آراء

المشهد السياسي في العراق.. من الانسداد الى التدوير

تعمم مصطلح "الانسداد السياسي" على فترة غالبت العامين في تاريخ العراق القريب، (استمرت من اواخر عام 2019  وتصاعدت بقوة بعد انتخابات تشرين اول/ اكتوبر 2021) بعد حراك شعبي واسع في المدن العراقية، وسط وجنوب والعاصمة، اسقط حكومة معيّنة (حكومة عادل عبد المهدي) وجاء بحكومة اخرى (حكومة مصطفى الكاظمي)، مؤقتة، كلفت بمهمة اجراء انتخابات وتنفيذ مطالب الشعب بالاصلاح وربما بالتغيير. واصبح الانسداد السياسي عبئا ثقيلا على الجميع، الكتل السياسية وقواها المتنفذة والشارع السياسي ومؤسسات الدولة التي تحمل اسما لها دون معناه الحقيقي، مجلس الشعب، البرلمان، مؤسسات الرئاسات، او السلطات، حتى القضائية والصحافة واضرابها. وحصل هذا الانسداد او ما اطلق  عليه كذلك بسبب فشل من تصدى للعملية السياسية التي تشكلت بعد غزو واحتلال العراق عام 2003  في ادارة الدولة وبنائها بما يخدم الشعب ويحمي الوطن، بينما نجحت الادارات التي احتلت العراق في هندسة ما يجري حاليا، ضمن خططها في مرحلية التدمير والخراب، من التقسيم المكوناتي الى التشطير الاثني والطائفي والجغرافي للعراق والى منهجية المحاصصات وتكريس سياسات الفساد والافساد والزبائنية والرهانات التخادمية مع المشروع الرئيس للاحتلال والاختلال في العراق.

 شيوع الطابع المحاصصاتي، الاثني والطائفي، على العملية السياسية، مهدت له او خططت إدارات الغزو والاحتلال للعراق له، ووضعته في اطار مشروعها في تفتيت الشعب العراقي و"أقلمة" الوطن، بالعمل على تقسيم المقسّم وتجزيء المجزّأ، في ظروفٍ مركّبة وحالات معقّدة، اختلطت فيها الأوراق وتباينت فيها المواقف وغابت الرؤى السليمة وآفاق العمل الوطني لبناء دولة قانون، وإصلاح ما حل بالوطن والشعب من نكبات لا توصف طيلة العقود الأخيرة من القرن الماضي، وامتدادا لما مرَّ به من بعده. واستمرّت هذه الأحوال، بل وتدهورت نحو الأسوأ، مما كانت عليه تحت شعارات وبرامج لا تخدم المصالح الوطنية ولا تعد بأفضل مما كان، وأدّت تلك الإدارات وأجهزتها والمتخادمون معها، في الداخل ومن الخارج، أدوارا خطيرة فيها، سرا وعلنا. وصولا الى فترة الانسداد السياسي والتهديدات بسيناريوات خطيرة، وصلت حد النزول المسلح للشارع و"احتلال" بناية مجلس الشعب والمنطقة التي تسمى خضراء، وتتواجد فيها السفارات الاجنية، وخاصة سفارات الدول الغازية والمحتلة، ومنها اكبر بناية لسفارة امريكية في العالم الى حد الان، ودوائر الدولة المركزية الرئيسية. وكادت تتحول الامور الى السيناريو المخطط له كمرحلة محسومة لمراحل المخططات الغربية للعراق، مرحلة الحرب الاهلية، الداخلية، حرق الاخضر واليابس. هكذا وصلت الامور الى الحافة، وتحقق شعار الاحتلال الرئيسي، الصدمة والرعب. واصبحت تلك الايام والاحداث نقطة فاصلة في تاريخ العراق.

مقارنة التحولات والتطورات منذ الغزو والاحتلال عام 2003 وحتى اليوم، تقدم نتائج سلبية، ومخيبة لآمال الشعب وانتظاره الطويل. لا آفاق مثمرة فيه ولا مصالح حقيقية ترتجى منه، وكل ما يمكن الإشارة إليه في ما يقارب العقدين من الزمن لا يعطي ما يؤمل أو يرتجى، فالواقع يسير من سلب إلى آخر: لا خدمات أساسية ولا قانونا يحترم ولا إعادة بناء بمنجزات تسجل، بل تكرست آفات جديدة، تلخصت بالمحاصصة الدينية والطائفية والعرقية، وشيوع الفساد والمحسوبية والزبائنية والمناطقية، والتهديد بعواقب ما يجري اليوم في المشهد السياسي. وإذا كانت مخططات المشروع الصهيو أمريكي/ غربي، قد تمكنت من تكريس تقسيم الشعب العراقي إلى مكونات "شيعة وسنة وأكراد"، وإلغاء أو تهميش هويته القومية والدينية، ووضعها ضمن أهدافها الأولى، مرحليا، وزرعها في الواقع السياسي، قانونا وعرفا، وتوثيق إدارته على أساسها، انتقلت إلى أهداف أخرى تتوازى مع ما سبق، كمرحلة ثانية، ولكن بشكل يزيد من المحنة ويعمق من الفتنة، حيث فعلت ما يؤمن لأهدافها وقائع أخرى، فتم تجزيء المكونات وتقسيمها إلى أطراف متصارعة، متنافسة، وصولا إلى متحاربة بينيا، داخليا، ومن ثم التوجه خارجيا، حسب المخططات، مع المكونات الأخرى، على امتداد مساحة الوطن وصناعة امكانات انطلاق شرارات منها خارج الحدود، إلى المنطقة لتأمين الأهداف الفعلية المرسومة منها والمتغافل عنها مصلحيا وذاتيا وغياب وعي حقيقي، كمرحلة ثالثة. ولعل تجميد اندلاعها بالسرعة الموجهة إليها يكشف عن وجود ضغوط تشترك في تخوفها من تداعياتها عليها وتأثيراتها على ما هو أبعد منها، إقليميا ودوليا، وعلى صعد مختلفة (مصادر الطاقة أبرزها) تعيش حاليا أوضاعا مؤثرة، فأصبح داخل كل مكون نزاع بين طرفين أو أكثر من طرف، يزعم تمثيل المكون، ويدفع إلى تأطير نفسه مقابل "ضده"، شريكه أو شقيقه، الداخلي متنافسا بقوة معه دون حسابات واقعية أو مصالح وطنية عامة، وحتى مصالح المكون نفسه. وكأن التطورات، ولاسيما الخلافات والصراعات، التي جمدت مؤقتا قدر نازل على الشعب، او هكذا اريد له، لعنة تاريخ دموي لم تتوقف. وتعبير عن فقدان الوعي الوطني والتاريخي في تحمل المسؤولية الوطنية والتاريخية، والاستفادة من التجارب الشعبية ودروس التاريخ وبناء الدول.

لقد نتجت عن انتخابات تشرين" المبكرة" اسباب اضافية للانسداد، وما تلاها من تفاعلات وخطوات متناقضة بين القوى السياسية، التي فازت او خسرت موقعها في البرلمان، (وحصتها من كعكة السلطة، كما يعبرون عنها في حواراتهم المتلفزة جميعا) وما تنفذ منها قاد الى تلك النقطة السوداء في المشهد والناريخ. واخيرا كأن "ساحرا" حل العقد ورسم ضوءا ضعيفا في نهاية نفق الانسداد، حيث اقتنعت كل القوى السياسية بكارثة النهايات دون الوصول الى الحلول الدستورية والعودة اليها سبيلا مؤقتا على الاقل وتحمل مسؤولية استمرار العملية السياسية التي بنيت باشتراكها فيها. فتفككت التحالفات المؤقتة، (تحالف بناء وطن، بين التيار الصدري والحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة، اعلى الفائزين بمقاعد برلمانية..) ومسمياتها وتشكلت تحالفات اخرى منها ومع الطرف الثاني في الكتلة الاكبر للمكون الاكبر في العراق، الاطار التنسيقي باطرافه الرئيسية وحلفائه من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني وكتلة عزم ومستقلين، (والتحالف الجديد، تحالف ادارة الدولة، جمع اضافة الى الاطار وحلفائه، اطراف التحالف السابق ما عدا التيار، الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة) وبضغوط متعددة الاتجاهات والتوجهات والوسائل، اسهمت فيها انشغالات اكبر منها، اقليميا وعالميا، ودفعت سحر " الساحر" الى عودة جلسات البرلمان (من ممثلي كل الكتل والقوى السياسية التي اشتركت في الانتخابات المبكرة، عدا ممثلي التيار الصدري الذين تم سحبهم من البرلمان وتحريك الشارع السياسي بعده..)  و" انتخاب" او تعيين رئيس للجمهورية، عبد اللطيف رشيد، (يوم 2022/10/13) وقيامه بالادوار المرسومة له دستوريا، بتكليف رئيس وزراء، محمد شياع السوداني، مسمى من التحالف الاكبر وانجاز تشكيل مجلس وزراء بفترة مقبولة، تعويضية عن هدر الزمن والمسؤولية الوطنية، (نالت ثقة البرلمان يوم 2022/10/27)والبدء بما بعد تلك المرحلة الخطيرة. وطبيعي تاتي هذه الخطوات بعد تلك الفترة وستواجه تحديات وعقبات وملفات متنوعة،  تكررت في كل تغير او تشكل لحكومة وبرلمان اضافة الى التركة الثقيلة من اجراءات وتصرفات الحكومات السابقة، وخاصة المنتهية ولايتها، والتي ختمت عهدها بفضيحة سرقة القرن، وتفاقم الفساد المالي والاداري واستمرار نقص الخدمات العامة وتشوه هيبة الدولة واستقلالها السياسي.

أعلن رئيس الحكومة المكلف محمد شياع السوداني، مرشح الاطار التنسيقي وتحالف ادارة الدولة، عزمه تشكيل حكومة قوية. وأشار إلى سعيه لإجراء انتخابات محلية ونيابية. وقال السوداني في كلمة متلفزة، "تسلمنا تكليفنا بتشكيل الحكومة العراقية الجديدة من رئيس الجمهورية عبداللطيف رشيد"، معلناً استعداده التام "للتعاون مع جميع القوى السياسية والمكونات المجتمعية، سواء الممثلة في مجلس النواب أو الماثلة في الفضاء الوطني، فالمسؤولية تضامنية يتحملها الجميع، من قوى سياسية ومنظمات مهنية وقطاعية ونخب وكفاءات وقادة رأي". واكد السوداني "لن نسمح بالإقصاء والتهميش في سياساتنا، فالخلافات صدعت مؤسسات الدولة وضيعت كثيراً من الفرص على العراقيين في التنمية والبناء والإعمار"، مضيفاً "هنا أعلن الرغبة الجادة في فتح باب الحوار الحقيقي والهادف، لبدء صفحة جديدة في العمل لخدمة أبناء شعبنا وتخفيف معاناته بتعزيز الوحدة الوطنية، ونبذ الفرقة، وشطب خطاب الكراهية". وأكمل "سأبذل قصارى جهدي في تأليف حكومة قوية وعازمة على تنفيذ أهدافها وبرنامجها من خلال تآزر القوى السياسية بترشيح شخصيات كفؤة ومهنية ونزيهة قادرة على إنجاز مسؤولياتها"، مؤكداً أن "انتظار شعبنا لهذه اللحظة المهمة قد طال كثيراً، وأثقل كاهله وزاد من معاناته، خصوصاً أبناء الطبقتين الوسطى والفقيرة اللتين كانتا الأكثر تضرراً خلال السنوات الماضية". وزاد أن "عملنا سيبدأ من ساعات التكليف الأولى وفق برنامج حكومي واقعي يتبنى إصلاحات اقتصادية تستهدف تنشيط قطاعات الصناعة والزراعة ودعم القطاع الخاص وتنويع مصادر الدخل ومعالجة الآثار البيئية والتصحر والتغير المناخي وحماية الموارد المائية".

في الخلاصة، هذه وعود ويبقى تنفيذها هو المحك، والمؤشر الى انفراجة من الانسداد عبر تدويره مؤقتا، والعزم على مواجهة الازمات المتوالدة منه، ولا سيما تقاسم المصالح وكعكة السلطة المكتنزة بالثروات التي اصبحت تعد بالمليارات وليس بالملايين من العملات الاجنبية، والايام حبلى.

***

كاظم الموسوي

في المثقف اليوم