آراء

لماذا يسعي الغرب لحرب استنزاف طويلة بأوكرانيا

محمود محمد عليبعد عقود من سقوط الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، أعادت الحرب الروسية الأوكرانية المنطقة العربية إلى أجواء تلك الفترة، حينما كانت تشكل محورًا من محاور النزاع بين المعسكرين الشرقي والغربي، لتجد دول المنطقة نفسها مرة أخرى مطالبة بالاصطفاف مع روسيا أو الولايات المتحدة والغرب في هذه الأزمة، ذلك الاصطفاف الذي يرتبط بمصالحها مع أطراف الصراع، وهو ما ستظهر آثاره في الضغوط السياسية التي سوف تمارس عليها لاصطفافها مع أحد الطرفين، بالإضافة إلى التبعات الاقتصادية المترتبة على الحرب بشكل عام، وعلى الخيارات السياسية بشكل خاص.

والسؤال الآن: متى تنتهى العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا؟ سؤال أصبح العالم كله ينتظر الإجابة عليه بفارغ الصبر في ظل تداعيات هذه الأحداث على البشرية جمعاء جراء موجة التضخم العالمية وموجة الغلاء والاضطرابات السياسية.

لقد مر اليوم المائة علي الحرب الروسية – الأوكرانية وذلك منذ أن انطلقت في الرابع عشر من فبراير 2022، وتصنيف تلك الحرب من الناحية التقييمية فيمكن القول بأنها تعد حربا محدودة لكونها بين دولتين، رغم أنها عالمية التأثير، وفي ذات الوقت هي حرب تقليدية أي لا يستخدم فيها السلاح النووي .

ولو رجعنا إلى الوراء ونظرنا للتاريخ فنجد أن كل من روسيا وأوكرانيا كانا يخضعان تحت الاتحاد السوفيتي، وعندما تفكك الاتحاد السوفيتي صارت كل منهما دولة مستقلة، وصارت أوكرانيا دون غيرها تميل للغرب، وهذا ما حدث في الثورات البرتقالية في عام 2004، مما جعل روسيا تبادر بالاستيلاء على جزيرة القرم والدول الغربية آنذاك عاقبت روسيا بمجموعة من العقوبات، وبمرور الوقت رأينا كل من لوغانسك ودونيسك التابعتين لأوكرانيا يحاولا الانفصال عنها مما جعل الروس يعلنون الاعتراف بهما كدولتين منفصلتين.

والسؤال الآن: لماذا فكرت روسيا في غزو أوكرانيا؟.. هل لمجرد انضمام أوكرانيا للغرب؟.. أم أن هناك أمرا آخر؟..

لو رجعنا للتاريخ ونظرنا لأزمة الصواريخ الكوبية والتي حدثت في أواخر القرن المنصرم، لو وجدنا أن كوبا الواقعة على حدود أمريكا، حيث كان يحكم كوبا " باتستا" وقامت عليه ثورة من خلال " كاستروا" و" جيفارا" وبالتالي أزاحوا باتستا وهنا صارت كوبا دولة شيوعية تابعة للاتحاد السوفيتي، وهنا استيقظت أمريكا على وجود صواريخ روسية في مرمي الهدف تهدد الأمن القومي الأمريكي، وكان جون كيندي هو رئيس أمريكا آنذاك، وحاول أن يستخدم الصواريخ النووية وكاد أن يزيل كوبا من الوجود، لولا تم احتواء الأمر وسحب الاتحاد السوفيتي تلك الصواريخ الذي وجهها للأمريكان بكوبا وتم وضع علم يسمي بعلم الأزمات لدراسة مخاطر استخدام السلاح النووي .

ما أريد أن أقوله من الاستشهاد بأزمة الصواريخ الكوبية هو تكرار نفس السيناريو مع الروس في حربها ضد أوكرانيا، حيث اكتشفت روسيا أن أوكرانيا الدولة المجاورة لها تريد الانضمام لحلف الناتو وحلف الناتو سيوجه صواريخه على روسيا، وهنا رفضت روسيا ذلك بالثالث وذلك بنفس الموقف الأمريكي الذي حدث في أزمة الصواريخ الكوبية، ومن ثم فإن التهديد الغربي في أوكرانيا جعل روسيا ترفض ذلك تماما، إلا أن زيلنسكي رئيس أوكرانيا رفض بتحريض من أمريكا.

ومنذ شهر يناير 2022 حشدت روسيا جيوشها على الحدود الأوكرانية لمدة شهر ونصف، وفي الرابع عشر من فبراير 2022، هاجمت روسيا أوكرانيا من خلال أربع محاور: المحور الأول من خلال جزيرة القرم ودخلت تغزو خيرسون وزابورجيا .. والمحور الثاني من خلال دوتسك ولوغانسك .. والمحور الثالث من خلال خاركيف .. والمحور الرايع من خلال الدخول علي كييف العاصمة .. ونجحت روسيا نحاج منقطع النظير من تدمير البنية التحتية العسكرية الأوكرانية كلها في أقل من عشرة أيام، ثم بدأت بعد ذلك روسيا الدخول نحو كييف العاصمة،  وذلك كي يسقط النظام وتشكيل لجنة رئاسية من الجيش الأوكراني، لولا اصطدام روسيا بحرب المدن، فمن المعروف أن هناك ما يسمي " المدن مقبرة الجيوش"، حيث نجد أن أسوأ عملية يقوم بها جيش نظامي هو أن يهاجم على مدينة تستخدم سلاحا فتاكا وهو حرب العصابات، وهنا تراجع الجيش الروسي ليرتد ناحية الشرق.

بيد أن ما يلفت النظر في خضم تطورات الأزمة الأوكرانية، ظهور أبعاد جديدة في المواجهة بين الغرب وروسيا والتي تعتبر الأشد من نوعها منذ سقوط جدار برلين قبل ما يزيد عن ثلاثين عاما. فرغم هيمنة الحضور العسكري بمقوماته التقليدية، إلا أن خبراء يرصدون ظهور عناصر جديدة في الصراع، وهي مستمدة من التطورات التكنولوجية والسيبرانية ونوعية جديدة من أدوات الصراع لا تقتصر على الأسلحة التقليدية والاستراتيجية بما فيها النووية. وبحكم تأثيرها النوعي في طبيعة الصراع فهي تضفي على المواجهة هذه المرة طابعا غير تقليدي يختلف عما شهده العالم في العقود الماضية سواء في ظل الحرب الباردة أو بعدها، وهو ما يطلق عليه علماء الاستراتيجيات، بأجيال جديدة للحروب والصراعات.

وما يزيد الأمر تعقيدًا، ويوسع دائرة الصراع، ويلقي بظلال الأزمة على مناطق عديدة من العالم، أن روسيا تمتلك من الأوراق ما يمكنها من الضغط على الغرب وحلفائه، وهو ما سيجعل العديد من الدول الراغبة في الحياد وانتهاج سياسة متوازنة تفكر كثيرًا قبل الاصطفاف مع أميركا والغرب، ولعل أهمها هو الدور الفاعل الذي تلعبه روسيا في مناطق عديدة للصراع، كما في سوريا وليبيا وأذربيجان، بالإضافة إلى تحالفها مع إيران، وهو ما يمكن أن يعيق تقدم المباحثات معها في الملف النووي.

لا أحد يعرف كيف ستنتهي الحرب الروسية على أوكرانيا، فحسابات موسكو بحرب سريعة خاطفة، تؤدي إلى انهيار دراماتيكي سريع للحكومة الأوكرانية، بقيادة الرئيس زيلنيسكي، لم تكن دقيقة، ولعل ما يزيد المشهد تعقيداً على الأرض، هو حجم المقاومة التي يبديها الأوكرانيون، وقدرتهم على إبطاء الهجوم الروسي، لا سيما في ظل مد الدول الغربية لأوكرانيا بمختلف أنواع الأسلحة القادرة التي توجيه ضربات موجعة للآلة العسكرية الروسية، كل ذلك بالتوازي مع العقوبات الهائلة التي فرضها ويفرضها الغرب على روسيا، بغية شل القدرة العسكرية الروسية الجامحة، فضلا عن جملة معطيات توحي بأن الغرب وضع خططاً مسبقة لإدارة هذه الحرب دون المشاركة المباشرة فيها. حتى الآن ترسم مراكز الأبحاث والدراسات في الغرب، جملة سيناريوهات على شكل تحديد مآلات هذه الحرب، لعل أهمها:

1- انتصار بوتين: ينطلق أصحاب هذا السيناريو من عاملين أساسيين، الأول، الفارق الكبير في القوة العسكرية بين روسيا وأوكرانيا. والثاني، له علاقة بشخصية بوتين التي تحمل أحلام قيصرية وشخصية تتجاوز أوكرانيا نفسها، ويرى أصحاب هذا الرأي أن بوتين لن يوقف الحرب إلى أن يحقق أهدافه، وهذا ما أكده مراراً خلال اتصالاته مع زعماء الدول الذين حاولوا التوسط لوقف الحرب، لكن بالتأكيد تحقيق هذا السيناريو، كما السيناريوهات اللاحقة، يواجه عقبات كثيرة.

2- انتصار أوكرانيا: يقوم هذا السيناريو على أن قضية هزيمة أوكرانيا لم تعد قائمة بعد أن نجحت في استيعاب المرحلة الأولى من الحرب، ونظمت المقاومة على أسس وطنية وشعبية، وحصلت على كميات هائلة من الأسلحة القادرة على تدمير الدبابات الروسية على أبواب المدن الكبرى، لاسيما العاصمة كييف، ومقياس الانتصار الأواكرني هنا، له علاقة بمنع روسيا من تحقيق هدفها النهائي، أي السيطرة على كامل أوكرانيا، إذ أن مثل هذا السيناريو كفيل بإغراق روسيا في (المستنقع) الأوكراني، ودفع الأوليغارشيين من حول بوتين إلى التخلي عنه، وخلق تداعيات كبيرة في الداخل الروسي، وربما دفع هذا الداخل إلى التحرك ضده، وصولاً إلى عزله وإخراجه من السلطة، سواء بانقلاب عسكري، أو من خلال تعديلات دستورية وقانونية، أو تحت وقع الشارع الذي لن ينتظر طويلاً للخروج إذا طالت الحرب، وأثرت أكثر على لقمة عيشه، ودخله، وخدماته اليومية.

3- سيناريو الأفغنة: مع إطالة عمر الحرب، وعجز أي طرف عن الانتصار، يلوّح سيناريو الأفغنة برأسه في المشهد الأوكراني، إذ أن قوافل المتطوعين والمسلحين من أنحاء العالم بدأت تتدفق إلى الأراضي الأوكرانية للقتال ضد هذا الطرف أو ذاك، واللافت هنا، أن هذا المشهد المتدفق يتكامل مع عوامل داخلية في ظل وجود عشرات الجماعات المسلحة المقاتلة، على رأسها جماعة آزوف التي تفرغت لقتال الجماعات المطالبة باستقلال دونتسك ولوغانس في حوض دونباس شرقي أوكرانيا، وظهور جماعات مسلحة مماثلة في غرب أوكرانيا تنشد القتال ضد الروس، وما يشي بهذا السيناريو هو وجود فروقات هوياتية وعرقية وجغرافية ومذهبية، بين شرق أوكرانيا وغربها، بين شرق يرى أنه أقرب إلى روسيا ويدعو إلى الارتباط بها، وبين غرب يتطلع إلى الارتباط بالغرب وحلف الأطلسي. وكل ما سبق يشكل مقدمات لتقدم سيناريو الأفغنة، وإن اختلفت الظروف والمعطيات والشعارات.

4- سيناريو الانفتاح على المجهول: مع التأكيد مجدداً على أن لا أحد يعرف كيف ستنتهي هذه الحرب، يبقى خيار توسعها حاضراً، لاسيما في ظل إشهار بوتين سلاح الردع النووي، واحتمال انتقال الحرب إلى الدول المجاورة لأوكرانيا، وتحديداً مولدوفا التي تشكل الخاصرة الرخوة في هذه الحرب، والحديث عن استخدام الطيارين الأوكرانيين لمطارات بعض دول أوروبا الشرقية، وهو ما عده بوتين مشاركة فعلية في الحرب، بالتزامن مع توجه دول الحلف الأطلسي إلى دعم أوكرانيا بالطائرات الحربية، في حين حدد الحلف بوصلته بعدم التورط المباشر  في هذه الحرب إلا إذا اعتدت روسيا على دولة عضو في الحلف، وهو ما يعني تلقائيا دخول الحلف في الحرب، وفق المادتين الرابعة والخامسة من ميثاقه، ولعل وصول الأمور إلى هذه النقطة، يعني الانفتاح على المجهول على اعتبار أن الحرب قد تتحول إلى حرب عالمية ثالثة مدمرة.

5- سيناريو التسوية: ثمة من يرى أن هذه الحرب محكومة بالتسوية، تسوية تقوم على الحفاظ على الحكومة الأوكرانية الحالية، مقابل تحديد خياراتها السياسية المستقبلية دون التعارض مع الهواجس الروسية، وهو ما يطلق عليه خيار أوكرانيا المحايدة، وبمعنى أدق التخلي عن خيار انضمام أوكرانيا إلى عضوية حلف الأطلسي على اعتبار أن هذا الخيار يشكل خطاً أحمر روسي دونه استمرار الحرب، وهنا تتوجه الأنظار إلى الصين التي تملك ثقل التأثير على روسيا، لأسباب اقتصادية وسياسية وأمنية، خاصة أنها  القطب الدولي الأقرب إلى موسكو في الصراعات الدولية الجارية، ولعل هذا ما يفسر النداءات الغربية للصين للقيام بدور ما في هذا المجال، وهو ما قد تجده الصين مكسباً دبلوماسياً وسياسياً، خاصة أن القضية تعنيها بشكل مباشر، إذا ما علمنا أن لها قضية مشابهه للقضية الأوكرانية، أي قضية تايوان، وعليه قد تجد في تسوية سياسية للأزمة الأوكرانية، سيناريو ممكن لحل أزمتها التاريخية العالقة مع تاييبه، ومن خلف الأخيرة الغرب.   في الواقع، من الصعب الجزم بأن أي سيناريو من السيناريوهات السابقة سيشكل مخرجاً لأزمة الحرب الروسية على أوكرانيا، إذ أن جميعها مترابطة، وتتداخل وتتقاطع مع بعضها، ويتوقف نجاح هذا السيناريو أو ذاك على عامل الميدان الذي قد يحمل في طياته مفاجأت كثيرة، تدفع بالأمور نحو سيناريو ما، لتحديد مآل الحرب الجارية.

****

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..................

المراجع

1- اليوم السابع، الخارجية: مصر تدعو لتغليب لغة الحوار بين أطراف الأزمة الأوكرانية، س24 فبراير/شباط 2022، https://bit.ly/3Mz21zM

2-العربي الجديد، الغزو الروسي لأوكرانيا: مصر تائهة بين المعسكرين الروسي والغربي، 25 فبراير/شباط 2022، https://bit.ly/3HUI5ni

3- DW، تحليل: الأزمة الأوكرانية.. العالم العربي وموقعه من الصراع؟، 15 فبراير/شباط 2022، https://bit.ly/3HB0Ls0

4- الشرق الأوسط، استعدوا لتداعيات الحرب الأوكرانية، 15 فبراير/شباط 2022، https://bit.ly/3MkIseg

5-خورشيد دبس: مآلات الحرب الروسية على أوكرانيا، 09-03-2022

في المثقف اليوم