آراء

سياسة الأمر الواقع على بساط البحث التاريخي

ما نقصده هو سياسة التعامل مع بريطانيا بإعتبارها واقعاً لا بُدّ منه في أعقاب الحرب العالمية الأولى 1914 ـ  1918 وسقوط الإمبراطورية العثمانية "الرجل المريض". وهي سياسة إتبعها الهاشميون ـ أبناء شريف مكة ـ وسار عليها تلامذتهم بإخلاص، وأفضل من مَثّلها من هؤلاء التلامذة في العراق هو الباشا نوري السعيد.

كانت الدولة العثمانية تَتَرَنّحُ منذ فترة طويلة، والذي أمَدّ في عمرها هو رغبة الدول الكبرى، إذ لم تحن بعد ساعة موتها بحسب معاييرهم الإمبريالية.

أشعل شريف مكة الحسين نار الثورة ضد العثمانيين في عام 1916 بمساندة من الحلفاء وخصوصاً بريطانيا. وقد قَدّم الحلفاء للعرب وعوداً بالحصول على الإستقلال بعد الإنتصار ونهاية الحرب، لكنها كانت سراباً! وإتفاقية سايكس بيكو خير دليل على ذلك. ففي الوقت الذي حارب فيه العرب بتفانٍ بجانب الحلفاء ضد العثمانيين، كان الحلفاء يُقسّمون الأسلاب فيما بينهم! فإتفاقية سايكس بيكو (وثيقة مفجعة، ناتج الجشع في أبشع صوره، جزء مرعب من السياسة المزدوجة) بحسب جورج أنطونيوس كما نُقل عنه في:

فيليب نايتلي وكولن سمبسون: خفايا حياة لورنس العرب، مركز طروس للنشر والتوزيع الكويت ط1 2020 ص97

وقد ربط فيصل نفسه وثيقاً ب"لورنس العرب" الى نهاية الثورة العربية. المصدر السابق ص94، والمثير في الأمر هنا أن أهداف الرجلين كانت متعارضة! فقد ظن فيصل أنه يستطيع أن يستخدم لورنس في مدّ موجة إستقلال العرب في الشرق الأوسط. وكان لورنس متأكداً هو الآخر أنه يستطيع أن يستخدم فيصل في تفتيت الكتلة الإسلامية وتقوية السيطرة البريطانية في الشرق الأوسط. أهداف متعارضة ما كان لها إلاّ أن تؤدي الى كارثة. المصدر السابق ص90

هل كان لورنس أميناً مع فيصل والعرب؟ سَلّطَ الباحثان ـ نايتلي وسمبسون ـ الضوء على ذلك:

(فقد وضح الآن أنه خلافاً للعلاقة العاطفية العميقة نحو العرب، لم يكن لورنس ليهتم بالعرب كشعب، وأنه بدلاً من أن يُكَرّس نفسه لوحدة قبائلهم المنشقة على نفسها لكي تصبح أمة عربية موحدة، كان يؤمن بأن مصلحة بريطانيا أن يبقى الشرق الأوسط منقسماً على نفسه، وأنه وهو يُباعد نفسه عن متابعة قضية العرب وحقهم في الحرية والإستقلال، كان عاقداً العزم على جعل البلاد العربية جزءاً من الإمبراطورية البريطانية) المصدر السابق ص10

وكان هَمّ لورنس محصوراً في مناوأة النفوذ الفرنسي في الشرق الأوسط، فعمل ترتيباً لكي تقوم اليهودية العالمية بتمويل فيصل، بل تمويل العرب جميعهم بفائدة 6% (وقد لعبت الدسيسة التي إحتواها هذا المخطط دوراً في خلق إسرائيل لا يمكن أن يُقال: إن نتيجته كانت في مصلحة العرب. لم ينسحب لورنس من الحياة العامة بعد الحرب، لأنه أحس بأن العرب قد غُدر بهم، ولكنه إنسحب لأنه شعر بالضيق بعد أن نُبذ مشروعه للشرق الأوسط وفُضّل عليه مشروع غيره، ولم يكن هناك إختلاف جوهري بين المشروعين في الأمور التي تهم العرب، فقد حرم كُلّ من المشروعين العرب من الإستقلال الحقيقي) المصدر السابق ص11

ولورنس "لم يكن أميناً" مع فيصل في الترجمة بشأن إتفاقية فيصل ـ حاييم ـ لورنس. فقد إجتمع فيصل مع الزعيم الصهيوني د. حاييم وايزمان، وخرجوا بإتفاقية نجد فيها "عدم أمانة لورنس" بشكل عام، فقد حَرّف لورنس نص العبارة العربية التي كتبها فيصل. يُنظَر:

محمد مظفر الأدهمي: الملك فيصل الأول / حياته السياسية وظروف مماته الغامضة ـ دراسة وثائقية، الذاكرة للنشر والتوزيع بغداد ط1 2019 ص48 و 49

وهذا ما أشار إليه نايتلي وسمبسون أيضاً (وتوجد إختلافات بين ترجمة لورنس وتلك التي عُملت فيما بعد بمعرفة "أنطونيوس") المصدر السابق ص161

أما في سوريا حين سحقت قوات الجنرال غورو حكومة فيصل، فلم يكن لبريطانيا أن تقف بجانبه ضد حليفتها فرنسا، فكانت التضحية بفيصل "نقطة سوداء في تاريخ عون العرب البريطاني" بحسب وصف إليزابيث مونرو. المصدر السابق ص184

وبشأن عبد الله بن الحسين، فقد إستعمل معه تشرشل وهربرت صوئيل ولورنس "دبلوماسية سريعة متفوقة ساحرة كاملة بالوعود والتهديد والعقاب" في إجتماع بيت المقدس في 1921، وقد تعهّد عبد الله بمنع أي نشاط معادٍ للفرنسيين أو الصهيونيين في الإقليم. ليكتب نايتلي وسمبسون في الحاشية:

(حكم عبد الله حتى عام 1951 عندما أُطلق عليه الرصاص، وتوفي وهو داخل الى المسجد الأقصى في بيت المقدس يرافقه صغيره الملك حسين الحالي، وكان القاتل من أتباع مفتي بيت المقدس السابق الحاج أمين الحسيني الذي إتهم عبد الله بخيانة العرب فيما يتعلق بفلسطين) المصدر السابق ص194 و 195 و196 المتن + الحاشية الأولى في الصفحة الأخيرة.

أما الوالد الكبير الشريف حسين، فقد كانت نهايته مع الدبلوماسية البريطانية مؤلمة حقاً، فقد تنازل عن العرش للملك الظافر إبن سعود ونُفي الى العقبة ثم الى قبرص ليموت في عمّان أخيراً.

(لم يكن هناك شك في أن حسيناً كان رجلاً عجوزاً عنيداً سريع الغضب، يصعب التعامل معه، إلا أن هناك أيضاً قليلاً من الشك في أن بريطانيا عاملته بدناءة، تتملقه وتُعظّمه كلما لائمها ذلك، وتتخلى عنه كلما رفض أن يرضخ) المصدر السابق ص202

وقد سَلطَ المؤرخ الكبير د. كمال مظهر أحمد الضوء على فيصل "الباحث عن العرش في مذكرات لويد جورج"، وخرجَ بإستنتاجاتٍ في غاية الأهمية:

فقد أولى الأمير فيصل البريطانيين ثقة مطلقة غير مُبرّرة، وكان يرى مخالب الذئب جيداً، لكنه ظل مع ذلك وديعاً، ولم يؤمن أبداً بالعمل الثوري  للجماهير كما آمن الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك، ومع إعجابه بالتجربة التركية لكنه لم يعتبر منها، وفيصل كان مسؤولاً عن شَلّ الحركة الوطنية في سوريا.

كمال مظهر أحمد: أضواء على قضايا دولية في  الشرق الأوسط، الجمهورية العراقية ـ وزارة الثقافة والفنون 1978 ص141 الى 195

لنفحص الآن هذه السياسة "سياسة الأمر الواقع"، هل كانت سياسة ناجعة "واقعية"؟

بعد المعطيات أعلاه تَبيّن أنها لم ناجعة! كذبٌ وخداع ومراوغة وزرع لأسرائيل من جانب بريطانيا! وهذا ما دفع قائد ثورة العرب في 1916 الشريف حسين الى أن "يتأسف أشد الأسف لإشعاله الثورة العربية"! ضد العثمانيين. نايتلي وسمبسون: نفس المصدر والصفحة.

وفي قراءة عميقة وحفر دقيق تَوَصّل نايتلي وسمبسون الى:

(لقد جلبت التسوية مظهراً من مظاهر النظام، ولكن الوقت أظهر أنها إنما أرجأت الحساب فقط، وكما رأينا، إمتد العمر بأسرة فيصل في العراق حتى عام 1958، عندما قُتل فيصل الثاني بأيدي الثوار، كما قُتل عبد الله بسبب مسألة اليهود في فلسطين عام 1951، إلاّ أن حفيده الملك حسيناً الحالي ما زال يحكم بصورة قلقة في الأردن، تلك الدولة التي خلقها تشرشل ولورنس، وإحتفظت بريطانيا بإنتدابها على فلسطين حتى عام 1948 عندما إضطرت للتخلي عنه، وظهرت دولة إسرائيل الى الوجود. إن المنطقة بأسرها وقد تحطّمت من الغم الموروث من "المغامرة الشرقية أيام الحرب" ما زالت تعرض نفس الصورة المكتئبة المزعجة التي رآها تشرشل في عام 1921) المصدر السابق ص203

ما إنفكّ الباشا نوري السعيد عن ترديد هذه السياسة، أي الإتكاء على بريطانيا كقوة عظمى على أرض الواقع. ولو سَلّمنا جدلاً معه بصحة ما إدّعاه، وتركنا جانباً ما أثبتناه في أعلاه، نقول:

ألا يحق لنا أن نتحفّظ على هذه "السياسة السعيدية"؟! فقد ردّدها الباشا منذ بداية تأسيس الدولة العراقية الى أن أطاحت به ثورة تموز في 1958!

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

في المثقف اليوم