقناعية.واللافت ان العراقيين عموما لا يتمتعون بتلك الصفات، ولهذا تراهم يختلفون على ما كانوا دعوا اليه.. مثال ذلك ان السيد نوري المالكي كان قد دعى الى تشكيل حكومة أغلبية فيما الآن يعارضها بشدة.

استراتجية الانهاك

كل الأطراف في العملية السياسية العراقية كانت قد قامت بمفاوضات لكنها اعتمدت استراتيجية الانهاك واستنزاف الطرف الاخر سواء بتطويل فترة التفاوض او بخلق العقبات القانونية (والدستور العراقي حمّال أوجه) التي يمكن وصفها باستراتيجية الخداع والتمويه، وعلى الجميع ان يغادروا هذه المواقف، ويتخلصوا من (حولهم العقلي) الذي يري كل طرف بأنه على حق والآخر على باطل.

ان كلامنا هذا قد يبدو خياليا للبعض او غير ممكن عمليا في ضوء (مخلفات) استراتيجيات التفاوض الفاشلة وما افرزته الاحداث من تعميق للصراع.غير ان واقع الحال يفرض على الاطراف المفاوضة ان لا طريق امامها سوى اعتماد منهج المصالح المشتركة القائم على استراتيجيتي (التكامل والتعاون). صحيح انهم لن يبلغوا الحالة المثالية، لكنها ستشكل البداية شرط توفر حسن الظن وصدق النوايا التي تفضي سيكولوجيا الى المرونة في تقديم التنازلات المتبادلة التي تضمن ان تكون المصالح متوازنه بين اطراف التفاوض، وهذا يتطلب ان يتوافر الاقتناع بالرأي لدى المفاوض، قبل اقناع الآخرين به.

ان الاجواء النفسية قبيل واثناء التفاوض عامل مهم في عملية التفاوض، ليس فقط في اسلوب الكلام الذي ينبغي ان يكون مرنا.. بل ولغة الجسد التي يفوق تاثيرها لغة الكلام احيانا.وليسمح لنا السياسييون بالقول انهم جميعا يمتلكون لغة جسد خشنة ترسل اشارات صريحة للمقابل بان هذا الشخص يصعب او لا يمكن التفاهم معه.فمعظمهم يمتلكون وجوها مسطحة، مكفهرة، متشنجة، غاضبة، وكأن بينها وبين الابتسامة.. خصومة مستديمة.

وساطة

بوصفنا نمتلك الخبرة في التفاوض والقدرة على تغيير الاتجاهات وتقريب المواقف، ولأن الوساطة الخارجية من طرف غير سياسي ومحايد تكون مقبولة من الجميع، فاننا نعرض استعدادنا للتوسط بين الأطراف الثلاثة:التيار والأطار والمستقلين.. ولهم نقول:

جرّبوا، فأن لم تربحوا الوطن وشعبكم وأنفسكم.. فأنكم لن تخسروا.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 

في المثقف اليوم