آراء

اذا كانت البلد مزدحمة بالاكاديميين فأين أثرهم؟

سياسيون، أكاديميون، ناشطون في العمل العام، يشغل بعضهم مواقع قيادية ومتقدمة في الوظائف العامة، يمارس بعضهم مهنة تعليم الطلاب في الجامعات والكليات العلمية، يحترف بعضهم الكتابة في الصحف والمجلات المتخصصة، ويتأهل بعضهم لتمثيل الناخبين في البرلمان والمجالس المحلية، لكنهم لا يمتلكون رشدا سياسيا، ولا يساهمون في تطوير مجتمعاتهم.

لو استعرضنا حال بلد خليجي مثل دولة الكويت تضم العديد من الجامعات والكليات والمعاهد العليا والمعتمدة والعامة والخاصة، ويعود الالاف من ابنائها بشهادات عليا من الخارج، والى جانب ذلك حباها الله بالثروة والوفرة المالية، ولا يشكل عدد سكانها الصغير عبئا على موارد الدولة، فإننا نقف على مشهد مثير للتأمل، يتلخص في تعثر مسيرة التطور على كافة الأصعدة والمجالات، وتوقف كل المشاريع التنموية بالحد الذي أخذت الدولة تدخل في مشكلات معقدة لا تعانيها دول تصنف في المؤشرات العالمية انها فقيرة ومعدومة.

وهو الامر الذي يثير العديد من الاسئلة الملحة عن سر التخلف وعلة التراجع المدني: اذا كانت البلد مزدحمة بأصحاب الاختصاص في جميع المجالات السياسية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واذا كان حملة شهادات الماجستير والدكتوراه في كل مرفق حكومي يشكلون الاكثرية من عدد الموظفين، فأين دورهم؟

واذا كانت كل العوائل التجارية تقتنص مقعدا في مجلس الوزراء والمناصب القيادية، وكل حي من احياء البلد يضم نائبا حاليا او سابقا او راحلا، ويتنافس على انتخابات مجلس الامة والبلدي والجمعيات التعاونية والنقابات العمالية المئات ممن يفترض فيهم انهم على درجة عالية من الوعي السياسي والنقابي والعلمي، فأين أثرهم؟

يتحدثون كثيرا عن دور العلم في ارتقاء الأمم وتقدم الدول، ولا تكاد تخلو مرحلة دراسية من التعليم العام وحتى التعليم العالي من مواضيع ودراسات واشارات حول الطفرات التنموية التي حققتها الدول حين ركزت على التعليم وازداد عدد العلماء والخريجين، فلماذا لم نرَ طفرة تنموية مثلهم؟

قيل لنا انه كلما زادت الشرائح المتعلمة في الدولة، تتحول جامعاتها الى معامل للتفكير، وكلياتها الى ميادين للتغيير، وتسابق الدولة الاخرين بعلمائها وعقولها، وتشمر المؤسسات العلمية عن ذراعيها لتوائم بين العلم والعمل، وتحلق في سماء المجد، فلماذا لم نحلق حتى الان مثلهم؟

لا زلنا نتذكر مثلا قصة تولى مهاتير محمد رئاسة وزراء ماليزيا عام 1981 وكيف كانت دولة فقيرة يعيش سكانها تحت خط الفقر، فأولى الرجل اهتمامه للتعليم ونقل بلاده من دولة زراعية فقيرة إلى دولة صناعية متقدمة، حيث يبرز دور العلماء وأثرهم الملموس في مشاريع التنمية والتطور، انتظرنا ذلك فتبين لنا أن أدوار علمائنا المرتقبة هي مجرد قصص نسجها الخيال.

رددنا بحماس بالغ نشيد المرحلة الابتدائية الذي يقول الشاعر في مطلعه: "علماء بني قومي عرفوا، تحويل الصعب إلى الأَسهل. علماء لهم عقل يبني، بالعلم طريقا للأَفضل"، وحفظنا ما يقوله معلم التربية الاسلامية في المدرسة وعالم الدين في المسجد، والخطيب فوق المنبر من ان "العلماء ورثة الانبياء" وان الامم تضيئ بنور قادتها من العلماء كما تضيئ النجوم لاهل الارض، صدقنا كل ذلك فلماذا نعيش حتى الان في ظلمة التخلف؟

ما لمسناه، ان البلد يهوي من سيئ إلى أسوأ، ولا يبدو ان للعلم والعلماء أثر في رسم ملامحه او توجيه مستقبله، هذه العزلة الحادة بين الجامعة والمجتمع، وبين حملة الشهادات العليا وفهم الواقع، وبين النظريات العلمية المصفوفة في الكتب وتمثلها اخلاقيا وعلميا من قبل المتعلمين، هي مسافات بين العلم وأثره، وبين المعرفة وتجلياتها في الواقع.

ما فائدة القادة السياسيين اذا كانت عقولهم عاجزة عن وضع خريطة للنهوض بمستوى الاداء الحكومي، واقتصر دورهم على اداء الخدمات، وتوقيع المعاملات، وتقسيم المناقصات؟ ان وظيفة تخليص المعاملات يمكن ان يقوم بها المندوبون في دولة القانون، وتقسيم المناقصات تحت الطاولة مهمة اللصوص لا القادة الكبار، وتوقيع المعاملات تتطلب رؤساء أقسام لا وزراء يستلمون رواتب استثنائية وجوازات ديبلوماسية.

وما فائدة اساتذة القانون والسياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرهم اذا كانوا عاجزين عن تقديم تصورات تنموية تخرج البلد من حالة التيه الزمني الذي تدور فيه منذ ما يتجاوز الـ 35 عاما؟ ما فائدتهم اذا اقتصر دورهم على التهليل لهذا التيار او ذاك، او الدفاع عن هذا الرمز او ذاك، وتحولوا الى جمهور يصفق بدلا من ان يعبدوا الطريق الى الجمهور.

يجب ان يطرح هذا البحث للنقاش بشكل جدي، وان لا يقبل العلماء والاكاديميون أن يتحول علمهم جهلا، ونظرياتهم هباء، يجب أن نبحث في التحولات العميقة التي تسللت الى فلسفة التعليم في الكويت وربما غيرها من الدول، وربطت العلم بالوظيفة، والوظيفة بالراتب، والراتب برضى السلطة، ورضى السلطة بتهميش العلم وتسطيح اداء العلماء وركنهم على الرف.

***

بقلم: أحمد شهاب

في المثقف اليوم