آراء

الطبقة العاملة العراقية في ظِل النظام الملكي

تظهر بين حين وآخر "حسراتٍ" على سقوط النظام الملكي العراقي في عام 1958، إذ يعتبر هؤلاء أن العراق كان مستقراً في زمن الملوك. ولن يتسع المقام الآن لمناقشة هذا الزعم، فقد تَعَرّضنا له بإسهابٍ في كتابات سابقة.

لكن الإشكال هنا:

هل بَيّنَ لنا أصحاب هذا الزعم وضع العامل العراقي في زمن الملوك؟ فالكادح أولى بتسليط الضوء عليه، من علاقات العراق الخارجية و"أفضلية" الركون لبريطانيا العظمى بحسب المعيار السعيدي ـ الباشا نوري السعيد ـ .. الخ من الحُجج التي أثبت الزمن فسادها.

سنعملُ في هذا المقال على تسليط الضوء على أوضاع "البروليتاريا العراقية" في سنوات الإحتلال والإنتداب 1918 ـ 1932 من خلال مصدر مهم: الطبقة العاملة العراقية ـ التكوّن وبدايات التحرّك، الجمهورية العراقية ـ وزارة الثقافة والإعلام، دار الرشيد 1981، وهو بقلم المؤرخ العراقي الكبير د. كمال مظهر أحمد.

يُوَجّه الباحث النظر لمسألة مهمة هنا، إذ يُلاحَظ تبلوراً جلياً في عملية تكوّن الطبقة العاملة العراقية خلال سنوات الإحتلال والإنتداب، بحيث يمكن التحدث عن فئة إجتماعية جديدة متميزة الى حد كبير عن جميع الفئات الإجتماعية الأخرى كَمّاً ونوعاً ص65.

لندخل الآن لصُلب الموضوع، أي أوضاع العامل في هذا العهد:

تعرّضت الطبقة العاملة العراقية لصنوفٍ من الإستغلال الشديد مما إنعكس قبل كل شيء في قضايا ساعات العمل والأجور والضمان والبطالة. إذ بقيت ساعات العمل اليومية الطويلة في العراق بعد الحرب العالمية الأولى، أكثر من 8 ساعات في اليوم إلا ما ندر، وقد بلغ إستغلال العمال من قِبَل المؤسسات الحكومية أوجه، فإن أسبوع العمل لدى مديرية الأشغال كان يصل الى 70 ساعة، وكانت مديرية الزراعة تشغل عمالها 63 ساعة في الأسبوع صيفاً و 70 ساعة في الأسبوع شتاءً، أما ساعات العمل بالنسبة للعمال الموسميين الذين كانوا يقومون بجني التمور وتعبئتها فكانت تتراوح بين 14 و 16 ساعة في اليوم ص73 و 74

أما أسوأ صفحة في تاريخ العمل العراقي فهي "إستغلال أعمال السجناء". فقد إستُخدِمَ هؤلاء بأعداد كبيرة للعمل في فتح الطرق والبناء وصنع الطابوق وفي الأشغال التابعة لبلديات المدن. ففي آذار 1924 إستُخدِمَ 200 سجين في أعمال ترميم السدود ببغداد، كما شيّد سجناء البصرة مستشفى مود، وقام سجناء بعقوبة بتسوية الطرق دون مقابل، وإستُخدِمَ في أواخر عام 1930 حوالي 900 سجين لحفر وتنظيف ترعة اللطيفية، وفي مطلع عام 1931 جرى تشغيل أكثر من 8 آلاف سجين عراقي في أعمال إنشائية مختلفة ص76

وقد تمادت السلطة الملكية العراقية في تعاملها اللاإنساني مع السجناء، وبلغ الأمر بمدير السجون الملكية أنه إستبشر كثيراً بإرتفاع عدد المساجين ما دام يؤدي ذلك حسب رأيه الى "إحياء أراضٍ واسعة بلا مصروف" و "دوران حركة تجارية ـ زراعية تفيد البلاد والعباد"، وتفتقت عبقرية هذا المدير عن إقتراح يقضي بتشكيل "سجن عمومي سيّار مُجَهّز بالمعاول والمجارف تحت خيام جدرانها من الأسلاك الشائكة المكهربة" وألَحّ على تطبيق "نظام السرسرية"، فيُرسَل كل سرسري للشغل، ويجعل للسرسرية قسم مخصوص يُسمى ورشة السرسرية يُطعَمون كالمساجين، ويُعرَضون على الناس للعمل عندهم لقاء أجور تُصرَف على تطهير وتصليح النهروان والدجيل وبناء سدة سامراء ص77 و 78

يُقر مظهر أحمد بحقيقة مؤلمة جداً، فقد كان العمال وحيدين في حلبة الصراع من أجل أجور أفضل، فإن الجميع تقريباً كانوا يريدونهم أن يعملوا بأقل الأجور! ص79، فإن الأجور اليومية لمعظم العمال العراقيين بعد الحرب العالمية الأولى كانت تعادل سعر قنينة واحدة من الحليب ص80

 وكان العُمال يؤلّفون "أدنى الفئات الإجتماعية في المدينة"، فأكثر العمال مهارة كان يحتل مرتبة أدنى من أصغر موظف في المجتمع العراقي المدني آنذاك ص82 المتن والحاشية الأولى. وعليه فكانوا يعيشون عيشة ضنك.

يُورِد مظهر أحمد نص البند الثاني من بنود العقد الخاص الذي كانت إدارة السكك تُبرمه مع العمال قبل تشغيلهم:

(وفي حالة التغيّب عن الخدمة بسبب إنحراف في صحتي منشأه التهامل أو سوء السلوك أو عدم التبصّر من جانبي فلمدير السكك الحديدية أن يُنهي هذا العقد بدون إنذار، وفي حالة عدم إنهاء العقد فلا يحق لي تناول راتب عن المدة التي تغيّبت فيها، ومدة التغيّب هذه لا تُحتسَب كخدمة فعلية بمقتضى أحكام هذا العقد) ص84

يُعقّب الباحث:

(ومن الطبيعي أن من يضع مثل هذا الشرط المجحف لا يتورّع عن إعتبار تهامل العامل أو سوء سلوكه وعدم تَبَصّره منشأ لكل مرض يصيبه وهذا ما يُفسّر لنا لماذا كان العمال يستمرون في العمل في حالة إصابتهم بأمراض طارئة) الصفحة أعلاه.

ونقل الباحث أمثلة غريبة فعلاً:

فقدَ عامل ماهر يده أثناء العمل، فقررت إدارة السكك تقليص راتبه  اليومي من ثلاث روبيات وأربع آنات الى أقل من روبية واحدة. وجرى تقليص راتب عامل آخر بمقدار 50% بعد أن فقد عينه اليمنى أثناء العمل. وفُصِلَ عامل ثالث بعد أن سقط من فوق عمود أثناء العمل لأنه بقي طريح الفراش لمدة ثلاثة أشهر إنقطع خلالها عن الدوام بالرغم من إرادته. الصفحة أعلاه.

لن نتوسّع في العرض أكثر، فقد إتضحت "الصورة القاتمة". ومما يجدر ذكره أننا نتحدث عن الفترة الأولى في النظام الملكي العراقي "الفترة التأسيسية"، أي فترة الملك القدير فيصل الأول. وليس عن فترة الملك غازي "القلقة"، ولا عن فترة الوصي عبد الإله التي كانت سبباً في سقوط النظام الملكي.

يتحدث الباحث عن "إضراب عمال السكك" في 1931 بإسهاب، ويقول بأن محمد صالح القزاز قد أكّد للملك فيصل بأن "جمعية أصحاب الصنائع" تعتبره "الملجأ الوحيد الذي يلتجىء إليه كل مظلوم". فما هو الرد؟

(لم يُكَلّف الديوان الملكي نفسه بالإجابة على مذكرات القزاز حسب العُرف الجاري، بل إكتفى وزير الإقتصاد والمواصلات بإرسال ردٍ الى القزاز يُكرر فيه ما إدعاه من قبل بأنه طلب من مدير السكك العام حلّ مشكلة العمال بصورة مُرضية) ص198.

فهل سنُجانِب الحقيقة عندما نحكم الآن بالآتي:

تتحكم "النظرة الطبقية" بأغلبية المدافعين عن النظام الملكي العراقي، تَحَكّمٌ لاشعوري على أقل تقدير. وإلاّ فأين هُم من هذه الأوضاع البائسة لهذه الطبقة المقهورة! بينما نراهم يَتَحَسّرون على نظام حفر قبره بيده!

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

في المثقف اليوم