آراء

ســؤالُ النَّــزَاهــَـة

في التساؤل عن الشـيء سؤالٌ عن مبـرِّرات التساؤل نفسه، فالـذي يُقْصد بالبحث والتحليل، مفـهومٌ أو مصطلحٌ يتضمَّن حمـولةً معنـويةً، تجـعلُه مُتغيِّـرًا في كلِّ سياقٍ يستوطنـه، ويقـيم فيه. والنزاهـة غير حصينةٍ عن هذه الإشكالية، فهي كمصطلحٍ استخدمه الثوارُ، والمحلِّـلون، والمـفكرون، والمشاهيرُ، بمعانٍ مختـلفةٍ عن بعضها البعض، بشكلٍ مُلفتٍ. وسيكون في الجواب حـديثٌ عن مبرِّرات تغيُّر معانيـه، وحديثٌ متَّصلٌ عن فعل التاريخ، وفعل الاستعمال، وشروط إنـتاج الـمعرفة، وبيئـتها، وإعادة تشكيلها في كلِّ سياقٍ أو استعمالٍ، وهو حديثٌ لا نريـد الخوض فيه هنا، فالذي تعنيه هذه الـمـقالةُ هو تميـيز بعض معانـي النَّزاهة، والقول في ارتباطها بالدولة القوية المستقلة.

السطور، أعلاه، تُظْـهـر بشكلٍ حدسـيٍّ أنَّ للنَّزاهة معانٍ متعـدِّدةٍ، بحسب سياقها الزمـني، والاستعمالي، وهو حـدسٌ صحيحٌ لا يحتاج إلى كثيـر تأمُّلٍ.

ففي الأخـلاق، والأخـلاقيات تعني النَّـزاهةُ أن يكون الشخـص صادقًا مع نفسه، بقدر صدقه مع غيـره، وأن يكون مـخـلصًا لا يَدَّخـر جهدًا، مع نفـسه، بقدر أن يكون كذلك مع غيره. وهي بهذا المعنى الأخـلاقي لا تتضمَّن معنى الأمـانة، كما فهمـه بعض الكُتَّـاب، لأنَّ الصِّدق والإخـلاص ليس شيئًا مُدَّخرًا في ذات الإنسان، ويكون نزيهًا حين يـكون أمينًا عليه، أو أمينًا في استعمـاله، وممارسته! فهُمـا: الصِّدق والإخـلاص، قيمتان تبدوان في الفعل وتظـهران فيه، كلامًا، أو ممارسةً، أو ما يرتبط بهما.

وفي الإدارة والإداريات، تعني أن يكون الموظَّـف، في أدنى درجـةٍ أو أعلاها، في أبسط وظيفةٍ أو أعقدها، مخلصًا وصادقًا أيضًا، في عمـله لوحده، أو ضمن فريقٍ، تحت الرقابة أو بدونها، لأنَّ النَّزاهة هنا ستتضمن معنى الأمانـة، الذي يتَّصل اتصالًا وثيقًا بالمسؤولية، فالصدق والإخلاص هنا قيمتـان ماديـتان تبدوان في المنصب والوظيفـة وما يتَّصـل بها من تجهيزاتٍ وأموالٍ عامـةٍ وخاصَّةٍ ومِلْكياتٍ كذلك، وما يشبهها مما يكون موضوعًا لوظيفته ومنصبه، وسيكون الموظَّـف النَّزيه هو الموظَّف الأمين في عمله، المستعدُّ لتَحَمُّل المسؤولية في أيِّ لحظةٍ وتحت أيِّ ظرفٍ.

هذا من جهـةٍ، ومن جهـةٍ أخرى يتَّصل بمضمون النَّزاهـة: المناسبةُ والكفـاءةُ، فالنَّزيه هنا هو المناسب لوظيفـته، والذي تُكافئ دراستُـه وخبرتُـه وظيفتَـه ومنصبَـه؛ فلن يكون نزيهًا من لم يكن في مكانه المنـاسب، ولن يكون نزيهًا، على هذا الأساس، من تقبـَّل وظيفةً ليس كُفْـئًا ولا مُناسبًا لها، لأنـَّه لن يكون، حينـئـذٍ، أمينًا عليها. وكنتيجـةٍ منطقيـةٍ لذلك لن يتمكَّن من الإخلاص ولا الصِّدق في منصبه ووظيفـتـه، سيكون أيَّ شيءٍ باستثناء أن يكون نزيهًـا.

والسبب في ذلك أنَّ الأمانـة تستبطن معرفةَ الشـيء الذي يريد أن يكون أميـنًا عليه، طريقةَ عملـه، وحاجاتـه، وخصوصياته، القراراتِ الـمُـتَّـخذة بشأنه أو بواسطتـه، لتصحَّ بعـد ذلك المحافظـةُ عليه، أو على إدارته أو استعمـاله، أو توظيفـه، وما يعني الإنتـاج من خلاله وما إلى ذلك.

ولا يعني "الزَّعمُ" شيئًا في مثل هـذه المواضع. يزعم أو يـدَّعي أنَّـه صادقٌ ونـزيهٌ، وهو يقصد، وهو لا يشعـر، أنَّه صادقٌ ونـزيهٌ أخلاقيًا، وقد يكون صادقًا في زعمه هذا بهذا المعنى، ففما مرَّ أعلاه، تبيّن أنَّه لا يوجـد ارتباطٌ بين النَّـزاهة الأخلاقية والنزاهة الإدارية. فالنَّزيـه أخلاقيًا يمكن ألّا يكون نزيهًا إداريًّا، من جهة عدم توفُّره على الـخـبرة والدِّراسة في مجال تخصُّصه ووظيفـته، وأمثلة ذلك مشهورةٌ.

والحديثُ نفسه ينطبق على النَّـزاهة السياسية، فهـي وظيفـةٌ أيضًا، والسِّياسي النَّزيه، بموجبها، هو الموظَّف المناسب والكفوء في منصبه ووظيـفـته، بملاحـظة خبْرتـه ودراسته في مجال تخصُّصه.

ولا بـدَّ أن يرتبط مفهومُ النَّـزاهة السياسيـة والإداريـة بالدَّولـة القوية المستقلة، ارتباطًا عضويـًّا، فبـدون النَّـزاهة لن تكون هناك دولـةٌ قوية مستقلة في أيِّ بقعةٍ من بقـاع الأرض.

***

علاء شدهان القرشي

 

في المثقف اليوم