آراء

لماذا خفضت السعودية النفط - صحوة سيادة مفاجئة؟ (1)

التحليلات التي تناولت موقف السعودية بقبولها تخفيض "انتاج" النفط الذي التزمه الأوبك بمقدار مليوني برميل في اليوم، مرت مرور الكرام على التناقض والدهشة في هذا القرار دون انتباه كاف. فحتى ان لاحظ البعض ان هذا "الحليف" للولايات المتحدة يتخذ موقفا يبدو بالضد منها، حاول إعطاء تفسير متسرع يبدو "منطقي" حين لا يراجع على أساس معطيات الواقع والتاريخ.

التناقض الكبير هو ان مثل هذا القرار يتطلب حكومة ذات سيادة واستقلالية عن الولايات المتحدة ابعد بكثير جدا مما تملكها أو تحلم بامتلاكها الحكومة السعودية!

ولكي نتصور حجم الخلل في هذا التحليل وكمية سوء التقدير لكمية الاستقلالية والقدرة على الدفاع عن المصالح الوطنية التي يتطلبها مثل هذا الموقف من السعودية، يمكننا ان نلقي نظرة على مواقف بقية "حلفاء" اميركا وخاصة دول أوروبا الغربية من نفس القضية. إننا نجد دولا عظمى مثل المانيا وبريطانيا وفرسنا تركع امام الأوامر الامريكية متخلية ومضحية بمصالحها الوطنية وبشكل اثار الدهشة وكشف مدى السلطة الأمريكية على هذه الدول ومدى اهتمامها بكسب هذه المعركة بأي ثمن.

من الخطأ الشديد اعتبار ان هناك "مصلحة للغرب" في هذه المعركة الأمريكية، تدفع بهذه الدول الى الالتفاف حول اميركا، بل، إن كان هناك مصلحة لأوروبا وجميع من يسمون "حلفاء" اميركا، فهي في استغلال الفرصة والوقوف مع روسيا والصين للتخلص من هذا الكابوس الأمريكي الذي يبتزها ابتزازا بشعا فتسير خلفه كما يسير العبد الأسير. فعدا اميركا (وإسرائيل)، لا توجد قوة في العالم تستطيع أن تفرض نفسها على فرنسا او بريطانيا او المانيا، ولم تفعل ذلك اية قوة منذ الحرب الثانية، ولا حتى السوفييت!

لقد تابعت العلاقة بين اميركا والدول الأوروبية منذ سنوات، ولاحظت بدهشة مدى ضعف الأخيرة وعجزها عن الامتناع عن الخضوع والدفاع عن مصالحها. ومن الأمثلة التي مازالت في ذاكرتي من متابعتي في هولندا قبل حوالي عشر سنوات، كان هناك جو شعبي شديد المعارضة لمشاركة هولندا في قوات الناتو في أفغانستان، وكان هناك ضغط شعبي شديد على الحكومة على الحكومة والأحزاب لتخفيض تلك القوات. وكان هذا هو الحال في معظم دول أوروبا الغربية. وحين زار الأمين العام للناتو، (وكان من الدنمارك حسبما اذكر) اكد في كلمة له قبل المغادرة الى اميركا، انه سيبحث مع القيادة الامريكية مسألة خفض مشاركة الدول الأوروبية في قوات الناتو في أفغانستان، مؤكدا ان أوروبا لم تعد تحتمل ذلك العبء الخ. وبعد أسبوع عاد الرجل ليتحدث عن ضرورة "زيادة" مشاركة أوروبا في قوات الناتو في أفغانستان!!

وبالفعل رضخت له الحكومة الهولندية وتسبب في ضجة كبيرة تسبب في خروج أحد احزابها الأساسية (الديمقراطيين 66) من الحكومة وتركها حكومة اقلية! كل ذلك من اجل تلبية إرادة اميركا بزيادة القوات الهولندية بضع مئات جندي!!

بالتأكيد ليست القصة الوحيدة، فهناك صفقة طائرات جي اس إف الفضيحة التي فرضت اميركا على هولندا المشاركة فيها رغم معارضة شعبية هائلة واسقاط حكومات وفضائح، وربما كتبت عنها في مرة قادمة.

إنني افترض أن الحال ليس أفضل في الدول الأوروبية الأخرى مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا، الا أنني لا أعيش فيها ولا اعرف فضائحها.

فهل يمكن للسعودية ان تقف موقفا بوجه الضغط الأمريكي لم يستطع ان يقفه أي شعب من الشعوب الأوروبية؟ هل قدرة الشعب السعودي على الضغط على حكومته اكبر؟ هل سلطة أميركا على الحكومة السعودية اقل؟ هل ان الموقف الذي وقفته السعودية اسهل نسبيا واقل خطورة واهمية بالنسبة لأميركا فتجاهلته وسمحت للسعودية بما لم تسمح به "لحلفائها" الأوروبيين؟ ابدا..

كل من يتخيل الإجابة عن أي من هذه الأسئلة بالإيجاب، يقع في خطأ كبير في التقدير.

فمن ناحية قدرة الشعوب الأوروبية للضغط على حكوماتها، ورغم كل السيطرة الامريكية، لا يجب الاستهانة بالمؤسسات الديمقراطية والإعلامية الأوروبية، وهي بالتأكيد اكبر واقوى بألف مرة مما يمكن ان يحلم به أي سعودي او شرق اوسطي في بلاده. ففي هولندا مؤسسات إعلامية كشفت حقائق خطيرة جدا، وخضوع حكومة هولندا لطلب اميركا زيادة قواتها في أفغانستان، تركت حكومتها حكومة اقلية (لا اذكر ان سقطت ام لا) مهلهلة.. وكان الاعلام كله يسخر من الحكومة ومن العلاقة مع اميركا. ومع ذلك مر ما ارادته اميركا!

هل سلطة اميركا على الحكومة السعودية اقل مما هي على الأوروبيين؟ هراء. أميركا مستعدة وقادرة على اغتيال ملوك السعودية إن شاءت. وقد أجبرت هذه الحكومة على صفقات خيالية لشراء السلاح بقيمة حوالي نصف تريليون دولار، كانت عبارة عن "خاوة" دفعتها السعودية وهي صاغرة، وهو ما لا نتخيله في اية دولة أوروبية. كذلك فأن تطبيع دول الخليج ومنها السعودية مع إسرائيل هو بالتأكيد خضوع مهين ليس لحكام الخليج أية مصلحة فيه على الإطلاق، دع عنك بلدانهم.

هل ان الموقف السعودي أهون من الموقف الأوربي في رفض زيادة القوات في أفغانستان؟ ابدا. الموقف الأوروبي ليس سوى "وقف الإذعان" في مكان ما، اما موقف السعودية فهو بالضد تماما من الموقف الأمريكي. إنه يعادل ان ترسل الدول الأوروبية قوات لدعم القاعدة او طالبان!

ألا يمكن أن نكون مبالغين اذن في خضوع السعودية (والإمارات..) للولايات المتحدة؟ وانهم رأوا ان خفض الإنتاج وبالتالي زيادة الأسعار من مصلحتهم فذهبوا اليه؟

التاريخ لا يؤيد مثل هذه الفرضية. فكل تاريخ السياسة النفطية للمملكة، تاريخ خضوع لا مصلحة لها ولا لشعبها فيه اطلاقا. ففي اكثر من مناسبة أجبرت المملكة على زيادة ضخ النفط لخفض أسعاره وكان من أواخر علميات الابتزاز الامريكية لها في هذا الشأن كان اسقاط الاتحاد السوفيتي الذي لا ناقة للملكة فيه ولا جمل، حيث ضخت نفطا خفض سعره بشكل انهك السوفييت. والقول بان المملكة تعادي السوفييت على أسس دينية هراء، فالمملكة ابعد ما تكون عن الدين او الدفاع عنه.

وبعد هذا هناك المثال الأقوى حين ضخت دول الخليج النفط دافعة الأسعار الى قعر اجبر صدام على اجتياح الكويت وكاد يجتاح المملكة ذاتها، وكانت كل مصلحتهم في خفض الإنتاج ورفع سعر النفط، ربما لاستعادة ديونهم من صدام او على الأقل توقي خطره، لكنهم استمروا بالضخ رغم التحذيرات الكثيرة، بخضوع مثير للتقزز كمن يذبح نفسه طاعة للمتسلط عليه.

لذلك فكل التحليلات كانت تبنى على "مصلحة المملكة" وتبدو "منطقية"، لكنها تحليلات وهمية تتجاهل حقيقة ان الدولة والحكومة تحتاج الى حد ادنى من السيادة لتكون سياستها تتجه لمصلحتها. هذا "الحد الأدنى" غير متوفر لهذا الموقف، لا في السعودية ولا حتى في المانيا!

أخيرا وجدت تحليلا يقول: من المعروف ان السعودية تفضل "الجمهوريين" على الديمقراطيين وان موقفها هذا يهدف الى دعم الجمهوريين على حساب الديمقراطيين.

لكن حتى هذا التحليل يفترض ان للسعودية الخيار فيمن "تفضل": جمهوريين ام ديمقراطيين! أي ان لها دور في تحديد من يحكم اميركا، وهذا دور افتراضي اكبر بكثير في استقلاليته حتى من الامتناع عن تنفيذ الأوامر الامريكية. ولو كان للسعوديون مثل هذه القدرة على تحديد او التأثير بنتائج الانتخابات الامريكية لتراعي مصالحهم لكانوا دولة عظيمة تستحق كل التقدير.. لكنهم ليسوا كذلك!

ما تفسير الحرد السعودي على سيده الامريكي اذن؟ نترك الباقي الى الجزء الثاني.

***

صائب خليل

في المثقف اليوم