آراء

ما أفسده النظامان في الشخصية العراقية وما أحيته البصرة

نقصد بالنظامين: الدكتاتوري زمن الرئيس صدام حسين، والديمقراطي بعد عام 2003.

والهدف من هذه المقالة ينطلق من حقيقة ان الامور في السياسة والمجتمع لن تستقيم ما لم تكن اولى مهماتنا اصلاح ما افسده هذان النظامان في الشخصية العراقية، واستثمار ما احدثه خليجي البصرة فيها، فضلا عن ان في هذه النصوص شهادات لاحداث تهم المؤرخين المعنيين بتاريخ العراق الحديث، وتوثيق للأجيال يلتقطون العبرة منها.

الشخصية العراقية زمن النظام الدكتاتوري

بدءا من العام 1980، رصدنا التحولات التي حصلت في الشخصية العراقية فوجدنا انها توزعت بين اربعة انواع، هي:

النمط السادي:

تجسدت السادية بأقبح وأفضع اشكالها في شخصية الرئيس العراقي السابق صدام حسين، بتعمده ذمّ الآخرين وازدرائهم، والتقاط عيوبهم، وتحقيرهم، والبحث عن أخطائهم وتضخيمها من أجل معاقبتهم بشدّة، فضلا عن دوافع تسيطر على السادي وتدفعه قسرا إلى تدمير سعادة الآخرين وتبديد آمالهم.

والحق، ان صدام حسين ما كان أول حاكم سادي في العراق، فالسلطة في هذا البلد مارست عبر أكثر من ألف سنة مختلف الأساليب التي تجعل الناس ينظرون إلى " الخضوع " بوصفه حقا للراعي وواجبا على الرعية، وأن عليها أن تتقبل آلامها ولا تشكوها حتى لأنفسهم، ليتحقق من خلالها ( معادل نفسي ) طرفاه "السادية " و"المازوشية " يمنح السلطة الشعور بالاطمئنان على ديمومتها.

النمط المازوشي

بدأ تدجين العراقيين على السلوك المازوشي في سبعينيات القرن الماضي، آخذا شكل الترغيب والترهيب للانتماء إلى حزب البعث، ثم الإجبار على الالتحاق بالجيش الشعبي وعسكرة الناس الذي يعدّ من أعلى الممارسات في (معادل) السادي – المازوشي بين السلطة ورعاياها، والمبالغة في أساليب إذلال الناس وتحقيرهم، أقساها..أخذ ثمن الطلقات من أهل المعدوم الذي تم بها قتله، وعدم السماح بإقامة مجالس العزاء للذين تعدمهم السلطة، اوصلت الفرد العراقي إلى أقصى حالات اليأس المتمثلة بتوليد يقين لديه بأن تقرير مصيره بيد السلطة وحدها.

الشخصية المتمردة (الثورية)

تمثلت هذه الشخصية بمعارضين للنظام الدكتاتوري باختلاف انتمائاتهم السياسية (شيوعيين، وطنيين، اسلاميين..) احتموا بجبال العراق واهواره او غادره.

وما حصل هو أن المبالغة في ممارسة السادية من قبل السلطة، نجم عنها مبالغة في ممارسة المازوشية بين الناس، وكبت ملأ الحوصلة، وحقد يغلي من الداخل ينتظر لحظة الانفجار ليشفي غليله في انتقام بشع..وقد حصل!..من قبل الشخصية المتمردة (الثورية) التي اوجدها ذلك النظام بين أفراد الأسر المنكوبة بضحاياها بشكل خاص.فلقد شهدت بأم عيني كيف وضعوا اطارات السيارات حول رقاب بعثيين وأحرقوهم وهم احياء بعد هزيمة الجيش العراقي في غزو الكويت 1991.

الشخصية المقهورة

في كتابه الممتع لعالم النفس اللبناني مصطفى حجازي يصف الانسان المقهور بانه المسحوق امام القوة التي يفرضها الحاكم المستبد فلا يجد من مكانة له في علاقة التسلط العنفي هذه سوى الرضوخ والتبعية والوقوع في الدونية كقدر مفروض..ومن هنا شيوع تصرفات التزلف والاستزلام والمبالغة في تعظيم السيد اتقاء لشرّه او طمعا في رضاه، وهذا ما حصل، فلقد انتج النظام الدكتاتوري اشد انواع الشخصية سلبية هي (الشخصية المقهورة).ونجم عنها مفارقة سيكولوجية تمثلت بتغذية نرجسية الحاكم(صدام) وتضخيم اناه، وتحقير المقهور لنفسه والاستكانة والاستسلام والتبخيس او الحط من قيمته كانسان يعاني كل انواع الحرمان.

الشخصية العراقية زمن النظام الديمقراطي

في زمن الحكم السياسي الطائفي، استعادت (ش.ع) بقوة ممارسة ما تطبعت به من طبائع التعصب والتحيز والتطرف وعدم احترام الرأي الاخر، وزاد عليها غلبة التفكير الخرافي والقدري والدوغماتي (الانغلاق الفكري) في تعاملها مع مشاكلها الحياتية.وصارت تعيش بداخلها حالة خوف من المجهول مصحوبة بتملق او خنوع للحاكم الطائفي..والأخطر سياسيا، فقدانها لعراقيتها الوطنية وخضوعها لتعزيزالحكّام الطائفيين:التعصب للهويات الفرعية، الطائفية، العرقية، العشائرية، المناطقية، الذي كان موجودا فيها قبل التغيير 2003، لكن اعراضه ما كانت حادة..الى انفجاره بعنوان جديد هو صراع الهويات في احتراب(2006- 2008) كانت ضحاياه عشرات الألاف من الأبرياء، وفيه اوصلوا العراقي الى أن يقتل أخاه العراقي لسبب في منتهى السخافة ما اذا كان اسمه حيدر أو عمر أو رزكار.

وأخلاقيا، تتصف الشخصية العراقية بالتزامها بالعبادات (صلاة، صوم..) ولا تلتزم بالقيم الدينية كالصدق وقول الحق، غير انها كانت تمارسه على استحياء فيما صارت تمارسه علنا زمن الطائفية. والسبب، أن الحكومات والبرلمان، اشاعت فسادا فاحشا وصيّروه من فعل كان يعدّ حراما الى شطارة وانتهاز فرصة. والأقبح:تبادل اتهامات الفساد بين معممين، وتناقض افعال مسؤولين (دينيين)في السلطة مع اقوالهم، اوصلت العراقي لحوار داخلي:(اذا اهل الدين " القدوة" ما ملتزمين بالقيم الدينية فما الذي يدعوني الى الالتزام بها وقد ضاقت بنا السبل)..نجم عنها انها (خدّرت) الضمير الديني ايضا فشاع لديه الكذب، النفاق، التزلف، واللاحياء.

ما أحدثه خليجي البصرة في الشخصية العراقية

كشفت متابعتنا اليومية لجماهير المشجعين ان مونديال البصرة احدث تأثيرات في الشخصية العراقية، نوجزها بالآتي:

- سيكولوجيا: اشاع الفرح وروى على مدى اسبوعين عطش العراقيين للمتعة، لدرجة أن البصريين افادوا بأن (الفرح بدد الكثير من الاوجاع، حتى عيادات الاطباء امست فارغة). واثبت الحدث ان العلاقة بين العراقي والوطن كعلاقة العاشق بمعشوقته..يحبه ويفديه بروحه.

- اجتماعيا: كانت فرصة استثنائية لتجمعات جماهيرية التقى فيها العراقيون باختلاف مكوناتهم الأجتماعية في مدينة واحدة يجمعهم حدث ممتع احيا تقاليد اصيلة في الشخصية العراقية، اروعها..أن الآف العراقيين في مدرجات الملاعب، باختلاف دياناتهم وانتماءاتهم.. كانوا يرددون (بالروح بالدم نفديك يا عراق).

- وطنيا: عكست صورة ايجابية عن العراق عجز عنها السياسيون، و كشفت عن حجم المحبة التي يحملها العراقيون لاشقائهم العرب في الخليج، ما دفعهم عبر فضائياتهم الى أن يتغنوا بالعراق (سلام عليك، على رافديك يا عراق القيم..فانت مزار وحصن ودار لكل الامم.. فبغداد تكتب مجد العظام وما جف بها مداد القلم).

- سياسيا: أحيت الهوية الوطنية وأنعشت الشعور بالأنتماء للعراق اللتين اماتهما السياسيون الطائفيون بأشاعتهم الهويات الفرعية القاتلة وثقافة القطيع التي تديم بقاءهم للأستفراد بالسلطة والثروة.

وما حدث في خليجي البصرة هو احياء لوثبة تشرين 2019، فكلاهما ينشدان (استعادة وطن) ولكن بطريقتين مختلفتين..سياسية في تشرين و رياضية في خليجي 25.وكلاهما احيا ما هو جميل في الشخصية العراقية، لكن حدث البصرة أشاع تفاؤلا بعد يأس عقب قمع الوثبة، في بشرى واعدة ان العراقيين سيتوحدون ويعيدون لأربعين مليونا اليقين بأنهم قادرون على خلق غد يليق بوطن يمتلك كل المقومات لأن يعيش اهله برفاهية وكرامة.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية 

 

في المثقف اليوم