آراء

نحو سبيل للخروج من العبث وإنقاذ وبناء ليبيا

فوضى من التصريحات والمبادرات التي تصدر من هنا وهناك وهنالك من مختلف الأطراف والشخصيات المحلية سياسيين ومثقفين وحتى أشباه المثقفين، ومختلف القوى الدولية والشخصيات الرسمية سفراء ومسؤولين وحتى الجواسيس حول الحلول المقترحة لإنقاذ ليبيا، الكل يدلي بدلوه  من منطلقات مختلفة وعديدة وغايات متقاطعة ومتضاربة، مما يعكس وضع القضية الليبية الشائك والمتشابك وكيف أصبحنا وأمسينا، ومدى التدخلات الدولية الغاشمة، والتي أوغلت واستفحلت في فداحة عبثها بمصيرنا ومآلنا، وأطراف محلية كدمى لا تملك من أمرها شيئا تحركها خيوط مصالح القوى الدولية المتدخلة وخيوط مآربها الدونية الضيقة، هؤلاء الأطراف المحليون والذين أغلبهم قذفت بهم الصدف إلى مساحات المشهد السياسي الليبي، المتفاعل مع أغوار ومفازات المشهد الدولي، إذ لايملك اغلبهم تأهيلا سياسيا مهنيا أو حتى على الأقل تأهيلا ثقافياً أو معرفيا يجعلهم يدركون أغوار وخفايا السياسة،لأن محكات البيئة الدولية والسياسة العالمية تتطلب تكوينا وإلماما واسعا ورجال دولة حقيقيين، ندرك ذلك في ظل هذا التخبط في تعامل النخبة السياسية خلال الكثير من المحطات، والتي ترتب عليها العديد من الأخطاء الإستراتيجية ...

إن عملية البناء تتطلب الحفر عميقا من أجل إرساء الأسس، حتى يعلو البناء على أسس راسخة وعميقة، تمنح ساكنيه الثقة والشعور بالأمان، ويكون صامداً في وجه العواصف والأنواء..

فمن أجل وضع القطار على سكته الصحيحة لكي ينطلق نحو محطته   الأخيرة لابد من ترتيب الأولويات، فكل الدول التي شهدت ضروبا من النزاعات والحروب الأهلية الشرسة، وترتب عليها خسائر عظيمة في الأرواح، ودمار كبير على كل الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية، بل وخراب حتى في القيم والمبادئ الأساسية للتعايش، قام من بين ظهرانيها نخبة من القادة نفضوا عنهم غبار الثارات ودفنوا الأحقاد وتحرروا من العقد الجاهلية التي تبتلع الوطن وتختزله في رايات بالية، ونهضوا رافعين راية الوطن، من أجل بناء السلام ونبذ الصراع في بلدانهم المنكوبة، وكان أول ما فعلوه أنهم  حفروا عميقا في القلوب والنفوس وغرسوا أسس المصالحة الحقيقية والعميقة والشاملة،  والتي تجب ما قبلها، أولا على النطاق الإجتماعي، ثم عن طريق سن القوانين التي تعزز وتحفظ هذا الميثاق الوطني وهذا الإنصهار في مجتمع المواطنة، ثم تأتي كل العمليات السياسية بعد ذلك، كإقرار الدساتير والتي تحفظ حقوق المواطنين في مابينهم ولاتقسمهم أو تقصيهم عبر إعلاء البعض على الأغلبية، بل يغدون سواسية في الحقوق وبما يتوجب عليهم من الإلتزامات في إطار مظلة المواطنة الحقيقية، وتؤطر علاقة الحاكمين والمحكومين تحت مبدأ التداول السلمي على السلطة، منعا للإستبداد وإحتكار السلطة، وكذلك وضع القوانين التي تحقق العدالة الانتقالية وجبر الضرر، وعودة كل المهجرين والنازحين إلى حضن الوطن من أجل التأهب للمساعدة في إعادة بنائه يدا بيد مع كل الليبيين لافرق بين ليبي وليبي، ولا جهوية ولا قبلية  ولا مغالبة أو إستعلاء، لأن الوطن هو الأسمى،  ثم يأتي بعد ذلك تهيئة الإعلام بغرض توحيد خطابه نحو تعزيز هذه المصالحة الوطنية وإظهار أهميتها في ترميم الصفوف وتنقية النفوس،وعقد الندوات والبرامج التي تبين وتوضح أولوية تحقيق المصالحة بالإستشهاد بتجارب الشعوب والأمم التي مرت بسنوات أو عقود من النزاعات والحروب الأهلية الدامية أو من الإنتهكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ورغم ذلك عبرت إلى ضفاف السلام والاستقرار وصولا إلى النماء والإزدهار .. وبذلك وإن تم تحقيق المصالحة على أحسن وجه ممكن سوف نخطو بثبات  إلى الإنتخابات البرلمانية والرئاسية بضمان عدم الإنقلاب على نتائجها، ولنا في تجارب بعض الدول التي شهدت إنتخابات قبل أن تحقق المصالحة عظة وعبرة، كالانتخابات التي شهدتها الجزائر عام1991 عندما فاز بها طرف للنزاع(وهو الجبهة الإسلامية للإنقاذ) لم يرضى ويقبل بها طرف النزاع الآخر(النظام الجزائري والجيش)، وترتب عليها حرب أهلية في الجزائر  راح ضحيتها زهاء مائتا ألف جزائري مع خسائر إقتصادية هائلة، كذلك يذكر في هذا الشأن الانتخابات التشريعية الفلسطينية لعام 2006 والتي فاز بها طرف( حركة حماس) ولم يرضى بها الطرف الآخر (حركة فتح وبعض الفصائل الأخرى)، فنتج عنها الإنقسام الفلسطيني الفلسطيني، وأفرزت حكومتين لازالتا متنازعتين حتى اليوم وهما حكومة رام الله وحكومة غزة.

إن من شأن تحقيق إنتخابات ليبية شفافة تبني على أسس المصالحة الحقيقية والعميقة والشاملة، أن يضع النقاط على الحروف في دروب بناء دولة المؤسسات المنشودة لتأسيس دستور  منيع، يضع ركائز لبناء ليبيا على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ويضع أطر لدولة ليبيا الجديدة، دولة مجتمع المواطنة الحقيقية، والتي يجب أن تكون أهدافها:

- تعزيز إلتئام المؤسسات السيادية، كالمصرف الليبي المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط، وصندوق الاستثمار  لتوحيد السياسات والخطط والبرامج.

- المضي نحو تحقيق سياسة إقتصادية، تستهدف بناء الإقتصاد عل  أسس علمية، عبر ترشيد إستخدام الموارد المادية والطبيعية والبشرية وفق رؤية إستراتيجية جديدة.

- ضمان توحيد المؤسستين العسكرية والأمنية، لانهما عماد بناء أي دولة ذات سيادة حقيقية، ومن أجل إنهاء  المليشيات وطي صفحتها.

- وضع لبنات سياسات تعليمية تنهض بالمؤسسات الأكاديمية، وترتقي بجودة العملية التعليمية، لدعم سوق العمل بالكفاءات المؤهلة في كل التخصصات .

-  دعم القضاء والأجهزة الرقابية لمحاربة الفساد، وردع وزجر كل من تسول له نفسه التلاعب وإهدار  المال العام بتوقيع أقصى العقوبات الممكنة.

- محاولة وضع ضوابط للتعيين في كل المناصب وخاصة التي تتعلق بمؤسسات الدولة الإستراتيجية، والتي تتطلب مواصفات خاصة لشاغليها.

- محاولة ترشيد وتوعية الناخبين عبر وسائل وتقنيات الإعلام وكل المنابر الممكنة، من أجل تحقيق مايسمى بالوعي الإنتخابي، والهدف إنتخاب أشخاص أكفاء ومؤهلين وجديرين بقيادة المرحلة.

***

د. أبوبكر خليفة أبوبكر

كاتب وأكاديمي ليبي

 

 

في المثقف اليوم