آراء

الزعامة الدكتاتورية ونزوع العسكرة للمجتمع

في سياق هذا الموضوع نستخدم مفردة (الزعامة) عن قصد وتعمد، بدلا"من المفردات الأخرى المقاربة لها في المعنى والمضاهية لها في الدلالة؛ من مثل (القيادة) و (الرئاسة) . وذلك للتأكيد على الطابع السياسي / السلطوي الذي تحمله صيغة (الزعامة)، بالقياس إلى تنوع الإيحاءات التي تشي بها بقية الصيغ ذات الصلة، انطلاقا"من طبيعة الحدث أو الواقعة المراد وصفها، فضلا"عن الهدف أو الغاية المنشودة من استعمال هذه المفردة بدلا"من تلك، واللجوء لاستخدام هذا المصطلح عوضا"عن ذاك .

ولعل من خصائص الشخصية الزعامية ومميزاتها ميلها المفرط؛ ليس فقط لاحتكار رموز السلطة السياسية وشخصنة مؤسسات الدولة فحسب، بل وكذلك تهميش الشركاء – إن كان هناك شركاء أصلا"- في الحكومة وإقصاء المنافسين في المعارضة، وبالتالي فرض الهيمنة على كل مرفق من مرافق المجتمع السياسي، وبسط السيطرة على كل قطاع من قطاعات المجتمع المدني . بحيث إن الشلل والخلل يصيب آليات وديناميات عمل الدولة ومؤسساتها، جراء الاحتكام إلى مخرجات السلطة دون غيرها من جهة، والإشاحة، من جهة أخرى، عن مدخلات العلاقات السياسية والتفاعلات الاجتماعية والتمثلات الثقافية التي لا معنى للسلطة من دونها . وهو الأمر الذي يفضي بالنتيجة إلى انتعاش عوامل صيرورة الظاهرة (الدكتاتورية) كفكرة / نمط داخل رحم السلطة ذاتها، ومن ثم ظهور الزعامة الدكتاتورية كشخص / رمز إلى حيز الواقع  ليلعب دوره القمعي ويمارس وظيفته الاستبدادية .

ولأن الدولة كبنى ومؤسسات لا تقوم على مجرد أفكار وتصورات، وان السلطة كأنظمة وقوانين لا تمارس على مجرد أشباح أو رسومات كارتونية، بل إن تصور وجودهما (كدولة) فاعلة و(كسلطة) ناشطة، يتطلب قيام مجتمع فعلي واضح القسمات ومحدد المعالم، يتمتع بكل المقومات السياسية / الاقتصادية، والمكونات الاجتماعية / الثقافية، والخلفيات التاريخية / الحضارية، والعلاقات الإقليمية / الدولية . التي لا تبرر فقط حيازتهما لعناصر القوة وتسوغ لهما استخدامها عند الضرورة فحسب، وإنما تضفي على الأولى سلطان الهيبة وتسبغ على الثانية مظاهر الشرعية . بمعنى إن الدولة لا قيمة لها وان السلطة لا مبرر لها، في حالة انعدام وجود مجتمع تمارس فيه وعليه السيادة من قبل الأولى والقدرة من قبل الثانية، وبالتالي فان الحديث عن ظاهرة الزعامة – باعتبارها حلقة وصل وفصل في نفس الآن، بين المجتمعين السياسي والمدني – يغدو في هذه الحالة نافلا"ولا موجب له. وبما أن المجتمع – أي مجتمع – هو عبارة عن كيان إنساني تتفاعل في وسطه وتتواصل في محيطه؛ خليط من الأقوام / الاثنيات، والأديان / الطوائف، والثقافات / الهويات، والتواريخ / الحضارات، والسرديات / التمثلات . فان الأمر يتطلب قدرة هائلة ومرونة عالية على إدارة هذا المزيج البشري المتنوع، بما يحقق وحدته الاجتماعية، ويضمن مصالحه الاقتصادية، ويصون حقوقه الثقافية .

وبعكس ذلك فان الأزمات السياسية ستكون هي الفيصل، والصراعات الاجتماعية ستغدو هي المنفذ، لاستعادة المجتمع طابعه السلمي وإيقاعه المنتظم، وهو كما نلاحظ خيار مكلف على جميع الصعد وكافة المستويات ليس من السهولة بمكان بلوغه . ولأن طبيعة الزعيم الدكتاتوري تتقاطع مع أي نوع من أنواع حرية الرأي والتعبير عن المعتقد من جهة، وتتناقض، من جهة أخرى، مع أي شكل من أشكال النقد للواقع الاجتماعي المزري والتنديد بالأوضاع السياسية الخانقة . فانه مسوق، بحكم تلك الطبيعة، لتكميم أفواه الناقمين وتقييد أيدي المتضررين وتعصيب أعين المشككين، وذلك باللجوء إلى قوانين الطوارئ وفرض الأحكام العرفية، حيث تطلق له هذه الإجراءات التعسفية العنان لاستخدام قوة المؤسسات العسكرية والأمنية بشكل سافر، لإسكات معارضيه وقمع مناوئيه، وبالتالي فرض إرادته خارج أطر الشرعية السياسية والمشروعية الدستورية، حيث سلطة الزعيم الأوحد تعلو فوق سلطة الدولة وتجب هيبة القانون.

ولما كانت  القوة  العارية تغري كل من يمتلك سلطة، باعتبار كونها تشكل عنصرا"أساسيا"من عناصر الردع لكل من تسول له نفسه الإساءة لصاحب السلطة والتطاول على سلطانه، فضلا"عن جعلها سياج الحماية الذي يقيمه حول عرين مملكته .فان خيار عسكرة المجتمع سيكون – بالنسبة للزعيم الدكتاتوري – من أفضل الحلول وأنجعها، دون أن يعي مساوئ هذه الخطوة اليائسة من جانبه حيث ستكون بمثابة الأسفين الذي يدق بين الحاكم والمحكوم، وبالتالي الإشارة للشروع بدق المسمار الأخير في نعش السلطة . والجدير بالملاحظة إن سرعة وسهولة حسم الأزمات السياسية التي تنشأ ما بين السلطة والمجتمع، غالبا"ما تغري الزعيم الدكتاتوري للذهاب بعيدا"في توظيف عناصر القوة العسكرية والأمنية، والاعتماد على قدراتها الردعية والقمعية، الأمر الذي يخلق لديه انطباع وهمي مفاده؛ إن القوة هي المفتاح السحري لحل كل المشاكل وتسوية كافة العقبات، التي تواجه السلطة من النمط الدكتاتوري عادة . وهنا يتحول الاستثناء إلى قاعة ثابتة، والإجراء الوقتي إلى إدمان دائم .

ولعل نمط السلطات السابقة والحالية في العراق يعكس لنا الكيفية النموذجية، التي من خلالها يحتمي الزعيم الدكتاتوري أو (المليشياوي) بظاهرة العسكرة لأغلب قطاعات المجتمع، فضلا"عن السماح لأكثر نوازع العنف الاجتماعي بدائية بالتفشي والانتشار، لاسيما تلك التي تميل إلى جعل العنف يأخذ طابعا" دينيا" / طائفيا"، حيث العسكرة تنقلب إلى حرب الجميع ضد الجميع، طالما أن المجتمع (= العراقي) لا يعاني فقط الاستقطاب والاحتراب على أسس دينية / طائفية فقط، بل ويعاني كذلك التصدع والتصارع على أسس قومية / أثنية، ناهيك بالطبع عن توقع تمزقه وتفرقه إلى كانتونات قبلية / عشائرية ! .

***

ثامر عباس

في المثقف اليوم