آراء

المشهدُ السياسيُّ في العراق من أزمةٍ إلى أزمات

نجحت إدارات الغزو والاحتلال للعراق في تنفيذ مشروعها في تفتيت الشعب العراقي وأقلمه الوطن، بالعمل على تقسيم المقسّم وتجزيء المجزّأ، في ظروفٍ مركّبةٍ وحالاتٍ معقّدة، اختلطت فيها الأوراق وتباينت فيها المواقف وغابت الرؤى السليمة وآفاق العمل الوطني لبناء دولة قانون، وإصلاح ما حل بالوطن والشعب من نكبات لا توصف طيلة العقود الأخيرة من القرن الماضي، وامتدادًا لما مرَّ به من بعده. واستمرّت هذه الأحوال، بل وتدهورت نحو الأسوأ، مما كانت عليه تحت شعارات وبرامج لا تخدم المصالح الوطنية ولا تعد بأفضل مما كان، وأدّت تلك الإدارات وأجهزتها والمتخادمون معها، في الداخل ومن الخارج، أدوارًا خطيرة فيها، سرًّا وعلنًا.

مقارنة التحولات والتطورات منذ الغزو والاحتلال عام 2003 وحتى اليوم، تقدم نتائج سلبية، ومخيبة لآمال الشعب وانتظاره الطويل، بل تكاد انتهت إلى منزلق خطير، قد يصل إلى ما لا يحمد عقباه وتضيع دماء الشهداء والوعود المعسولة بالتغيير وصولا إلى مجهول. لا آفاق مثمرة فيه ولا مصالح حقيقية ترتجى منه، وكل ما يمكن الإشارة إليه في ما يقارب العقدين من الزمن لا يعطي ما يؤمل أو يرتجى، فالواقع يسير من سلب إلى آخر: لا خدمات أساسية ولا قانونا يحترم ولا إعادة بناء بمنجزات تسجل، بل تكرست آفات جديدة، تلخصت بالمحاصصة الدينية والطائفية والعرقية، وشيوع الفساد والمحسوبية والزبائنية، والتهديد بعواقب ما يجري اليوم في المشهد السياسي. وإذا كانت مخططات المشروع الصهيو أمريكي/ غربي، قد تمكنت من تكريس تقسيم الشعب العراقي إلى مكونات "شيعة وسنة وأكراد"، وإلغاء أو تهميش هويته القومية والدينية، ووضعها ضمن أهدافها الأولى، مرحليا، وزرعها في الواقع السياسي، قانونا وعرفا، وتوثيق إدارته على أساسها، انتقلت إلى أهداف أخرى تتوازى مع ما سبق، كمرحلة ثانية، ولكن بشكل يزيد من المحنة ويعمق من الفتنة، حيث فعلت ما يؤمن لأهدافها وقائع أخرى، فتم تجزيء المكونات وتقسيمها إلى أطراف متصارعة، متنافسة، وصولا إلى متحاربة بينيا، داخليا، ومن ثم التوجه خارجيا، حسب المخططات، مع المكونات الأخرى، على امتداد مساحة الوطن وصناعة امكانات انطلاق شرارات منها خارج الحدود، إلى المنطقة لتأمين الأهداف الفعلية المرسومة منها والمتغافل عنها مصلحيا وذاتيا وغياب وعي حقيقي، كمرحلة ثالثة. ولعل تجميد اندلاعها بالسرعة الموجهة إليها يكشف عن وجود ضغوط تشترك في تخوفها من تداعياتها عليها وتأثيراتها على ما هو أبعد منها، إقليميا ودوليا، وعلى صعد مختلفة (مصادر الطاقة أبرزها) تعيش حاليا أوضاعا مؤثرة، فأصبح داخل كل مكون نزاع بين طرفين أو أكثر من طرف، يزعم تمثيل المكون، ويدفع إلى تأطير نفسه مقابل "ضده"، شريكه أو شقيقه، الداخلي متنافسا بقوة معه دون حسابات واقعية أو مصالح وطنية عامة، وحتى مصالح المكون نفسه.

هذه المقدمات تنعكس بدرجات متعددة على المشهد السياسي الحالي، حيث انطلقت احتجاجات شعبية واسعة في المحافظات، لا سيما في الجنوب والوسط من العراق، رافعة شعارات مطلبية - اقتصادية أولا وخدمية ثانيا خلال الأعوام الأخيرة، تصاعدت في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، تكللت بعد تضحيات كبيرة، "بإسقاط" حكومة مركزية والإتيان ببديلة لها، رسمت مهمتها في الإعداد لانتخابات مبكرة تمهد لإجراء تغييرات سياسية، تؤمن تحولات أوسع تلبي الشعارات التي رفعتها الجماهير الشعبية في حراكها الوطني، تعتمد الإصلاح والتغيير منهجا بديلا عن النظام القائم والمسبب الرئيسي للحراك الشعبي الوطني أساسا، وتوقف أو تمنع الاختراقات الأجنبية ومخططاتها العدوانية.

تمت الانتخابات "المبكرة" في العاشر من تشرين أول/ اكتوبر عام 2021 بنتائج مختلف عليها ومؤشرات تشي بتدخلات مرسومة فيها، مع الإعلان عن مرورها بسلمية وقبول مبطن بغضب. فازت فيها كتل سياسية مشاركة في العملية السياسية بأعداد مميزة، كالتيار الصدري وكتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني وكتلة تقدم وحليفها وبمجموعة جديدة حملت عنوان المستقلين والتشرينيين، بينما خسرت كتل كانت تحظى بأعداد أكبر، مما حصلت عليه ككتلتي فتح ودولة القانون وحلفائهما، مما صنع أزمة سياسية واضحة في المشهد السياسي، وفرت بيئة لولادة أزمات منها، تزيد في تعقيد المشهد السياسي وصراعاته، التي اندلعت منذ إعلان نتائج الانتخابات النهائية في الثلاثين من تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي، أي بعد خمسين يوما من إجرائها، وهي حالة متكررة بعد كل عملية انتخابات في العراق منذ عام 2003، تتضمن فترة انسداد سياسي، كما تسمى في التحليل السياسي العراقي، وقبول تجاوز القواعد والمدد والسياقات المتفق عليها.

لم تتوقف هذه الصراعات عند الانتخابات ونتائجها، وإنما تداخلت بسببها وبتداعياتها داخل وجوه المشهد السياسي، برسم الكتل والأحزاب المشاركة في العملية السياسية منذ بدئها بعد احتلال البلاد، وتزايدت حدة التوترات بين كل الأطراف بأشكال متعددة، من إصرار على برامجها وما خطط لها، إلى المناكفات في البيانات والتغريدات في وسائل التواصل الاجتماعي، مباشرة أو ضمنا أو مداورة، معبرة عن توجهات لإدامة الأزمات ومحاولات لصناعة ما يحصل الآن من انتهاكات للدستور والقانون والادعاء بالإصلاح والتغيير، من كل أطراف المكونات التي تقاسمت كما تقول كعكعة السلطات والثروات والمشهد السياسي في العراق، ومن خلالها تبرز الانقسامات التي خطط لها والمشاركات التي تمدها عمليا، حتى ولو ادعي خلافها.

تكشف وقائع ما يحصل اليوم في العراق انشغال القوى المؤثرة فيه بما يبعدها من التدخل المباشر وترك أطرافه السياسية في نزاعات متعددة الأشكال، تصل إلى حدود ما يطلق عليه بكسر العظم، دون آفاق تخدم الشعب والوطن، وتوكيل من يؤدي لها ما كانت تحسب له أو تخشى من تداعياته المباشرة، حيث أن صناعة الأزمات مهما سميت أو غلفت، دون أفعال تحقق المصالح الوطنية تظل في هوامش ما خطط للعراق ويراد له مستقبلا، لا سيما من قوى الغزو والاحتلال، وأجهزتها المنفذة والموجهة وسفاراتها المراقبة بقلق، كما تصرح. وسيمر عام تقريبا على الانتخابات التي ادعي بأنها مبكرة!! ولم تحترم قواعد العملية السياسية والسياقات الدستورية والإجراءات المطلوبة منها، في "إقرار" الرئاسات وتشكيل حكومة وطنية مركزية وتفعيل دور التشريع والقضاء وتنفيذ المهام المناطة بها على مختلف الصعد والمستويات.

لقد ظلت كل المكونات وأطرافها المنقسمة فيها تتحرك في دوائرها ومساحاتها الخاصة بها، مبتعدة عن واجبها الوطني الاتحادي ومتفرجة على ما يجري أمامها من صراعات، وكأنها خارج حدودها ولا تتأثر بها أو تشملها. فالمكون الكردي لما يزل منقسما على اختيار رئيس للجمهورية، كاستحقاق له كما تعارف عليه في خطة المندوب الأمريكي المحتل بول بريمر، وهذا الوضع عرقل التوقيتات الدستورية وخالف قانونها والتزاماته. والمكون السني كسب "انتخاب" رئيس مجلس النواب بطريقة تركت بصمتها على ما تلاها من خطوات، دون أن تتحرك في مجال احترام الدستور ونظام البرلمان ومؤسسة التشريع وحتى مبناه وادارته، وأصبح المكون الشيعي منشطرا بين عنوانين، التيار الصدري والإطار التنسيقي، والذي وصل الصراع بينهما إلى النزول إلى الشارع باحتجاجات اخترقت القوانين والأعراف واتخذت قرارات بالتغريدات والبيانات الإعلامية، دون برامج عملية لوضع الشعارات المرفوعة على سكة التطبيق الواقعي واحترام كل الأطراف لقواعدها، وخدمة المواطن والوطن. فلقد أشار تقرير لصحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية (3/8/2022) إلى "أنه بعد شهور من المباحثات لحل الأزمة لم تفضِ إلى تشكيل حكومة جديدة، أقدم الصدر على سحب نواب البرلمان التابعين لتياره من المباحثات، (في حزيران/ يونيو الماضي)، ورأى في الانسحاب إدانة للنظام السياسي في البلد. واحتفظ الصدر بأتباعه الموجودين في مناصب بمؤسسات السلطة في العراق، فدفع ذلك المحللين إلى التكهن بأنه يسعى من خلال هذه الخطوة للحصول على تأييد قاعدة شعبية ما فتئت تنظر بسلبية إلى المشاركة في السياسات الانتخابية المتصدعة في البلاد. كما يرى المحللون أن الزعيم الصدر يحاول تهميش منافسيه الشيعة، مما يتيح له الظهور بصفته قوة بارزة تترأس تشكيل الحكومة.

وقالت "واشنطن بوست" إن مخاطر مساعي الصدر تلك تكشّفت عندما ظهرت تسجيلات صوتية مسرّبة، يصف فيها نوري المالكي مقتدى الصدر بأنه "غادر وفاسد"، ويستعد لمعركة لا يمكن أن يخرج منها سوى منتصر واحد"(!).

بالتأكيد تلعب وسائل الإعلام وأجهزة قوى الاحتلال الأخرى دورا في شحن الأجواء والمناخات السياسية سلبيا وعلى الأرض أيضا وتشويه الصور الواقعية بكي منظم للوعي الذي تعمل عليه وتمارسه فعليا، بمحاولات زرع المصطلحات والمفاهيم التي تسعى إلى تكريسها وغسيل الأدمغة فيها.

ما حصل في العراق ويحصل من أزمات متتالية، يفضح ما رسم له وخطط منذ غزوه واحتلاله، عام 2003، فلا العملية السياسية الجارية فيه بنت دولة مؤسسات ديمقراطية ولا احترمت قواعد التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية واستثمرت ثروات البلاد في خدمة المصالح الشعبية الوطنية، ومستقبل البلاد والعباد، وبقيت الخشية بعد كل ذلك قائمة من تعدد سيناريوات النهايات، وأشدها احتدام الصراعات البينية وهدر الدم العراقي، الهدف الآخر لما خطط لهذا الشعب وهذا الوطن.

***

كاظم الموسوي

في المثقف اليوم