آراء

الإسلاميون في الزمن الديمقراطي والبدو في الزمن الجاهلي (2)

قاسم حسين صالحأخلاق البدو.. أفضل!

يؤكد علماء الاجتماع والمفكرون العرب والأجانب (ابن خلدون، طه حسين، علي الوردي، احمد امين..، نيكولسن، سمث...) ان المهمة الأصعب اجتماعيا التي واجهت النبي محمد هي (الروح القبلية – التعصب) لدى البدوي التي اوصلته الى يقين بأن قبيلته هي الجماعة الشرعية الوحيدة في العالم، وكيف يحد من هذا التعصب (القبلي، العشائري) بجعل البدوي يشعر بأنه اخو المسلم أيا كانت قبيلته، وأن يغير شرف البدوي الذي يفرض عليه أن يقف مع قبيلته سواء كانت على حق او باطل، الى ان يكون شرفه هو الوقوف مع المسلمين وان كانوا ينتمون الى قبائل وعشائر مختلفة، ويحول مركز الولاء من القبيلة الى الجماعة الدينية بقوله:  "كلكم لآدم، وآدم من تراب، ان اكرمكم عند الله اتقاكم". وان (يفك) التطابق بين الحق والقوة، حيث يرى البدوي ان الحق لا يمكن ان يكون دون ان تكون هناك (قوة) خلفه. ويذكر هنا ان الأمام علي هاجم هذا النوع من المطابقة بين (القوة والحق)، ورأى بأن (الحق) لابد ان يكون عاجزا في البداية ليصبح اشبه بالأمتحان "للمؤمنين"، ولو سارت القوة الى جانب الحق على الدوام، فلا يمكن التمييز بين "المؤمنين".. المخلصين والأدعياء.

والمدهش، ان البدو كانوا يمتلكون قيما (ثقافية!) انتبه لها الخليفة عمر بن الخطاب. اذ تنسب له العديد من الأقوال التي تشير الى انه كان يميل شخصيا الى العرب ويقدر قيمهم الثقافية، وانه كان يحثهم على تفاخرهم التقليدي بالنسب كما يذكر جرجي زيدان، فيما يروي ابن خلدون قصة نلاحظ فيها بانه كان يشجع الغرور البدوي المعروف بين جنوده بدلا من أن يثنيه.

ويقدم الوردي تحليلا لطيفا لها بقوله ان عمر كان مسلما حقيقيا، وانه استغل الغرور البدوي والروح القبلية في زمنه استغلالا ناجحا في محاربة اعداء الأسلام. وما كان يقصد بتشجيعه روح البداوة ان يقويها على حساب روح التدين بل كان يقود البداوة والدين ضد الغرباء.

وللنبي محمد مقولة: (الناس معادن.. تجد خيارهم في الجاهلية خيارهم في الاسلام، فاصنعها في الاسلام، اقرّ الضيف، واحسن الى اليتيم، واكرم الجار). وهناك حادثة ان أبنة حاتم اقتيدت الى النبي فخاطبته قائلة:  ان أبي كان يفك العاني، ويحمي الذمار، ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرّج عن المكروب، ويفشي السلام ويطعم الطعام، فارحموا عزيز قوم ذل!.

فأجابها النبي: " يا أمة الله، هذه صفة المؤمن حقا"، ثم التفت الى اتباعه وقال: " خلّوا عنها، فان اباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق".

ويمتاز البدوي بالشهامة والكرامة، ويتفق ابن خلدون مع بدو " الأبل" بأن الرجل"الكامل" هو الذي يحافظ على حريته الكاملة وكرامته من أي منّة. ويضيف بان البدو يستطيعون ان يتكيفوا للانضباط الديني ونزعة الزهد بسهولة كبيرة. فعادة ما يرتدي البدو ملابس بسيطة، ويعيشون في بيوت بسيطة، ما يعني ان انشغالهم بامور الدنيا اقلّ. ويرى ان البدو اقرب الى روح الدين لأنهم يتمتعون باخلاق قوية. فالعيب والأنحلال الأخلاقي نادران في البدواة، ويعزو انتشار الرذائل والنذالة في الحضارة الى استعمال القوة في السيطرة على المجتمع، ويرى ان المظلوم يضطر الى الكذب والغش ليحمي نفسه من المزيد من الظلم.

اخلاق الاسلاميين في الزمن الديمقراطي.

ان متابعة الباحث لأخلاق الطبقة السياسية التي حكمت العراق بعد (2003) ومقارنتها باخلاق البدو، يخرج بنتيجة ان اخلاق البدو في زمن الجاهلية ارقى من اخلاق كتل واحزاب الاسلام السياسي في الزمن الديمقراطي.. واليك ما يثبت ذلك:

* ان انشغال البدو بأمور الدنيا كان اقل، فيما انفردت الطبقة السياسية في العراق بالثروة وانشغل قادتها بملذات الدنيا وعاشوا برفاهية خيالية.

* ان العيب والانحلال الأخلاقي كانا نادرين في الزمن البدوي، فيما لم يعد حتى الحرام عيبا في الزمن الديمقراطي. وبسببهم (السياسيون) تهرأ الضمير الأخلاقي، وتراجعت القيم العراقية الأصيلة لتتغلب عليها الرذائل والنذالة والقباحة.

* كان البدو اقرب الى روح التدين.. ما يعني انهم كانوا اكثر التزاما بقيم الدين الأسلامي، فيما اثبتت الأحداث ان كتل وأحزاب الأسلام السياسي كانت ابعد عن الدين الاسلامي، اقبحها ان الاسلام هدف الى تحقيق العدالة الاجتماعية.. فيما هم سرقوا المليارات، وصاروا بوصف المرجعية الدينية(حيتان فساد). وانهم كانوا افسد من حكم العراق في تاريخه السياسي، وبسببهم كان هناك اكثر من (13) مليون عراقي تحت خط الفقر مع ان العراق يعد اغنى بلد في المنطقة وأحد اغنى عشرة بلدان في العالم.

* حين دخل البدو في الأسلام.. كانوا يلتزمون بتعاليم النبي محمد، فيما عملت كتل واحزاب الاسلام السياسي بالضد من تعاليم النبي محمد، اقبحها انهم كانوا (اسلاميين قح) في اقوالهم، و(زنادقه قح) في افعالهم.. بدليل انهم استفردوا بالثروة والوطن وتركوا ملايين العراقيين يعانون الفقر والبؤس والضياع وتوالي الخيبات.

* كان البدو في زمن النبي محمد طبقة اجتماعية متجانسة، ولم يظهر بينهم من اثرى على حساب الأسلام، فيما ظهرت في الزمن الديمقراطي فئة قليلة مستحدثة اتجهت نحو الثراء بشهية مفتوحة ممثلة بالحكومة وأعضاء البرلمان الذين وعدوا الفقراء بالرفاهية فزادوهم فقرا". فراتب رئيس البرلمان مثلا" أكثر من ستين مليون دينار بالشهر فيما المهجّرون لا يجدون قوت يومهم، ومنهم من ينامون مع أطفالهم في الحدائق العامة في حرّ تموز. وصار عدد الأرامل والأيتام والجياع والثكالى والمهاجرين أكثر بأضعاف مما كانوا عليه في حروب صدام وحصاره. ومع ذلك تجد السياسيين من المعممين والافندية يتباهون بأن الخلاص من الدكتاتورية لا يساويه ثمن حتى لو دمّرت بغداد، وصار الوطن كله يتحنى بدماء أبناءه كل يوم ولأجل غير مسمى. وصار معظم من يفترض فيهم أنهم القدوة والنخبة " بعمامة أو بدونها " منافقين.. اعني يمتدحون الواقع المعاش مع أن كل ما فيه كارثة، فأن النفاق بأصوله ومشتقاته الذي نهى عنه النبي محمد، صار قيمة مشاعة التداول بين الناس، بل أنه صار أمرا" عاديا" كما السرقة والاختلاس!

* وأخيرا، ان من حكم العراق لدورتين(2006-2014) ويفترض فيه ان يكون ممثلا لكل العراقيين، استنجد في (2022) بعشيرته (بني مالك)مع انه يتزعم حزبا باسم (الدعوة الأسلامية)، فيما البدو حين صاروا مسلمين تراجعت عندهم روح الأنتماء الى العشيرة.

صحيح ان للبدو مساويء حتى في عهد النبي محمد، لكن الحقيقة ان اخلاق وقيم مجتمعهم كانت ارقى من اخلاق وقيم المجتمع العراقي التي افسدها وهرأها قادة كتل وأحزاب الأسلام السياسي في الزمن الديمقراطي!

.........................

أ. د. قاسم حسين صالح

في المثقف اليوم