آراء

ثقافة التظاهر وثقافة الأستبداد.. لمناسبة ذكرى وثبة تشرين

تثبت الأحداث ان تظاهرات (تشرين/اكتوبر2019) في العراق، وتظاهرات (ايلول – تشرين/اكتوبر 2022) في ايران أن الحكّام في البلدين تتحكم بهم ثقافة الأستبداد في تعاملهم مع المتظاهرين، فيما التظاهر بوصف خبراء السياسة يعدّ سلوكا حضاريا سلميا يمارسه مواطنو البلدان الديمقراطية.. يحصل حين تخرج الحكومة او السلطات عن القانون او تتلكأ في تنفيذ فقراته، ليردعها ويجبرها على الالتزام بالقانون والدستور، وهو (احتجاج جمعي) لأفراد من طبقات وفئات اجتماعية متنوعة تشعر بالمظلومية وعدم العدالة الاجتماعية، بوصف علماء النفس والأجتماع.

وحديثا توصل العلماء المعنيون بدراسة سلوك الاحتجاج السياسي في الصين ودول اخرى الى ان السبب الرئيس لقيام الناس بالتظاهر ناجم عن الشعور بالحيف والحرمان والمظلومية وهدر لكرامة الانسان والآحساس باللامعنى والاغتراب، والشعور باليأس من اصلاح حال كانوا قد طالبوا بتغييره نحو الأفضل وما استجابت الجهة المسؤولة لمطالبهم. ونضيف لما قالوا أنه يؤدي الى قهر وضغوط نفسية تتجاوز حدود القدرة على تحمّلها.

من 2011 الى 2022

تجسدت ثقافة الأستبداد من يوم ارسلت حكومة المالكي أحد (مناضليها) في (شباط 2011). ومع انه لا يراد من القوى الأمنية ان تتضامن مع محتجين مستلبين مطحونين في فعل سلمي يتظاهرون من اجل احقاق حق يخص شعبا ووطنا.. فان ما قامت به من تصرفات في (17 و20 تشرين الثاني 2015) بالاعتداء على المتظاهرين بالضرب والكلام البذيء واعتقال اكثر من (25) منهم ما اساءوا لأحد، والطلب منهم التوقيع على تعهد بعدم المشاركة في التظاهرات، وما تعرض له اھالي قضاء المدينة بمحافظة البصرة في اثناء قيامهم بداية تموز(2018) بتظاھرة سلمية مجازة رسميا، وقيام قوات الامن بالتصدي العنيف للمتظاھرين بإطلاق النار بالرصاص الحي بشكل عشوائي نجم عنه استشهاد الشاب (سعدي يعقوب المنصوري) وجرح ثلاثة متظاھرين.. يؤكد مجددا بأن السلطة لم تتخلص من ثقافة الاستبداد بخصوص سلوك الاحتجاج السياسي التي يفترض فيها ان تستبدلها بثقافة الزمن الديمقراطي.ولم تفهم بعد ان الاحتجاج ليس تمرّدا على السلطة، ولا يهدف الى اسقاطها، وانه ينبغي ان تتحول ثقافتها في الزمن الديمقراطي الى حماية المحتجين والحفاظ على سلامتهم ورصد المندسين والمجرمين الذين يستغلون المناسبة لنهب ممتلكات المواطنين ومؤسسات الدولة.

الأستبداد.. يستهدف محافظات الجنوب

توثيقا لما حدث فقد تم اغلاق ميناء أم قصر في (13 تموز 2018) من قبل المتظاهرين، وأغلقوا ايضا منفذ سفوان الحدودي، ووصل متظاهرو البصرة الى بوابات فندق شيراتون الدولي بمركز المدينة، واطلقت القوات الأمنية الرصاص على متظاهرين في غرب القرنة، وقامت قوات امن ذي قار بفتح خراطيم المياه لتفريق المتظاهرين الذين احتشدوا أمام بيت المحافظ، وتظاهر المئات وسط مدينة النجف واقتحم آخرون مطارها احتجاجا على تردي الخدمات استشهد منهم مواطنان شابان. وشهدت ميسان تظاهرات قتل فيها شخص واصيب (18) ناجمة عن اطلاق ناري اغلبهم من القوات الأمنية بحسب مدير صحة ميسان، فيما قام آخرون بقطع الطريق الرابط بين ميسان والبصرة، وأطلقت القوات الأمنية النار لتفريق متظاهرين أمام مبنى محافظة ميسان.

وفي الديوانية، اقتحم متظاهرون مبنى الحكومة المحلية، فيما استشهد ثلاثة مواطنين في تظاهرات مدينة السماوة.وفي (14 تموز2018) اعلن رئيس الوزراء السيد حيدر العبادي (الشخصية التسويفية) الحالة القصوى ودرجة الأنذار(جيم) واعلان حالة التأهب الأمني في محافظات العراق كافة.. وعصر اليوم ذاته، تم ايقاف عمل الانترنت، ونشاط التواصل عبر الفيسبوك بشكل خاص.

أهداف التظاهرات.. استرداد حقوق مستلبة

استطلعنا الرأي بشأن تظاهرات تموز 2018، اليكم اهم نتائجه.

تعددت اهداف التظاهرات بين: اسقاط الحكومة، محاسبة الفاسدين، تعيين الشباب في وظائف حكومية، حل ازمة الكهرباء والماء، تحسين الخدمات والبنى التحتية، (سحل الفاسدين في الشوارع).

وواضح ان بين هذه الاهداف ما هو غير عقلاني او غير ممكن مثل اسقاط حكومة مشكّلة من برلمان منتخب ديمقراطيا، والدعوة الى انقلاب عسكري، وبعضها انفعالي مدفوع بما ورثناه من سيكولوجيا الانتقام وثقافة (السحل).

واختلفت الآراء في وصف التظاهرات، اليكم نماذج منها:

* شعب ناقم على احزاب خانته وغدرت به، حركات غير منظمه، متظاهرون تحركهم الغريزة، فوضى وراءها اهداف خارجيه، مادام الشمال مستقر والغربيه مستقرة فلن تجدي تظاهرات الجنوب نفعا، كثير من اهل الجنوب يتأثرون بأي عمامة ولو صغيرة تحذرهم من بعبع البعث، مطالب شباب مشروعة بدون قيادة واعية، إذا لم يوجد دعم دولي فهي مجرد غوغاء، المظاهرات تحولت الى فرهود من غوغاء وسلاّبه وعصابات نهب وفوضى عارمة وتدمير ممتلكات، كثير منها مخترقة من احزاب السلطة لتشويهها، لا تشكل المظاهرات السلمية اي خطر على السلطة ما دامت القوة والسلاح بيدها.

ومن مسؤوليتنا العلمية والوطنية فاننا كتبنا الآتي في حينه:

بهدف أن يكون سلوك التظاهر لدينا حضاريا، وضمانا لتأمين حقوق المتظاهرين، ودفعا لفتنة كارثية، فاننا نتقدم بمقترح يتلخص بخطوتين:

الأولى: تشكيل قيادة محلية في كل محافظة من الأشخاص الذين لهم دور فاعل ومثابر في التظاهرات، ولجنة رأي من اكاديميين ومثقفين تقدم المشورة العلمية، وان يكون الجميع من الذين ليست لهم انتماءات حزبية.

الثانية: تشكيل قيادة مركزية موحدة في بغداد من الذين ليست لهم انتماءات حزبية تمثل القيادات المحلية للمحافظات، تقوم بالآتي:

- التفاوض مع الحكومة بخصوص تنفيذ مطالب المتظاهرين على وفق استراتيجية تتضمن مراحل تنفيذ عملية على اسس علمية يحددها ذوو الأختصاص، وبسقوف زمنية محددة.

- التزام جماهير المتظاهرين بما تقرره القيادة المركزية الموحدة من تعليمات وتوجيهات عبر وسائل تواصل محكمة.

والجيد ان قوى التغيير والأحتجاج تبنت في اجتماعها بالناصرية( 23 ايلول 2022) ما اقترحناه وزادتها حرصا باحترام الملكيتين العامة والخاصة وعدم دخول المنطقة الخضراء.

والمشكلة في حكّام ما بعد التغيير، انهم لا يعترفون بقساوة المعاناة التي يعيشها العراقيون خلال (19) سنة من حكمهم مع ان العالم يشخّصها بوضوح، اذ يرى عميد مركز الدراسات الاستراتيجية والخبير في شأن التظاهرات السلمية واللاسلمية للدول الشرق اوسطية الدكتور « جيني هاريسون " بأن العراق هو " البلد الوحيد الذي يواجه ازمات خانقة ومستعصية"، وانه "يعاني هجمة غير مسبوقة من الظلم والفساد والأرهاب,وأحزاب متصارعة ودستور ضعيف وغياب ملامح الدولة الرصينة مع إضمحلال أغلب الضمانات".. وان "المواطن العراقي الذي تنفس الصعداء بزوال أصدقاء الرئيس واتباعه، فوجئ بأتباع جدد جلّهم منتفعين يمارسون الترهيب ويستولون على المال العام دون حساب" بوصف صحيفة «الناشونال ديلي نيوزبيبر» البريطانية.. والكارثة أن من وصفوهم بافشل وأفسد حكام في تاريخ العراق، قطعوا في (28 ايلول 2022) جسور بغداد بالكونكريت، وحشدوا قوات مكافحة الشعب و و.. لمنع المتظاهرين من عودة البرلمان لعقد جلساته، لتتزامن مع اعلان الشرطة الأيرانية في اليوم نفسه انها ستتعامل مع المتظاهرين(بكل قوة).

ومع أن تعامل القوى الأمنية مع متظاهري قوى التغيير والأحتجاج والتشرينيّن في (1 تشرين / اكتوبر 2022) قد منع فيها استخدام الرصاص الحي، فأن قوات مكافحة الشغب الواقفة على صبات جسر الجمهورية الكونكريتية استخدمت ضد التظاهرة الحاشدة، القنابل الصوتية والغازات المسيلة للدموع، بعد ان تعرض عدد من افرادها الى الضرب بالحجارة من مندسين ومنفعلين.. فأن عليها ماخذان، الأول: زجت قطعات من الجيش العراقي مع قوى مكافحة الشغب ضد المتظاهرين، وكان على قائد القوات المسلحة ان يبعده عن الصدام مع أبناء شعبه. والثاني: ان القوات الأمنية تعاملت بقسوة في تفريق المتظاهرين وطردهم من ساحة التحرير وملاحقتهم، ما يعني ان السلطة لم تتخلص بعد من ثقافة الأستبداد.

ونخلص الى مفارقة وحقيقة علمية. اما المفارقة، فان معظم المتظاهرين في العراق وأيران.. شيعة تظاهروا ضد حكام شيعة!.واما الحقيقة العلمية فان الحاكم المستبد تتحكم به سيكولوجيا (الانتقام).. يراه في غضب المتظاهرين، فيعمد الى القمع بقسوة.. غير مدرك ان استبداده هذا سيوصل الناس الى القيام بثورة تكون نهايته فيها أبشع واشنع مما يراه في كوابيسه!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 

في المثقف اليوم