آراء

روسيا تعد مفهوما جديدا لسياستها الخارجية

كريم المظفرالتطورات الدراماتيكية التي يشهدها العالم منذ بداية العام الجاري 2022، حملت روسيا الى اتخاذ خطوة جديدة في تقييم مفهومها الجديد للسياسة الخارجية، خصوصا وان العديد من الدول التي كانت تحسب على موسكو بأنها " صديقة " أو تحمل صفة الشراكة المقربة لها، قد عقدت العزم بالاصطفاف الى جانب الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا، باتخاذ قرارات تهدف بالدرجة الاساس الحاق الأذى بروسيا في كافة المجالات، ومحاولة "طمس" الهوية الروسية التاريخية منها والثقافية والرياضية، الى جانب الهوية السياسية والاقتصادية .

ووفقا للبينات الرسمية فإنه يجري إعداد نسخة محدثة من مفهوم السياسة الخارجية للاتحاد الروسي في مرحلة نشطة، وهذا العمل هو ثمرة نشاط جماعي كما تصفه وزارة الخارجية الروسية،، وإنه ليس قرارًا "من فوق"، ووفقا للمتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا، فإن المفهوم المحدث هو الآن قيد التطوير فقط، وهذه العملية نشطة للغاية إنه جماعي، ولا يتم إطلاقه كشيء يجب تحقيقه، مؤكدة أن الوثيقة العقائدية في روسيا، مثل أي مفهوم، هي نتيجة جهود جماعية: تحليلية وعلمية وما إلى ذلك، وتنتمي هذه الوثيقة إلى فئة وثائق التخطيط الاستراتيجي، وقد أخذت وزارة الخارجية الروسية في الاعتبار هنا أحدث التغييرات التي تحدث في العالم، بما في ذلك التغييرات المهمة التي حدثت في السياسة الدولية على مدى السنوات الخمس الماضية.

ويشارك مجلس الأمن الروسي ومؤتمره الدائم، بطريقة أو بأخرى، في إعداد وثائق التخطيط الاستراتيجي، وفي مجالات مختلفة للغاية، لكن الحديث اليوم هو عن مجال المسؤولية المباشرة لمجلس الأمن - عن السياسة الخارجية، حيث سبق وأن أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن إنشاء مفهوم جديد للسياسة الخارجية وشدد الرئيس الروسي على أن وزارة الخارجية الروسية أخذت هنا في الاعتبار التغييرات الأخيرة التي تحدث في العالم، بما في ذلك التغييرات المهمة التي حدثت في السياسة الدولية على مدى السنوات الخمس الماضية .

ونشرت وزارة الخارجية الروسية مسودات معاهدة بين روسيا والولايات المتحدة بشأن الضمانات الأمنية واتفاقية بشأن تدابير ضمان أمن الاتحاد الروسي والدول الأعضاء في الناتو في 17 ديسمبر 2021.

وعقد اجتماع لمجلس وزارة الخارجية،للنظر في مهام السياسة الخارجية الروسية، وفي الحقائق الجيوسياسية المتغيرة جذريا والتي تطورت نتيجة لإطلاق العنان من قبل الغرب - بحجة الوضع في أوكرانيا - نطاق ووحشية غير مسبوقة لحرب هجينة ضد روسيا، بما في ذلك إحياء النظرة العنصرية للعالم في أوروبا في شكل رهاب روسيا، وهو مسار مفتوح نحو "إلغاء" روسيا وكل شيء روسي.

وتمتلك روسيا حاليًا فقا لوزير خارجية الاتحاد الروسي سيرجي لافروف، أوسع شبكة من الشراكات في منطقة أوراسيا، واليوم من الضروري بناء آلياتها الخاصة للاتصال الدولي - منظمة شنغهاي للتعاون، وبريكس، والاتحاد الاقتصادي الأوروبي، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، ورابطة الدول المستقلة، وإنه عاجلاً أم آجلاً، سينتهي كل شيء، ويدرك الغرب أنه من المستحيل مهاجمة المصالح الروسية مع الإفلات من العقاب.

"يقولون إن على روسيا أن 'تفشل'، ويجب أن 'تهزم روسيا'، وأن تجعل روسيا 'تخسر في ساحة المعركة'، لكن السياسيين الغربيين الذين ألقوا مثل هذه التعويذات يدرسون جيداً في المدرسة، وانهم يستخلصون استنتاجات خاطئة من فهمهم للماضي وما هي روسيا، واعرب الوزير لافروف عن ثقته في أن الوضع برمته حول روسيا سينتهي في غضون لحظة وأن الغرب سيعترف مرة أخرى بالواقع الذي يتم إنشاؤه "على الأرض"

وأنه "سيضطر " إلى الاعتراف بأنه من المستحيل مع الإفلات من العقاب مهاجمة المصالح الحيوية الروسية للروس، "أينما كانوا".

وفق المفاهيم الروسية الجديدة، فانه يجري الآن تحول مركز التنمية العالمية إلى أوراسيا، فلدى روسيا وكما اوضحنا في الوقت الحالي، أكبر شبكة من الشراكات في منطقة أوراسيا، لذلك يجب أن يعتمد عليها في زيادة تطوير روسيا، وقدراتها في مجال النقل والعبور واللوجستيات، لأن الغرب لم يثبت للمرة الأولى أنهم غير قادرين على التفاوض، لذلك فإن أوراسيا أصبحت المنطقة الواعدة في العالم، ولكن وكما عبر عنه الوزير لافروف " نحتاج إلى التعامل مع ترتيبها"، وليس استخدام أدوات شخص آخر مثل الدولار، ونظام الرسائل المالية SWIFT، ولكن إنشاء نظام خاص بها، وانه ليس من الصعب القيام بذلك.

وبدأت روسيا بالفعل بزيادة وبشكل كبير من حصة التجارة التي يتم تقديمها، بالعملات الوطنية للدول الشريكة، روسيا "الصين، وروسيا والهند، وروسيا وإيران، وفي إطار الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وان روسيا وشركاؤها " بحاجة إلى التطلع إلى الأمام"، والإشارة إلى الحاجة إلى بناء آلياتها الخاصة للاتصال الدولي - منظمة شنغهاي للتعاون، ومجموعة البريكس، والاتحاد الاقتصادي الأوروبي، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، ورابطة الدول المستقلة، وقالت وزارة الخارجية "إن المسار التعديلي العدواني للغرب يتطلب مراجعة جذرية لعلاقات روسيا مع الدول غير الصديقة وتعزيز شامل لمجالات أخرى من السياسة الخارجية".

وتؤكد روسيا أنه لن يتمكن أي شخص من تغيير أي شيء ما لم يتم اتخاذ قرار، والذي يجب أن يصادق عليه جميع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بما في ذلك روسيا، وبعبارة أخرى، من المستحيل تغيير وضع أي من الأعضاء الخمسة الدائمين، وكررت موسكو تأييدها وبشكل متكرر ترشيحات الهند والبرازيل للعضوية الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في حالة إنشاء مقاعد دائمة جديدة هناك، لكن وكما أوضح وزير الخارجية الروسي، انه في الوقت نفسه، ولأسباب واضحة، لا يمكن قول الشيء نفسه عن ألمانيا واليابان، أولاً، الآن من بين خمسة عشر عضوًا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ستة يسقطون في أيدي الغرب " وهذا غير عادل"، في وقت إن البلدان النامية اليوم ليست ممثلة بشكل كامل في مجلس الأمن، وينبغي أن يزداد عددها.

الآن من الأساسي أن يتفق الجميع على أن العيب الرئيسي في مجلس الأمن الحالي للأمم المتحدة هو الافتقار إلى التمثيل المناسب للدول النامية فيه، وهذا هو موقف روسيا، ومن الضروري أن يصدق جميع الأعضاء الخمسة الدائمين على مثل هذا التعديل، في الوقت نفسه فإن روسيا قلقة من محاولات العديد من الحكومات الغربية للعب جنبًا إلى جنب مع مظاهر الخوف من روسيا على مستوى الأسرة وحتى اللعب على المشاعر السلبية والمخزية، وشدد لافروف على أن "الناس يعتقدون أنهم سادة الحياة، وقيل لهم إن بإمكانهم فعل أي شيء إذا عارضوا روسيا وكل شيء روسي"، وباتت تسمع في الغرب أصوات "عندما يكون الناس غاضبين من قرارات حظر تدريس دوستويفسكي وتولستوي في المدارس الغربية، وتغيير أسماء الشوارع"، لذلك فإن روسيا تحتاج إلى تطوير علاقات ودية مع أقرب جيرانها، الصين، الأمر الذي يعود بالنفع الاقتصادي على الطرفين.

إن موسكو وبكين مهتمتان برؤية الغرب بالتوقف عن إعاقة "العمليات الطبيعية لإرساء الديمقراطية في العلاقات الدولية وإقامة تعددية قطبية حقيقية تعكس الثقل الحقيقي للدول في العالم المتغير"، والآن وبعد أن اتخذ الغرب موقف الديكتاتور، ستسعى موسكو الى نمو علاقاتهما الاقتصادية ( روسيا والصين ) وبشكل أسرع، هذا، بالإضافة إلى الدخل المباشر لميزانية الدولة، سيمنحها الفرصة لتنفيذ خطط لنهوض الشرق الأقصى "سيبيريا الشرقية"، ي الوقت نفسه فأن العدد الرئيسي من المشاريع مع الصين يجري تنفيذها هناك، وهذه فرصة لروسيا والصين لتحقيق إمكاناتها في مجال التقنيات العالية، بما في ذلك في مجال الطاقة النووية، وفي عدد من المجالات الأخرى، وقد طورت الصين المعلومات وتقنيات الاتصال، مما هو عليه الحال في الغرب. هناك الكثير من المنافع المتبادلة هنا ".

والخطوة الروسية الجديدة جاءت متزامنة مع عدم نية حلف الناتو الالتزام بالوثيقة الأساسية المبرمة بينه وروسيا عام 1997 فيما يخص تواجده العسكري في شرق أوروبا، ونقلت صحيفة "فاينانشل تايمز" في تقرير مفصل عن رئيس اللجنة العسكرية للناتو (أعلى هيئة عسكرية في الحلف)، الأميرال روب باور، تصريحه بأن حلف شمال الأطلسي "لا يرى أمامه أي خيار سوى تعزيز تواجده في شرق أوروبا"، وربط باور الجهود المكثفة التي يبذلها الناتو لرفع مستوى تواجده العسكري في شرق أوروبا بالعملية العسكرية التي تجريها روسيا في أوكرانيا، مشددا على أن ذلك "عامل ردع مهم للغاية".

الوثيقة الأساسية التزم بموجبها الحلف وموسكو بتقليص مستوى التواجد العسكري وعدم نشر قوات جديدة على مقربة من حدود أحدهما الآخر، لكن الحلف اليوم أقر بأن دول الحلف لم تعد ترى أيديها مكتوفة بهذه الوثيقة، فيما يخص تعزيز "جناحه الشرقي"، وأن الوثيقة الأساسية لا تزال قائمة، غير أن مضمونها كما يقول باور "لن يقوض أيا مما يتعين على الناتو فعله"، في حين أقرت "فاينانشل تايمز" بأن مسؤولين في العديد من دول الناتو قالوا في حوارات شخصية إنهم يعتبرون الوثيقة الأساسية مع موسكو ميتة، بينما ذكر الأميرال روب باور: "في الوقت الحالي، يقضي الرأي العام، عند المستوى السياسي، بأننا لا نقتلها (الوثيقة)، غير أنه ليس هناك أي شيء فيها سيمنعنا من فعل ما يتعين علينا فعله".

وتشير المعلومات إلى أن 40 ألف عسكري تحت قيادة الناتو المباشرة منتشرون حاليا في شرق أوروبا (ما يتجاوز بعشرة أضعاف رقم ما كان قبل بدء العملية الروسية في أوكرانيا)، بما في ذلك قوات رد سريع تضم نحو 10 آلاف عسكري، وتم تشكيلها لأول مرة في تاريخ الحلف، وان إجمالي عدد عسكريي الناتو في جناحه الشرقي يقدر بنحو 330 ألف عسكري، منها جيوش وطنية وتعزيزات من غرب أوروبا والولايات المتحدة وكندا، بالإضافة إلى 130 طائرة حربية في حالة التأهب و150 سفينة حربية تنفذ دوريات، وأن استعدادات الناتو لتبني هذه الخطوات لم تبدأ بالفعل على خلفية النزاع الحالي في أوكرانيا، بل قبل أربع سنوات.

كما كشف الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، أن استراتيجية الناتو الجديدة، التي سيناقشها الحلف في قمة مدريد في يونيو المقبل، لن تعتبر روسيا شريكا استراتيجيا، وأوضح أن المفهوم الاستراتيجي هو أهم وثيقة لحلف الناتو، بعد المعاهدة التأسيسية، معاهدة واشنطن، وتم الاتفاق على المفهوم الاستراتيجي الأخير في عام 2010، ومنذ ذلك الحين، تغير العالم بشكل جذري، وهذا يجب أن ينعكس في المفهوم الاستراتيجي الجديد"، لافتا إلى ان روسيا في المفهوم الاستراتيجي الحالي، تحمل صفة "شريك استراتيجي".

وكانت روسيا قد عرضت على الناتو والولايات المتحدة في ديسمبر الماضي إبرام اتفاقيتين خاصتين بإنشاء نظام ضمانات أمنية لخفض التوترات العسكرية في أوروبا، بما في ذلك وقف توسع حلف شمال الأطلسي شرقا والتخلي عن فكرة انضمام أوكرانيا وجورجيا إليه، غير أن الغرب رفض تلبية مطالب موسكو هذه، واتهمت روسيا الحلف بعدم الوفاء بوعوده الشفهية بعدم التوسع شرقا والتي قدمها في أوائل التسعينيات، بالإضافة إلى مخالفة ميثاق الأمن الأوروبي الذي تم تبنيه ضمن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وهو ينص على أنه لا يجوز لأي جهة في أوروبا تعزيز أمنها على حساب أمن دول أخرى.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

 

في المثقف اليوم