آراء

ملوك الطوائف وأنموذج الدولة الفاشلة

محمود محمد علييستخدم مصطلح الدولة الفاشلة من قبل مختلف وسائل الإعلام في العالم، بوتيرة أسرع من السابق، إذ استحضر بقوّة خلال فترة ما سمّي بالربيع العربي ولا يزال، وتمّ إطلاق هذه التسمية من قبل دول وهيئات ومؤسّسات حكومية وغير حكومية، على دول عربية وغير عربية، بهدف التأثير في أوضاع هذه الدول من دون استعمال القوّة العسكرية، وذلك في إطار ما سمّي بالجيل الرابع من الحروب غير المتماثلة.

وقد بدأ الاهتمام بمفهوم الدولة الفاشلة من قبل أكاديميّي السياسة وصانعيها منذ بداية الثمانينيّات، إلّا أنّ الترويج السياسي له ظهر في أوائل التسعينيّات في خطاب مندوبة الولايات المتحدة الأميركية في الأمم المتحدة، في سياق حشد الجهود الدولية لمساعدة الصومال وإنقاذها. وتلى ذلك ترويج للمفهوم من خلال استخدام المصطلح على يد كلّ من جيرالد هيلز وستيفن راتنر، من خلال دراسة نُشرت لهما في العام 1993 في مجلة السياسة الخارجية Foreign Policy، الصادرة في الولايات المتحدة الأميركية، ثمّ الدراسة التي أعدّها ويليام زارتمان عن الدولة المنهارة في العام 1995. ولكن لم تحظ مخاطر الدول الفاشلة على السلم والأمن الدوليين بالاهتمام الكافي من قبل دول العالم، إلّا في بداية القرن الحالي. وبهذا، كانت أميركا من أوائل الدول الغربية التي اهتمّت بهذا المصطلح أكاديميًا، ثم سياسيًا وأمنيًا وتنمويًا، ما كان له الأثر البالغ في بلورة المصطلح إلى الشكل الذي وصل إليه الآن. وكان هناك مسمّيات ومصطلحات مشابهة للدولة الفاشلة، وهي: شبيهة الدولة، الدولة المنهارة، الدولة الهشّة، الدولة الرخوة، الدولة المائلة إلى الفشل، الدولة المعرّضة للخطر، الدولة المأزومة والدولة الضعيفة، ما أدى الى التداخل بين هذه المفاهيم التي تصف الظاهرة نفسها.

وكان يُنظر إلى الدول الفاشلة خلال حقبة الحرب الباردة، على أنّها جزء من الصراع بين القوّتين العظميين آنذاك، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. وفي تسعينيّات القرن الماضي، بدأت الدول المسمّاة فاشلة تحظى باهتمام أكبر من قبل الدول الكبرى، لأسباب إنسانية ناتجة من تفاقم انتهاكات حقوق الإنسان. وكانت منظّمات حقوق الإنسان في الدول الكبرى هي المحرك الأساس في هذا الاتجاه، بحيث مارست هذه المنظّمات في حينه ضغوطًا شديدةً على حكوماتها، ما أدّى إلى تدخل الدول الكبرى عسكريًا في بعض الدول، كالصومال وهاييتي والبوسنة والهرسك. ولكن ثمة فارق كبير بين فشل الدولة وانهيارها الناتجين من اندلاع الصراعات الداخلية والإقليمية، وهو ما يمكن اعتباره الحالة الكلاسيكية للفشل، وبين الدول التي فشلت وظيفيًا نتيجة إخفاقات متتابعة في أداء مؤسّساتها وسياسة حكوماتها في ظل تنامي متطلّبات شعبها بما يفوق مواردها وقدراتها القائمة، الأمر الذي يحتّم في مرحلة معينة انهيار هذا النظام واستبداله بآخر أكثر فعالية ووظيفيّة.

أمّا الاهتمام العالمي بمخاطر الدول الفاشلة، فقد بدأ يزداد بعد أحداث 11 أيلول من العام 2001، حيث اعتبرت هذه الدول منطلقًا لتصدير المخاطر(الإرهاب الدولي، تجارة المخدرات، الأسلحة غير الشرعية، اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين، ...إلخ) إلى دول العالم الأخرى، بما فيها الدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية، فأُعطي مفهوم الدولة الفاشلة مجالًا أوسع ليضمّ دولًا كالعراق، وذلك تحت شعار "الحرب على الإرهاب". ويتّضح من السياق الزمني لظهور المفهوم، ارتباطه بالتغيّر الحاصل في هيكليّة النظام الدولي، ما يثير في الذهن حملات تقسيم العالم لمصلحة القوى الكبرى إبّان الأحداث العالمية التي تعيد تشكيل موازين القوى، ما يستلزم التعامل مع المفهوم بحيطة وحذر، نظرًا للتسييس الشديد له من قبل جهات مختلفة

وبرغم حداثة مفهوم الدولة الفاشلة، إلا أن معناها قد كان حاضر في تاريخنا العربي – الإسلامي، وبالأخص في عصر ملوك الطوائف، فبعد سقوط الدولة العامرية سنة 399 هـ دخلت الأندلس في صراعات قوية على العصر بين أفراد البيت الأموي، لدرجة أنهم استنجدوا بالنصارى ضد بعضهم، فجلس على عصر الأندلس فترة وجيزة جدا استمرت 23 عام عدد كبير من الأمراء الأمويين الضعاف وغيرهم من البربر الطامعين في الحكم، وتحولت الأندلس فيها من القوة والازدهار أيام حكم الأمويين العظام إلى الضعف والانهيار والفرقة، وأصبحت الحروب والفتن في كل مكان .

فغضب وحزن أهل قرطبة مما حدث وثاروا على آخر الخلفاء الأمويين وخلعوهم، وذلك لكي تسقط الخلافة الأموية في الأندلس وينتهي الحكم الأموي فيها إلى الأبد بعد أن استمر حوالي ثلاثة قرون، وانفرط العقد تماما في الأندلس، وتحولت إلى أشلاء، فكل عائلة أو عصبة مثلا تستحوذ على مدينة، انفصلوا بها وحولوها إلى ممكلة مستقلة ذاتها، وذلك لكي تنقسم الأندلس إلى 22 دويلة، وتدخل الأندلس في أظلم عصر في تاريخها، وهو عصر " ملوك الطوائف".

بداـ حقبة ملوك الطوائف في العام 422 ه عندما أعلن أبو الحزم ابن جهور سقوط دولة الأمويين في الأندلس، مما دفع كل أمير من الأمراء إلى الاستقلال وبناء دولته المستقلة في الأندلس، وعندها تفرقت الأندلس إلى طوائف متناحرة فيما بينها، أدخلت الأطماع الخارجية إلى الأندلس، بعد سقوط الخلافة الأموية في الأندلس في بدايات القرن الحادي عشر، بدأ كل وال من الولاة بالاستقلال بالولاية التي تحت يديه، وهكذا نشأت 22 دويلة في الأندلس، عُرفت تاريخيا باسم فترة حكم ملوك الطوائف، إذ لم يعد هناك حاكم واحد للأندلس.

وملول الطوائف هي من أهم الفترات التي مرت في تاريخ الأندلس، وقد اكتسبت هذه الحقبة كل هذه الشهرة بسبب كثرة الدروس والعبر التي يمكن الاستفادة منها، لأي دولة أو في أي زمان من الأزمان، إضافة إلى ذلك فإن هذه الفترة، هي الفترة الفاصلة بين تاريخ الأندلس المجيد، الذي سطع في كافة أرجاء الدنيا، وبين حقبة التي أسفرت عن سقوط الأندلس في نهاية المطاف في العام 1492 م، فهذه الفترة هي بداية النهاية كما يقولون .

لقد شهدت تلك الفترة تحالفا بين الفونسوا وملوك الطوائف ، وذلك بعد أن ضعفت سطوة المسلمين في الأندلس بعد عبد الرحمن الناصر والمنصور ابن أبي عامر، إذ ضعفت الدولة الأموية التي سيطرت على البلاد قوية مهيبة، ما بين سنة 138 وسنة 400 هجرية، ثم زلزل حتى زالت سنة 422 هـ، وتقسم ملوك الطوائف البلاد بينهم متنافسين متنازعين، كل يهتم بنفسه وملكه، ويلقى عدوه وحده إذا نزلوا بساحته، حتى طمع فيهم العدو، وفرض عليهم الجزية، فأدوها هائبين مؤثرين العافية، راضين بالسلامة.

كان الوضع العام في فترة الطوائف، وضعا مترديا جدا من جميع النواحي، فلم يكونوا متحدين، وكانوا متناحرين مختلفين، ووصل بهم الأمر إلى الاستعانة بالأجنبي ضد الآخرين، كما أنهم كانوا يدفعون الجزية لغيرهم من الدول في الشمال، مثل " ألفونسوا السادس"، كلهم إلا المتوكل بن الأفطس حاكم بطليوس، فأرسل له " ألفونسوا السادس" رسالة يطالبه فيها بدفع الجزية، فأرسل له المتوكل رسالة قاسية ألجمت فم " ألفونسوا السادس"، لدرجة أنه لم يستطع أن يرد عليه، ولا أن يرسل له جيشا ليحاربه، وهكذا بدأ ما يعرف بـ " حروب الاسترداد" التي شنها ملوك إسبانيا المسيحيون على الدويلات المسلمة، واستطاع " ألفونسوا السادس" ملك قشتالة أن يفرض سيطرته ويجعل بعض ملوك المسلمين يدقعون الجزية السنوية، بل إنه استطاع السيطرة على طليلطة عام 1085، وهي إحدى أهم الممالك الأندلسية، وهكذا دفعت سيطرته علي طليطلة بقية مسلمي الأندلس إلى التحرك لمجابهة هذا الخطر الداهم.

فقد أرسل " ألفونسوا السادس"  رسائله إلى بقية ملوك الطوائف، يهددهم ويطالبهم بالاستسلام، وإلا سيواجهون مصير طليطلة، وهكذا أرسل امراء وأعيان وملوك الطوائف رسائلهم، يستنجدون بها أمير المسلمبن " يوسف بن تاشفين"، أمير دولة المرابطين، الدولة الفتية التي تأسست عام 1056، وينتمي " يوسف بن تاشفين" إلى قبيلة " لمتونة"، وقد اعتنقت قبيلته الإسلام، وأسست دعوة مهمة باسم " دولة الرباط والإصلاح"، لنشر الإسلام على المذهب المالكي السني في إفريقيا، وهكذا تمخضت وكبرت الدعوة لتصبح إمارة.

ترك " أبو بكر بن عمر اللمتوني " الإمارة، مفضلا الدعوة إلى الإسلام في إفريقيا على إمارة المرابطين، فتركها لابن عمه يوسف بن تاشفين، وما أن أصبح يوسف أميرا حتى بدأ يتحرك في غرب أفريقيا بسرعة كبيرة، بل استطاع توحيد المغرب، وتأسيس عاصمته فيها، والتي سماها " مراكش"، وبسياسة الحزم حينا والدبلوماسية حينا آخر، أصبحت دولته هي الدولة الأقوى في الغرب الإفريقي، وعندما وصلت له رسائل مسلمي الأندلس لبي الدعوة، فبينما كان " ألفونسوا السادس"  ملك قشتالة يحاصر مملكة سرقسطة، وصلت إليه أنباء وصول الجيش المرابطي إلى جنوب الأندلس في أوائل أغسطس عام 1086، فترك حصار سرقسطة، وسار بجيوشه للقاء المرابطين .

كانت دولة بني عياد وعاصمتها أشبيلية أقوي ممالك الأندلس في ذلك الوقت، إذ ضمت إلى جانب أشبيلية مناطق قرمونة وولبة والجزيرة الخضراء، إضافة إلى قرطبة – عاصمة الخلافة الأموية السابقة، ورغم قوتها على سائر ملوك الطوائف، فإنها كانت أضعف من أن تواجه " ألفونسوا السادس" ، ولهذا فقد كان ملكها " المعتمد بن عباد"، أهم حليف ليوسف بن تاشفين، وهكذا فقد استقبله استقبالا كبيرا هو وجنده.

اجتمعت جيوش المسلمين، من الجيش المرابطي الجزار الذي ركب البحر ليصل إلى الأندلس، وهو أساس الجيش، وجيش الأندلسيين بقيادة " المعتمد بن عباد"، وبعض الإمارات الأخرى التي انضمت تحت إمرته، وتقدر بعض الروايات أن جيش " ألفونسوا السادس"، كان 80 ألف مقاتل، والبعض بقدره بـ 50 أو 40 ألفا، واختلفت الروايات أيضا في تحديد عدد جيش المسلمين، فالبعض يقول إنه كان 48 ألفا، والبعض الآخر يقدره بـ 20  ألفا فقط .

وهكذا تجهزت الجيوش للقاء الحاسم، وقد حاول " ألفونسوا السادس"  خداع المسلمين، فأرسل المعتمد بن عباد يقول له إن غدا الجمعة وهو يومكم، وبعده السبت وهو يوم اليهود، وعندي كثير من اليهود في قومي، والأحد هو يوم المسيحيين، فلقاؤنا يوم الأثنين، وقد فطن ابن عباد وابن تاشفين إلى الخدعة، فلم ينخدعوا، وأخذوا يتجهزون لهجوم " ألفونسوا السادس"، وما أن جاء صباح يوم الجمعة الموافق 23 أكتوبر 1086، حتى كانت طلائع جيش " ألفونسوا السادس"  تقود هجوما على مقدمة جيش المسلمين.

كانت تقسيمة جيش المسلمين تتألف من مقدمة الجيش، وتتكون من جيش الأندلسيين في مقدمته ابن عباد، وفي الميمنة المتوكل بن الأفطس ملك بطليوس، واهل شرقي الأندلس في ميسرة الجيش ؛ أما الجيش المرابطي فقد كان يشكل مؤخرة الجيش، ومنقسم إلى قسمين : أحدهما بقيادة ابن تاشفين نفسه، والآخر بقيادة قائده المحنك دواد بن عائشة .

هاجم " ألفونسوا السادس"  مقدمة الجيش المسلم هجوما مدمرا، فصمد له جيش الأندلس صمودا قويا، واستمرت المعركة حتى انهزم الأندلسيون، لكن صمد قائدهم ابن عباد، حتى جرح جراحا قوية، وعندما وجد ابن تاشفين الوضع بهذا السوء، أمر داود بن عائشة بنجدة الأندلسيين، وهاجم جيش " ألفونسوا السادس"  لكنه صمد لهم، وهنا دفع ابن تاشفين بقوات جيشه من البربر، فهاجوا بقيادة سير ابن أبي بكر اللمتوني، فشتتوا شمل جيش " ألفونسوا السادس"، وفي خضم المعركة، هاجم ابن تاشفين بنفسه، لكنه هاجم معسكر الجيش نفسه، وحرق خيام الجند، ثم التف وهاجم جيش " ألفونسوا السادس" الذي كان في معركته مع بقية الجيش،وفي اللحظة المناسبة أمر ابن تاشفين حرسه الخاص المكون من 4 آلاف جندي مدربين تدريبا جيدا، فحسموا المعركة تماما، بل هرب " ألفونسوا السادس"  من المعركة بصعوبة، ولديه إصابة في فخذه، تسببت في عرجه طوال حياته .

كانت معركة " الزلاقيات" هذه نصرا حاسما للمسلمين، وربما استطاعوا الزحف نحو عاصمة " ألفونسوا " نفسه بعد تشتيت جيشه والقضاء عليه، لكن تقديرات ابن تاشفين منعته من ذلك، وقد وصل إليه خبر وفاة ابنه وولي عهده في المغرب، فارتاح عدة أيام إلى عاصمته مراكش، ويقال إنه لم ينج من الجيش الإسباني سوي 500 فارس فقط، ولكن تبدو أن هذه التقديرات خاطئة، ولكن ربما تجاوز عدد القتلي 20 ألف إسباني، وتذكر المصادر الإسلامية، أن خسائر المسلمين وصلت إلى 3 آلاف قتيل، مثلت معركة الزلاقة حدثا كبيرا في التاريخ الإسلامي والإسباني على السواء، فيمكننا أن نقول إنه بسببها استمر وجود المسلمين في الأندلس قرابة أربعة قرون أخرى، وقد كان من كبار قادتها وأبطالها الملك الأندلسي ابن عباد أمير أشبيلية، لكن البطل الحقيقي كان شخصا آخر لينفذ الأندلس هو يوسف بن تاشفين .

وبعد أنْ انتصر يوسف بن تاشفين في معركة الزلّاقة بدأ فعليًا بالتخطيط للسيطرة على بلاد الأندلس، ويوسف بن تاشفين مؤسس مدينة مراكش كان له دور كبير في إنقاذ المُدن الأندلسية من تهديد النصارى لها وهذا ما تمّ فعلًا عندما خاض معركة فاصلة في التاريخ الإسلامي وهي معركة الزلّاقة وانتصرَ فيها عام 479هـ، هذا ما مهّد ليوسف بن تاشفين فكرة السيطرة على بلاد الأندلس وتوحيدها مع المغرب وكان ذلك عام 484 هـ تقريبًا، ولم ينتهي خطر الممالك المسيحية حتى بعد سيطرة المُرابطين على الأندلس فقد استمرّ الخطر إلى أن ضعفت دولة المرابطين وانتهت بقيام دولة الموحدين.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..................

المراجع:

1- قصة الفونسو وملوك الطوائف ! ما الذي فعله يوسف بن تاشفين في الأخير ؟!  ، يوتيوب.

2- عصرملوك الطوائف بالاندلس الجزء الاول _القصة الحقيقية لقرطبة وأشبيلية وبطليوس، يوتيوب.

3- وائل محمود: الدولة الفاشلة بين المفهوم والمعيار، الوطن اللبناني، العدد 99 - كانون الثاني 2017.

في المثقف اليوم