آراء

وبالمتقاعدين العراقيين عونا وإحسانا

كثيرا ما ألتقي أساتذتي وأصدقائي من المتقاعدين من خلال تردادي المتكرر لهم في مقاهي شارع المتنبي البغدادي أو طرق أبواب بيوتهم وزيارتهم كلما أتيحت لي الفرصة والسؤال عنهم وعن أوضاعهم المعاشية والصحية وأرى حالات الانتكاس التي يعيشونها بسبب العوز المادي وضآلة استحقاقاتهم المالية أمام الغلاء الذي بدأ يستشري في معظم مرافقنا الاقتصادية، إضافة لما يعانونه من أمراض مزمنة كثيرة من جراء الشيخوخة وتقادم العمر، وأقارن حالهم المزري هنا في وطنهم وحال أقرانهم المفرح في البلدان المتقدمة الراقية بسبب فقدان الضمان الصحي ولجوء المتقاعد المريض الى المشافي الأهلية التي ترهقه ماليا لتزيد من إرهاق الكبر وتقادم العمر لسوء الخدمات الصحية في مستشفيات الدولة وربما يضطر الى السفر الى المشافي خارج بلاده عسى ان تؤمن له صحة مؤقتة تعينه على قضاء بقية عمره بلا أوجاع او منغصات صحية .

لا أريد هنا أن أسهب في عرض تفاصيل معاناتهم في "أحضان" وطنهم غير الحاني عليهم، لكني أكتب ما شاهدته عيانا في العالم المتمدن خلال اغترابي هناك بشأن رعاية هؤلاء الذين أفنوا أعمارهم في خدمة وطنهم وتقديم أفخر الخدمات وأنبلها في مقابل الحيف والظلم والتعسّف الذي يلاقيه متقاعدونا هنا ببلادي وهم في أذيال العمر الاخيرة .

والظاهرة الغريبة العجيبة في بلادي ان المتقاعدين الذين تقاعدوا حديثا يستلمون رواتب تفوق ما يستلمه أقرانهم المتقاعدون الاوائل الذين تقاعدوا مبكرا حتى لو تساووا في مدة الخدمة مع ان قوانين التقاعد يجب ان تكون موحّدة، ومن هنا نرى إجحافا واضحا بين الاثنين .

ففي معظم دول العالم المتمدن هناك قسم كبير من المحلات التجارية والمولات التسويقية الحديثة تقوم بتوظيف المتقاعدين تعاطفاً وحنوّا لأشعارهم بأهميتهم ليس الاّ؛ ليقفوا في مداخل الأبواب مرحبين بالمتسوقين الداخلين والخارجين ويلقون عليهم التحايا ويطلق عليهم اسم (Greeters) وبعدها يودّعون الخارجين من التسوّق ويتمنون لهم قضاء وقت ممتع ووصولٍ آمن الى بيوتهم؛ هؤلاء المتقاعدون يعملون لفترات قليلة في اليوم مراعاةً لصحتهم لئلا يصيبهم التعب والإنهاك .

والحقّ أقول ان تلك الشركات والمولات ليست بحاجة الى هؤلاء الهرمين لكنهم يتعاطفون مع هذه الشريحة التي وهنت وتعبت خلال عملها الأول وإيلاء الأهمية والتعاطف معهم وإشعارهم انهم مازالوا بحاجة اليهم كي لا يشعروا بالنكوص واليأس وجمود الحياة خلال فترة شيخوختهم وإشعارهم بأن الحياة لم تتوقف عندهم .

مؤكد ان هذه المساعي والرعاية التي توليها تلك المرافق التسويقية لهذه الشريحة المتقاعدة قد أنقذت الكثير منهم من براثن الاحساس بالدونية والبطالة وعدم الاهتمام وأعانتهم بمدخولات مالية أخرى قد يكونون بحاجة اليها تضاف الى رواتبهم وتعينهم مالياً على مواجهة أمراض الشيخوخة اضافة الى ذلك فانها تُشعرهم بان المجتمع مازال بحاجة اليهم وان الحياة لم تتوقف لديهم .

هناك في معظم الدول الراقية التي ترعى كبارها المسنّين المتقاعدين؛ اذ تقوم الدولة بتوفير بطاقة طائرة مجانية سنوية للمتقاعد ورفيقة عمره للسفر والاستجمام والسياحة في اي مكان يختارونه وهذا ما شاهدته بأمّ عيني حينما جلس بجانبي احد المتقاعدين الهرمين وهو برفقة زوجته اذ سألته عن سبب السفر طالما أخذتك الشيخوخة مأخذا متعباً ولم تعد قادرا على تحمّل أتعاب الرحلة فأجابني:

" إنه قرار دولتي التي ترعاني مع رفيقة عمري لكسر روتين حياتي لآخذ شيئا من متعة السفر .. انها بمثابة ردّ الجميل على ما قمت به من تفانٍ في عملي طيلة مدة خدمتي الفعلية "

ففي كل بلدان العالم المتقدم تقوم الدولة / دائرة التقاعد بطلب الحساب البنكي للمتقاعد ساعةَ تسريحه من العمل لأجل إيصال معاشه التقاعدي ووضعه في حسابه المصرفي دون اي تأخير، كما ان من حق المتقاعد ايضا ان يطلب سكنا من دوائر الضمان بإيجار شهري منخفض جدا ان لم لديه سكناً إضافة الى تخفيضات مالية في خدمات الماء والكهرباء والمواصلات والخدمات الهاتفية؛ والضمان الصحي يكاد يكون شبه مجاني .

ومن طريف ما لمسته هناك ان وزارة الصحة هناك تؤنب المتقاعد وتحثّه باستمرار على مراقبة وضعه الصحي العام، ومنها على سبيل المثال لا الحصر؛ اذا تكاسل عن الحضور لطبيب الأسنان بين فترة وأخرى لإجراء الفحوصات على أسنانه وإدامتها دوريا .

فما أكتبه هنا هو غيض من فيض العطاء والخدمة الكبيرة التي تسديها الدولة المدنية المتحضرة لمواطنها المتقاعد، فأي بونٍ شاسع بيننا وبينهم .. وكم يحزنني حين أرى الأكوام البشرية من كبارنا المتقاعدين وهم يتزاحمون حول كوى وشبابيك الموظفين المسؤولين في دائرة تقاعد الكرخ ببغداد على انجاز معاملاتهم التي قد تطول شهورا عديدة ريثما تنجز وقد يلجأ الى المعقّبين لمتابعة معاملته مقابل خدمات مالية يقّدمها لهم أو يدفع الرشا للإسراع بتكملة معاملته، ويبقى هذا الهرِم العجوز يستدين من معارفه وأصدقائه شيئا من المال ريثما تطلق بقية رواتبه المتأخرة ويظل يدور من الدائرة الرئيسية الى الدوائر الفرعية لهيأة التقاعد العامة في ساحة الوثبة وغير الوثبة حدّ الانهاك والتذمّر واليأس احيانا .

وأخيرا نقول: وبالمتقاعدين المنهكين إحساناً فهم آباؤكم وأجدادكم ايها الأولاد والأحفاد فلا تكونوا ممن يسيئون لمن أحسنوا إليكم وإلى وطنكم .

***

جواد غلوم

 

في المثقف اليوم