آراء

قراءة سياسية في استقالة وزير المالية العراقي

علاء اللاميسأقدم في هذا النص مقاربة تحليلية للجوانب والخلفيات السياسية لكتاب الاستقالة المفصل - يقع في عشر صفحات - الذي قدمه وزير المالية العراقي د. علي علاوي، لأهمية ما ورد فيه من معلومات وأفكار تمس جوهر ومضمون نظام الحكم القائم اليوم في العراق وآفاقه المحتملة. ولذلك، واختصار للوقت والجهد، فلن أتوقف مفصلاً عند جميع ت التأويلات والاستنباطات الظرفية رغم أهميتها والتي يمكن أن تقال حول دوافع الاستقالة، وسأكتفي بالمرور عليها كنوع من تسجيل الشهادات والوقائع. مع ملاحظة أن ظروف تقديم الوزير لاستقالته لا يمكن فصلها عن الأزمة العامة للمنظومة الحاكمة ولا عن الأزمة الخاصة الأخيرة التي أثارتها قضية عقد شركة "بوابة عشتار للنظم وخدمات الدفع الالكتروني" والتي جاءت استقالة الوزير خلالها؛ تلك الأزمة التي تابعها العراقيون خلال شهر آب الجاري وانتهت النهاية التي نعرفها، حيث تنازلت الشركة المذكورة والتي يملكها هي وثلاثة مصارف أهلية شخصٌ يدعى علي غُلام وأشقاؤه، تنازلت عن مطالبتها بتعويض ضخم عن الشرط الجزائي البالغ ما يعادل 600 مليون دولار، بموجب عقد وقعته مع مصرف الرافدين الحكومي، في عملية مريبة أثارت الكثير من الأسئلة والاعتراضات والانتقادات التي طاولت الوزير المستقيل نفسه، وأثارت شكوكاً إضافية بجميع الأطراف الحكومية والنيابية والقضائية وحتى الحزبية ذات العلاقة بها.

مثلما سأهمل الكثير من المزاعم والادعاءات التي قدمها الوزير عن إنجازات وزارة المالية في عهده وإنجازات الحكومة ورئيسها اللذين أجهد الوزير المستقيل نفسه في إطرائهما فذلك يدخل في باب الدفاع عن النفس والشريك والترويج لهما من طرف المتحدث ذاته، سواء صحت تلك الإنجازات أم لم تصح، وسأركز في قراءتي هذه على الفقرات ذات المضامين السياسية الصريحة والتي ندر مثيل لها في خطاب المسؤولين العراقيين منذ سنة 2005 وحتى الآن من حيث تنظيمها وجرأتها في نقد أسس النظام والعملية السياسية ككل وخصوصا دستورها المكوناتي حيث تجاوز الوزير المستقيل الدعوة التقليدية والمتكررة لتعديله، وربما يكون قد خرق السقف النقدي المسموح به من قبل النظام حين دعا إلى كتابة دستور جديد!

من هو د. علي علاوي؟

يقدم الوزير نفسه في كتاب استقالته كوزير مستقل اقترح اسمه رئيسُ مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي، وعارضت ترشيحه للوزارة -كما يقول هو نفسه - قوى سياسية كبيرة، ولو لم يؤيد ترشيحه التيار الصدري لما قدر له أن يكون وزيرا للمالية في هذه الحكومة. ولكنَّ المدقق في تفاصيل الماضي وسيرة الوزير الذاتية يجد أنه ليس جديدا أو مستقلا أو غريبا عن نظام المحاصصة الطائفية الذي جاء به الاحتلال الأميركي سنة 2003 بل هو من مسؤوليه ومؤسسيه الأوائل؛ وهو أيضا ابن أخت السياسي المعروف والمثير للجدل ومبتكر ما سمي لاحقا "البيت السياسي الشيعي" أحمد الجلبي، وهو من عائلة علاوي التي ينتمي لها السياسي ورئيس الوزراء السابق لفترة ما بعد الاحتلال إياد علاوي فهو ابن عمه، وقد سبق لعلي علاوي نفسه أن كان وزيرا للتجارة ووزيرا للدفاع ووزيرا للمالية في حكومات ما بعد الاحتلال، ومنها انه كان وزيرا للمالية في عهد الحكومة الانتقالية برئاسة إبراهيم الجعفري سنة 2006.

من المعلومات الأخرى التي توضح لنا خلفية علاوي الأسرية، إنه غادر العراق عام 1958 مع عائلته بعد ثورة 14 تموز 1958 التي أطاحت بالنظام الملكي التابع لبريطانيا، وذلك بسبب صلات عائلته بالنظام الملكي، فقد كان والده عبد الأمير علاوي وزيرا للصحة في عدة وزارات في العهد الملكي بينما كان جده - من جهة والدته - عبد الهادي الجلبي رئيسا لمجلس الشيوخ. وقد التحق الشاب علي علاوي، بالمدرسة في بريطانيا وتخرج من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة بدرجة البكالوريوس في الهندسة المدنية في عام 1968، ثم أكمل ماجستير في إدارة الأعمال من كلية هارفارد، ودرس الاقتصاد في كلية لندن.

أخطبوط الفساد:

كثُر الكلام عن الفساد واختلطت الأوراق ببعضها اختلاطاً مذهلاً حتى أصبح بعض الفاسدين هم الأعلى صوتاً في الدعوة الى مكافحة الفساد لفظيا. ولكن الوزير المستقيل يعطينا صورة أكثر دقة وتوثيقاً لمستوى الفساد من خلال تجربته الشخصية وموقعه الحكومي ذي التماس المباشر مع قضايا المال والأعمال. فهو يؤكد في كتاب استقالته "أن قضايا الدفع الإلكتروني بالنسبة لي هي القشة التي قصمت ظهر البعير. لم تكن الحالة نادرة ولكنها عكست بوضوح لجميع الأطراف مدى الخلل بالمنظومة فقد بلورت الدرجة التي تدهورت عندها مكانة الدولة وأصبحت ألعوبة المصالح الخاصة". وحين يقترب الوزير من مسؤولية القضاء عما يحدث يتحفظ في كلامه ويقول "الأمر الآن مع السلطة القضائية وتحقيقاتها بعد إبداء الوزارة ملاحظاتها لذا لا يمكنني التعليق عليه، لكنه يثير مجموعة كاملة من الأسئلة، بشأن طريقة اتخاذ القرارات الصحيحة التي تؤثر على ملايين الأشخاص ومؤسسات الدولة الحيوية دون اعتبار للمصلحة العاملة". بعد ذلك يكشف الوزير عن حقيقة ما يحدث في أروقة الدولة المنخورة بالفساد فيكتب "تعمل شبكات سرية كبيرة من كبار المسؤولين ورجال الأعمال والسياسيين وموظفي الدولة الفاسدين في الظل للسيطرة على قطاعات واسعة في الاقتصاد وتسحب مليارات الدولارات من الخزينة العامة، وهذه الشبكات محمية من قبل الأحزاب السياسية الكبرى والحصانة البرلمانية وتسليح القانون وحتى القوى الأجنبية وإنها تحافظ على صمت المسؤولين الأمناء بسبب الخوف والتهديد بالقوة، ولقد وصل هذا الاخطبوط الهائل من الفساد والخداع إلى كل قطاع من قطاعات اقتصاد الدولة ومؤسساتها ويجب تفكيكه مهما كان الثمن إذا كان مقدرا لهذا البلد ان يبقى على قيد الحياة".

ولكن الوزير، وبعد هذه المقدمات الحماسية والنقدية، يخلص إلى النتيجة المتشائمة التالية "كل شيء تقريباً يتآمر لإحباط التغيير الحقيقي وترسيخ الممارسات الفاسدة التي تدمر الأسس الأخلاقية والمادية للبلد"!

لقد شخَّص فيه الوزير أطراف الفساد والجهات الحامية لها الداخلية والأجنبية، ولكن كلامه يبقى مجرد كلام من وزير مستقيل تحت ضغط ازمة كبيرة طاولته. بمعنى إنه ليس كلاما جديدا لم يقله أحدٌ رسمي من قبل؛ لقد بلغت "الصراحة" ببعض المسؤولين والنواب درجة أن خرج على الشاشات ليعترف أمام الرأي العام بفساده شخصيا واستلامه لرشىً بملايين الدولارات –كحالة النائب مشعان الجبوري" أو بأنه ومن معه فاشلون وينبغي أن يتنحوا عن الحكم كرئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، ولكنهم لم يتنحوا أو يخرجوا من المشهد السياسي وعادوا لممارسة وظائفهم وأدوارهم ذاتها!

ومع ذلك، يبقى السؤال المنصف قائما؛ هل يمكن لوزير مستقل حتى لو كان ملاكا بجناحين أبيضين أن ينجح في معالجة هذا الفساد على الأقل في ميدان عمله، وكيف يمكن تفسير حدوث كل هذا الفساد والشخص الذي يقول هذا الكلام "الكاشف" هو ذاته الذي يدير العملية المالية والاقتصادية التنفيذية في الدولة؟ ألم تتحول هذه الاعترافات إلى قاعدة أو نمط مكرر لا يقدم عليه الوزير أو النائب إلا بعد أن يُقال أو يستقيل تلك ضغط فضيحة أو أزمة كبيرة ويحجز بطاقة الطائرة المغادرة لمطار بغداد؟

قصة "بوابة عشتار":

بدأت هذه القصة حين أسس شخصٌ شبه مجهول في الوسط المالي والتجاري العراقي يدعى علي غُلام شركة "بوابة عشتار" سنة 2020 لاستيراد وإدارة أجهزة البطاقات الإلكترونية وحصل على ترخيص رسمي. ونشيرا عرضا أن البنك المركزي كان قد أصدر قرارا بحجز الأموال المنقولة وغير المنقولة سنة 2013 لطالب الترخيص بحق هذا الشخص ومعه أحد عشر رجلا من رجال الأعمال عقب تورطهم في العديد من الارتكابات الاقتصادية غير المشروعة. وبعد أربعة أشهر فقط على قرار منح الترخيص لشركة "بوابة عشتار" يوقع مصرف الرافدين الحكومي عقدا معها، تزود الشركةُ بموجبه المصرفَ بعشرة آلاف صراف آلي مجاني، وخدمات أخرى وتكون مدة العقد عشرين عاما. وتضمن العقد شرطاً جزائياً واجب الدفع ولا مثيل له في العالم، يدفع بموجبه المصرف الحكومي لشركة "بوابة عشتار" ستمائة مليون دولار إذا تم فسخ العقد من الطرف الاول خلال الخمس سنوات الأولى.  نفتح قوسا هنا لنسجل أن مالك هذه الشركة وأشقائه هو ذاته الذي يملك المصارف الثلاثة: الشرق الاوسط والقابض والانصاري، وذات الدور الكبير في نشاطات "نافذة بيع العملة الأجنبية" التي تتهم بالتسبب بتهريب العملة الأجنبية وغسل الأموال غير المشروعة! وكان مقتدى الصدر قد طالب القضاء والجهات المسؤولة في تغريدة له خلال شهر شباط من العام الجاري، بالنظر في أمر هذه المصارف، دون أن يوضح قصده بـ "إعادة النظر".

وقبل أسابيع قليلة بادر مصرف الرافدين إلى فسخ العقد مع شركة بوابة عشتار، فردت الشركة برفع دعوى في القضاء. وفي 26 تموز الماضي 2022 أصدرت محكمة استئناف الرصافة ببغداد حكما قبل إجراء أي تحقيق أصولي في القضية لمصلحة شركة بوابة عشتار يلزم مصرف الرافدين الحكومي بدفع مبلغ الشرط الجزائي البالغ 600 مليون دولار!

بعد انكشاف الفضيحة أمام الرأي العام، صرح وزير المالية علي علاوي بأنه لم يكن على دراية بأن مدير مصرف الرافدين قد وقع ذلك العقد، أي أن العقد وقع ونفذ دون موافقة الوزارة. وأن الوزارة قررت إيقاف العقد ومعاقبة مدير المصرف الرافدين علي حسين محيسن وسحبت يده من منصبه وأحيل على التحقيق، لأنه وقع العقد دون استكمال الإجراءات القانونية. وقد تبين لاحقاً أن المدير السابق للمصرف الحكومي عُيِّنَ مديراً عاماً لأحد فروع المصرف، ما يشير إلى أن سحب اليد والتحقيق معه قد أوقفا، أو أنه كان مجرد كلام في كلام لذر الرماد في عيون الرأي العام.

وبعد يوم واحد من زيارة قام بها الوزير المستقيل إلى مجلس القضاء الأعلى واجتماعه برئيسه فائق زيدان أصدرت الشركة المذكورة بيانا للرأي العام أعلنت فيه إنها ستقدم للقضاء تعهدا بالتنازل عن مطالبتها "بحقها الثابت في تعويض الشرط الجزائي الوارد في حكم المحكمة" وقدمت التعهد في اليوم ذاته لتوافق عليه، بعد ساعات قليلة محكمةُ استئناف الرصافة/ محكمة البداءة المختصة بالدعاوى التجارية. ليأتي الإعلان عن استقالة وزير المالية د. علي علاوي بعد أيام قليلة.

لماذا تنازلت الشركة عن الغنيمة؟

بقراءة سياق الأحداث، وربطها ببعضها، يمكن أن نعلل خطوة تنازل الشركة عن مطالبتها بتعويض الشرط الجزائي بأنها ربما تكون قد جاءت بضغط من واحد من أربعة أطراف أو منها مجتمعةً لإغلاق الملف قبل أن تستفحل فقاعة الفساد هذه وتكبر، وتتحول إلى كابوس يؤدي إلى فتح ملفات أدهى وأخطر من ملف "بوابة عشتار"، وهذه الأطراف الأربعة هي:

- وزارة المالية المتورطة حتى الذقن في تمرير العقد ومعها وتحت إشرافها إدارة مصرف الرافدين ومديرها السابق.

- القضاء الذي أصدر حكما لمصلحة شركة "بوابة عشتار" بسرعة البرق وقبل إجراء تحقيق أصولي بالموضوع.

- أحزاب ومليشيات وعوائل سياسية مهيمنة على نظام الحكم وتتقاسم الشركات المماثلة لبوابة عشتار والمصارف الأهلية وشركات الهاتف الخاصة.

- السفارتان الأميركية والإيرانية الحاميتان للنظام التوافقي القائم على المحاصصة الطائفية والعرقية لئلا ينهار النظام ككل تحت ثقل آثامه وسرقاته وجرائمه الأخرى.

أما المبرر الذي قدمه آل غلام لقرارهم بالتراجع عن الدعوى القضائية التي أقاموها والذي قالوا فيه إن هدف الشركة "لم ولن يكون المبلغ المذكور، ولم يتم استلام دينارا واحدا من هذه القضية ولا حاجة لنا فيه ... فالسبب الرئيسي من الشرط الجزائي هو التخوف من خسارة الاستثمارات وتخوفا من الترهيب على ادارة المصرف من شركات تنوي احتكار السوق لوقف استمرارية العقد"، فهو مبرر لا معنى له ولا ينطوي على أي قيمة قضائية أو صدقية إعلامية. فإذا كانت الشركة تريد فعلا الحماية فقط كما زعم صاحبها، وبما أن أي ترهيب أو إضرار بها لم يحدث طيلة فترة العقد، فلماذا رفعت الشركةُ الدعوى القضائية للحصول على المبلغ أصلا؟! وهل هناك شركة في العالم تقول "لسنا بحاجة إلى مبلغ 600 مليون دولار" إلا إذا كانت قد حصلت على أضعاف هذا المبلغ بطرق "شتى"؟

تناقضات الوزارة:

يلخص أحد الكتاب المهتمين بالشأن المالي والاقتصادي الموقف في مقالة له نشرت على مواقع التواصل بالقول "إن المعلومات الموثقة جزئيا تبين أن العقد تم إبرامه بتاريخ 4/3/2021، وأن وزارة المالية قد اعترضت على العقد واتخذت قرارا "بسحب" يد المدير العام للمصرف واحالته الى لجنة تحقيق في 9/3/2021، أي بعد خمسة أيام من توقيع العقد، وهو إجراء إداري صحيح لا شائبة عليه ولا تلكؤ فيه. ولكن وزير المالية عاد بعد ستة أشهر وتحديدا بتاريخ 3/9/ 2021 ليطلب بإعادة تدقيق العقد لمصلحة الوزارة أو إلغائه. وهنا تثار الريبة إذ من الواضح أن إجراء الوزير السريع جدا في سحب يد مدير المصرف وإحالته للتحقيق يعني قناعته الكاملة بفساد العقد، ولكن عودته بعد ستة أشهر لإيجاد تخريج لتمشية العقد "بحجة مصلحة الوزارة"، وكل هذا قد يعني أن هناك قوة ضغطت عليه ولم يستطيع مقاومتها، ويثار أن محافظ البنك المركزي الذي منح إجازة شركة عشتار ومدير الشركة هم من الوجوه الاقتصادية للتيار الصدري، الذي التزم الصمت ولم يصدر عه أي موقف خلال هذه الأزمة حتى الآن.

ثم إنَّ العقد ينص على التعويض بموجب الشرط الجزائي إذا تم فسخه من قبل الطرف الأول أي المصرف خلال الخمس سنوات الأولى، ولكن "شركة عشتار" هي مَن أقامت الدعوى لفسخ العقد وليس الطرف الأول، وحكمت المحكمة في 26/7/ 2022 بفسخه والتعويض بموجب نص البند السادس عشر من العقد [بعد أقل من سنة ونصف من تاريخ العقد أي ضمن مدة الخمس سنوات]، ولم يرد في الجزء المنشور من قرار الحكم نص هذا البند.

ويختم الكاتب كلامه بالقول "إن هذه الوقائع معززة بمقدمة الدعوة التي وجهها المصرف إلى الشركات لتقديم عروضها، والتي تشير الى خبرة مطلوبة من الشركة المتعاقدة وخطط وتدريب ومساعدة في بناء قدرات المصرف.. إلخ، أكدت أن المصرف الحكومي في النهاية تعاقد مع شركة عمرها أربعة أشهر وخبرتها صفر وأصحابها من المدانين في جرائم اقتصادية ووافق على شرط جزائي، يعاقب به نفسه بمئات ملايين الدولارات مقابل لا شيء، كل ذلك لا يترك مجالا للشك في نتانة هذه الصفقة".

ولكن ماذا قال الوزير في كتاب استقالته عن هذا الموضوع تحديدا؟ من الطريف والملفت أن ذكر قضية شركة "بوابة عشتار" ورد ضمن تعداد الوزير لإنجازات وزارته حين قال "وكانت الوزارة وبأوامر مباشرة مني شخصياً هي التي منعت عقد مدفوعات شركة "بوابة عشتار" مع مصرف الرافدين الذي كان سيؤدي الى فرض عبء تكاليف غير مبرر يصل إلى مئات الملايين من الدولارات ولسنين طويلة على المودعين في البنك/ ص5 من كتاب الاستقالة"، فهل يستقيم هذا الكلام مع الحقائق والوقائع التي وثقناها قبل قليل، ومنها عدم دقة  معاقبة مدير مصرف الرافدين بسحب اليد وإحالته إلى التحقيق فيما الحقيقة تقول إنه نقل من منصبه الى منصب آخر لا يقل عنه أهمية وظيفية؟

دستور جديد للدولة "الزومبي":

لم يسبق لأحد من أقطاب ومؤسسي نظام الحكم العراقي القائم والشخصيات المؤثرة فيه أن طالب صراحة بسنِّ دستور جديد، وبما يعني التخلي عن دستور المكونات النافذ. وكان هذا الدستور قد كتب بسرعة وفي ظروف شابها الكثير من الغموض والريبة والاتهامات، ثم تم إمراره في استفتاء على طريقة "سلق البيض في ليلة ظلماء" وتحت إشراف وحماية وتشجيع سلطات الاحتلال الأميركية وقواتها وبمباركة وتشجيع علني من قبل المرجعية الدينية السيستانية التي دعت الجمهور إلى التصويت على الدستور بنعم.

يمكن ان نستثني من هذا الحكم حول المطالبة بتعديل الدستور تغريدة السيد مقتدى الصدر التي ذكر فيها مطلب تعديل الدستور ضمن مطالب حركة تياره الاحتجاجية قبل أسابيع، ثم عاد وأهملها في تغريدات مطالبه اللاحقة، ربما لكي لا يخسر حليفة الكردي "البارزاني" الرافض لأي مساس بالدستور المكوناتي الاحتلالي.

فالواقع يقول إن مطلب تعديل أو إعادة كتابة الدستور أو كتابة دستور جديد كما ورد في كتاب استقالة وزير المالية هي خطوة صحيحة في أي إصلاح منشود ولعلها الخطوة الأولى والأهم ولكن قيادات سياسية مهمة في مقدمتها القيادة الكردية في الإقليم ترفضها رفضاً قاطعاً بحجج شتى مع أن نص الدستور نفسه يبيح التعديل ولكن بشروط تعجيزية. وكان مسؤولون كرد قد لوحوا بخطر اندلاع حرب أهلية إذا تم ذلك، لأن أي تعديل منشود سيفقدها وغيرها الامتيازات التي حصلت عليها بموجب هذا الدستور حتى كادت تتحول إلى دولة داخل الدولة العراقية.

كتب الوزير المستقيل بهذا الصدد "كل دعوات الإصلاح قد جرى إعاقتها بسبب الإطار السياسي لهذا البلد. ولقد تم تحريف النظام البرلماني من أجل خدمة مجموعات المصالح الخاصة وتقويض الدولة ومؤسساتها. ولقد سُمح بالاستيلاء على الدولة من قبل مجموعات المصالح الضيقة. ولا شك إن إصلاح هذا النظام بتغييرات دستورية أو حتى بدستور جديد أمر ضروري. فعلى عكس البشر لا تموت الدول بشكل نهائي ويمكن أن تبقى دول "الزومبي" لسنوات بل حتى لعقود قبل أن يتم دفنها". يمكن أن يفهم هذا الكلام كجزء من مبررات استقالة وزير، ولكنه أيضا يمكن أن يفهم كنعي نهائي لنظام الحكم الميت سريريا من قبل أحد مؤسسيه والذين رافقوا مسيرته منذ انطلاقته وحتى المرحلة "الزومبية" التي دخلها!

ويبقى السؤال الكاشف والأهم هو: لماذا يحتفظ المسؤولون العراقيون بآرائهم الإصلاحية وتحليلاتهم النقدية للنظام ودستوره والقوى المهيمنة عليه طالما كانوا في مناصبهم الحكومية أو مقاعدهم النيابية ولا يصرحون بها ويعلنونها الى الرأي العام إلا بعد استقالتهم أو إقالتهم أو فشلهم في الفوز مجددا بمنصب حكومي أو نيابي؟

إنه سؤال لا يبحث عن إجابة محددة بل يريد تأكيد طابع "التخادم" والانسجام البنيوي والوظيفي والولاء السياسي والطائفي بين المنظومة الحاكمة ومكوناتها الفردية والحزبية، وإن هذا النظام لا يمكن إصلاحه أو تغييره تغييراً حقيقياً من قبل أحد أطرافه المشاركة فيه والمنتفعة من بقائه.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

في المثقف اليوم