آراء

ما بناه المسلمون يُخربه المتأسلمون

من ينظر الى ما يجري في ارضنا العربية ببصيرة وتعقّل بعيدا عن الميل لهذا الطرف او ذاك ؛ يصاب بالعجب والاستغراب الشديدين، فالخراب وحرق المدن بالقذائف والبراميل التفجيرية ونسف الجسور وتلغيم الطرق السالكة وتفخيخ البيوت وكل ما أبدعته يد الانسان من بناء واعمار وجهد استمر سنوات طوال لتشييده فتراه في لحظات قليلة يغدو ركاما واكواما من الحجارة والأنقاض بفعل العبوات الناسفة ورمي الهاونات والطائرات المسيّرة وغيرها من وسائل الخراب والهدم .

لم نسمع يوما منذ صغرنا حتى كبرنا ان تراثنا العربي او الاسلامي يدعو الى ازالة معالم البناء والاعمار والتشييد وهدم الاضرحة والمزارات والمنشآت والمعابد والمساجد والأسواق وحتى دور العبادة لغير المسلمين بل بالعكس فقد قرأنا في وصايا خلفائنا الاوّلين  لمن ينضم من المقاتلين الى الفتوحات الاسلامية بعدم التعرض الى البيوت وما نشأ على الارض من عمران والحفاظ على الارض المزروعة فلا يقطع نبتٌ ولا تقلع شجرة ولا يداهم معبد ولا يتعرض لعابد او ناسك مهما كان دينه او عقيدته، ورسالة الاسلام تنصبّ اولا في عمارة الارض ليكمل الانسان ما شيّده الاولون لاضافة لبَنَة الى الجهود الانسانية لتستمرّ الحياة بناءً وإعمارا وخلودا مما ابدعته يد الانسان طيلة وجوده على الارض ليكمل مابدأه الاولون وليضع أثرَه حتى يأتي جيلٌ لاحق يضيف الى بنائنا مايستطيع من اعمار ورقيّ وهكذا دواليك .

وفي القرآن الكريم آيات عديدة تحث المؤمنين على العمل " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " وتقرنه بالصالح " ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات " وكثيرا ماترد بصيغة الامر مما يدلّ على اهمية العمل الصالح لنهوض مجتمعاتنا وبناء حضارتنا للحفاظ على الارث الانساني في الاعمار والبناء وكان رسولنا الكريم محمد (ص) يبارك اليد العاملة الخشنة الملمس لا اليد المخرّبة، ويدعو الله ان لاتمسّها النار وإحياء الارض وزرعها ليأكل منها البشر والطير والحيوان وما دبّ على الاديم وليس ادلّ على ذلك حديث الرسول الاعظم حينما قال: من كانت في يدهِ فسيلة وقد حانت القيامة فليزرعها.

نعجب كثيرا ممن يدّعي التمسّك بالاسلام ويوهمون الناس بانهم القابضون على حبل الله المنقذ وهم يعيثون خرابا ودمارا بكل بقعة فرضوا سيطرتهم عليها فصارت بلادنا الزاهية ومدننا الجميلة خرائب وقفارا وأشعلوا أوار الحرب بين ابناء الوطن الواحد وأوقفوا ماكنة العمل وعجلة التقدم والنهوض وأشغلوا الملأ بالنزاعات العرقية والطائفية مخالفين شرع الله ورسوله الذي أمرنا أولا بالعمل لدنيانا كأننا نعيش آبدين ثم العمل لآخرتنا تالياً بعد العمل الدنيوي فالعبرة ظاهرة للعيان في هذا المسعى لأن العمل الدنيوي هدفه تحقيق الخير والنماء وترسيخ النفع العام للمجتمع ككل بينما العمل الاخروي ذاتيٌّ وشخصيٌّ بين المخلوق والخالق.

أليس العرب والمسلمون أول من مصّر الأمصار كالبصرة والكوفة ومصر الكنانة وهم من أسسوا وبنوا بغداد الزاهرة التي كانت محطّ العلماء ومهوى قلوب المفكرين وذوي العقول الراجحة وهم ايضا من ابتنى الاندلس وعُمّرت أرقى تعمير حين دخلها المسلمون .

ومن اسماء الارض " المعمورة " التي تدل دلالة واضحة على تقديس الجهد الانساني والحثّ على البناء والعمران فهي رسالة السماء المباركة الى الارض لتعمر وتبنى وتسمو بالعطاء وتُبقي أثَرا لمن عاش ردحا فيها وما توالي الحضارات ورسوخها في أزمان الدنيا الاّ لوضع لبنة جديدة تضاف الى مابناه وعمّر الاخرون قبلنا وحتما ستأتي اجيال اخرى تكمل مارسّخه الاجداد ليهنأ به الاحفاد ويضيفون اليها لمسات الجهود الابداعية، فمانراه اليوم من خراب مقصود وتدمير متعمّد انما هو تشويه لرؤى الاسلام وطمس لمبادئه السامية بشأن تشريف العمل باعتباره اسمى انواع العبادات وانفعها للناس ومن خلاله تنهض المجتمعات وتسمو برقيّها ويعلو البنيان، فليس من كبّر وبسمل لله وهو يحزّ سكينه ليقتطع رقاب الملأ ويفجّر ماصنعَ وأنشأ وعمّر عبيدُ الله وخلْقهُ البنّاؤون ذوو السواعد اليمنى القوية وشتان شتان مابين المسلم الحقيقي والمزيّف الذي صنعته أيادي الشرّ في سجون اليانكي الاميركي وفي اقبية البنتاغون وفي تكايا ومساجد الزيف الاسلاموي  البعيد كلّ البعد عن الاسلام  البنّاء .

***

جواد غلوم

 

 

في المثقف اليوم