آراء

عودة إلى مسألة اللغة

جاء في تغريدة لجون لوك ميلاشنون، زعيم حركة " فرنسا الأبيّة " اليساريّة، حول الورقة النقديّة الجزائريّة من فئة 2000 دج.

(Ceci est un billet algerien.la langue commune ne L’ est plus. tristese Macron. Born ont échoué en tout et pour tout)

وترجمتها كما يلي:

(هذه ورقة نقديّة جزائريّة، اللغة المشتركة لم تعد موجودة، إنّه أم محزن. لقد فشل ماكرون وبورن في كل شيء، ومن أجل كل شيء). وقد أرفق تغريدته هذه بصورة الورقة النقديّة المقصودة.

وهو تعبير صريح عن حزنه الشديد وغضبه عن شكل الورقة النقديّة، ولغتها. حيث جاءت حروفها بلغة شكسبير، لا بلغة بودلير. وقال أنّ اللغة الفرنسيّة لم تعد لغة مشتركة بين فرنسا والجزائر.

والحق، أنّ (مسيو) ميلاشنون، لا يعبر عن رأي شخصيّ وعاطفي، بقدر ما يعبّر عن الرأي الرسمي لقصر الإليزيه. ولا هو موقف ثقافيّ فقط، بل هو موقف سياسي ورسميّ، وتدخّل سافر في هويتنا الوطنيّة.

لقد فرضت فرنسا الاستعماريّة، بعد غزوها للجزائر في 30 جوان 1830 م على الأمّة الجزائريّة المجيدة اللغة الفرنسيّة، في جميع المعاملات الرسميّة ؛ في التعليم، بجميع أطواره، وفي الإدارات والمزارع والمعامل. وطفقت تطبّق سياسة الفرنسة، للقضاء على اللغة العربيّة. وصادق سياسيّوها ومثقفوها قوانين ومراسيم صارمة، لمنع التعليم بالعربية، ومعاقبة كلّ من تجرأ على ذلك، بالسجن أو النفي أو التغريم. ومن أشهر تلك المراسيم الظالمة / مرسوم شوطون، 8 مارس 1938 م، والذي نصّ على منع استعمال اللغة العربيّة، باعتبارها لغة أجنيّة في الجزائر.

وهكذا فقد مُنع أساتذة جمعية العلماء المسلمين من التدريس حيث نص القرار على "إغلاق المدارس العربية الحرة التي لا تملك رخصة العمل، ومنع كل معلم تابع للجمعية من مزاولة التعليم في المدارس المرخصة إلا بعد أن يتحصل على رخصة تعليم تقدمها له السلطات المعنية"، لكن السلطات الفرنسية أمتنعت عن إصدار الرُّخص رغم الطلبات العديدة التي قُدمت.

لم يكن هذا المرسوم الإجراء التعسفي الوحيد في حق اللغة العربية في الجزائر ولا قبل هذا التاريخ ولا بعده، ففي 24 ديسمبر 1904م أصدر الحاكم العام الفرنسي للجزائر قرارا ينص على عدم السماح لأي معلم جزائري أن يفتح مدرسة لتعليم العربية دون الحصول على رخصة من السلطة العسكرية بشروط أهمها:

* ألا يدرس تاريخ الجزائر وجغرافيتها والعالم العربي الإسلامي.

* ألا يشرح آيات القرآن التي تتحدث عن الجهاد.

* الولاء للإدارة الفرنسية.

وفي 21 مارس 1908م، طالب الإقطاعيون الفرنسيون ومغتصبو الأراضي بإلغاء التعليم الابتدائي للجزائريين لتوفير اليد العاملة الرخيصة لخدمة مزارعهم، ولتشجيع المهجرين الأوروبيبن على التوطين.

وفي الجريدة الرسمية ل20 جويلية 1945م، نُشر قرار 12 جويلية الذي يفرض على كل معلم للعربية أن يكون متقنا للغة الفرنسية، إذا أراد أن يوظف، مما أقصى أغلب المعلمين إذ كانوا لا يتقنون الفرنسية إطلاقا. وكان من نتائج هذا القرار كذلك إغلاق المدارس القرآنية.

وفي 3 مارس 1954م، صدر نداء من مفتشي التعليم الابتدائي الفرنسي الذي طالبوا من خلاله بإلغاء تعليم العربية في المرحلة الابتدائية حتى لا تعرب الجزائر!

لكن كما قال مسعود بوقادوم رحمه الله في 20 أوت 1947م أمام أعضاء المجلس الفرنسي : "أكثر من أي وقت مضى، يتشبث الشعب الجزائري بثوابته. والحل ليس في التشريع له، إنما الحل في أن يكتب دستوره بيده ".

و قد بيّن العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، الخطر الذي كان محدقا باللغة العربيّة خلال الفترة الاستعماريّة البغيضة، في كلمة ألقاها في مجمع اللغة العربيّة بالقاهرة بتاريخ 12 مارس 1962 م قائلا : "..و لكنّها (و الهاء تعود على العربيّة) لم تبتل بداء مثل هذا الداء العقام الذي نسمّيه الاستعمار، ولو أنصفنا لسميناه الطاعون.. ومن بلاء العربيّة أنّ هذا الداء تسلّط على جميع أقطار العروبة، فتمكّن من حرب العربيّة في جميعها بوسائل شيطانيّة، لولا عناية الله وما أودعه فيها من القوّة والمناعة لقُضي عليها. ولقد حاربنا على أرضنا وأقواتنا وكل وسائل الحياة عندنا فأفلح، ولكنّه حينما حارب لغتنا وتدسس إلى مدب السرائر ومكامن العقائد من نفوسنا باء بالهزيمة، فلا خوف بعد اليوم، وقد تنبّه رب البيت فخاب اللص، وباء بالفشل والخيبة. وأبرز الأمثلة لحرب الاستعمار للعربيّة منعه لتعلّمها في الجزائر، وحكمه بأنّها لغة أجنبيّة في بلدها، ومنعه للكتب العربيّة التي تطبع في الشرق العربي من الدخول إلى الجزائر.. "

إنّ المسألة اللغوية في الجزائر، ليست مسألة هيّنة وثانويّة، كما يُروّج لها بعض حملة لواء الفرانكوفونيّة المستلبين فكريّا ولغويّا. بل هي أمّ المعارك الثقافيّة في الجزائر، والمغرب العربي الإسلامي برمته. فقد سعت فرنسا، من بوابة التجمع الفوانكفوني في إفريقيا، إلى المحافظة على تواجدها اللغوي والثقافي في جميع مفاصل المجتمع الجزائري؛ في المنظومات، التعليميّة والإدارية والاقتصاديّة، انطلاقا من التعليم الابتدائي إلى غاية ما بعد التدرّج. ولمّا أصدرت الحكومة الجزائريّة في السبعينيات مشروع التعريب، جنّ جنون فرنسا، وتكالب على الجزائر أعداؤها في الداخل والخارج. وسعوا – بكل ما يملكون - إلى تشويهه وعرقلته وتقزيمه.

وازداد الحقد الفرنسي والفرانكوفوني ونظيره الفرانكوفيلي ضراوة، بعد إصلاح المنظومة التربوية والتعليميّة وصدور مشروع المدرسة الأساسية. فكادوا لها كلّ المكايد. ووصموها لكل الصفات، على درجة اتّهامها بأنّها مدرسة تخرّج الإرهابيين، وحمّلوها مسؤولية العشريّة السوداء والحمراء (1992 ـ 1999).

قال مصطفى صادق الرافعي في مقال له (اللغة والدين والعادات باعتبارها من مقوّمات الاستقلال) : ص 651 – ج 3 / وحي القلم: " أمّا اللغة فهي صورة وجود الأمة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها، وجودا متميّزا قائما بخصائصه ؛ فهي قوميّة الفكر، تتحد بها الأمة في صور التفكير وأساليب أخذ المعنى من المادة " ص 652 – ج 3 / وحي القلم

و يقول الرافعي أيضا: " وما ذلّت لغة شعب إلاّ ذلّ ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهاب وإدبار..."

وها هو مالك حداد (1927 – 1978 م) وهو أحد أبرز الكتاب والشعراء باللغة الفرنسيّة في الجزائر عن موقفه من اللغة الفرنسيّة يقول عبارته الشهيرة في مطلع روايته "سأهديك غزالة": " اللغة الفرنسية حاجز بيني وبين وطني، أشدّ وأقوى من حاجز البحر الأبيض المتوسط، وأنا عاجز عن أن أعبّر بالعربية عمّا أشعر به بالعربية، إنّ الفرنسية لمَنفاي ".

إنّ فرنسا وأعوانها الفرانكوفيليين في الداخل والخارج، مازالوا غارقين في حلم " فرنسة الجزائر "، وذلك بجعل الجزائر قطبا فراكوفونيا وفرانكوفيليا في القارة الإفريقية. تابعا للمنظومة الفكريّة والثقافيّة الفرنسيّة. فهم يحاربون اللغة العربيّة في غقر دارها، بشتى السبل، تارة بإثارة العداوة بينها وبين الأمازيغيّة وإحلال، هذه الأخيرة، موضع العربيّة، وتارة باسم التراث والتقاليد، وتارة أخرى بالادّعاء بأن اللغة الفرنسيّة، هي غنيمة حرب، لا يمكن التفريط فيها، لأنّها لغة البحث العلمي والتطوّر التكنولوجي. وكلّها ادّعاءات، هدفها المحافظة على مكانة اللغة الفرنسيّة في الجزائر المستقلّة.

وما تغريدة جون لوك ميلاشنون، زعيم حركة " فرنسا الأبيّة " حول الورقة النقديّة الجزائريّة الجديدة، وغضبه من اختفاء منها لغة قومه منها، سوى الوجه الحقيقي لحرب فرنسا على لغتنا الأم.

لا أدري لماذا غضب (مسيو) ميلاشنون؟ ربّما نسي، أو تناسى، أن الجزائر قد استقلّت منذ ستين سنة. فلماذا حشر أنفه في شأننا الداخلي وفي شكل عملتنا، التي هي جزء من هويتنا؟ فنحن أمّة حرّة، دفعت ملايين الشهداء ضريبة للحريّة والاستقلال. ومن واجبنا أن نكتب في عملتنا الوطنيّة بلغتنا. ولنا الحريّة كلّها في الكتابة عليها بلغة أجنبيّة أخرى، وكانت لغة النمل.

لا أحد ينكر، أنّ تعلّم أنّ التعدّد اللغوي في المجتمع الواحد، وتعلّم اللغات الأجنبيّة نعمة من نعم الله. فمن تعلّم لغة قوم آمن شرهم، واصطاد من حقولهم الحكمة. فقد الله تعالى الناس شعوبا وقبائل للتعارف والتعاون وتبادل المنافع الماديّة والمعنويّة، وفطرهم على تعدّد الألسنة وتنوّع الأفكار، ولولا ذلك التعدّد والتنوّع، ما انتفع الناس بعضهم من بعض.

لكن، عندما تصل الأمور إلى الاستبداد اللغوي والاستلاب الفكري، وحرمان الآخر من لغته الأم بالقهر والعدوان والإكراه، فذلك ما ترفضه الفطرة الإنسانيّة السليمة.

و في الأخير، ماذا لو طلبنا من " فرنسا الأبيّة " أن تكتب على عملتها الوطنيّة – إلى جانب لغتها الفرنسيّة – بلغة الضاد، انطلاقا من مبدأ المعاملة بالمثل؟ هل تقبل ذلك؟ لا أعتقد – جازما – أنها تقبل هذا الاقتراح. وإذا قبلت ذلك، فستعود اللغة المشتركة بيننا، بل سيصبح المشترك بيننا لغتين، لا لغة واحدة.

***

علي فضيل العربي - الجزائر

في المثقف اليوم