آراء

14 تموز 1958 يومٌ خالدٌ في تاريخ العراق المعاصر

هو اليوم الذي حصلت فيه الثورة التي أطاحت بالنظام الملكي وأقامت الجمهورية. وقد بدأ ـ خصوصاً في الآونة الأخيرة ـ تيار يحاول التقليل من أهمية هذه الثورة، بل يُحَمّلها ما جرى من مآسٍ قادت العراق الى وضع ما بعد 2003. ونحن بدورنا نختلف مع هؤلاء في نظرتهم، ونعتبرها "قراءة قاصرة" لا تُدرك معنى "الثورة". (وفي النهاية فأن الثورة عبارة عن شأنٍ فظٍ وقاسٍ وعنيف، في جزء منها على الأقل) (1) ولهذا السبب أقدمنا على كتابة هذا المقال، للمساهمة في رفع الغشاوة عن هذا الحدث الكبير.

لا يُكلّف البعض أنفسهم لقراءة "الأسباب الموضوعية" التي قادت الى الثورة، فهُم يُرَكّزون على الأحداث بعيداً عن إدراك عِلَلِها! بينما (القراءة الأمثل للتاريخ هي ليست "ماذا حدث" وإنما "لماذا حدث") (2) فقبل أن ينتقد هؤلاء الثورة ورجالها، كان عليهم قراءة الأسباب التي أدت إليها! فهي لم تحدث في الفضاء! إذ لم يضغط الزعيم عبد الكريم قاسم على الزناد وحدثت الثورة! وهي لم تكن عملاً عسكرياً فقط كما يُشاع! فلها جناح سياسي معارض، والسبب الذي دفع العسكر للتحرك قد ذكره زعيم الثورة عبد الكريم قاسم صراحة في 9 آب 1958 (لو إعتقدنا أن بإستطاعة الشعب أن يزيل كابوس الظلم "الجاثم على صدره" لما تَدَخَلنا بالقوة المسلحة، ولكننا كنا نعرف أن الناس يائسين ولا من يدافع عنهم) (3)

أما عن الجناح السياسي المعارض، فقد كان جناحاً عريضاً تمثّل في "جبهة الإتحاد الوطني" التي تكونت في أوائل شباط سنة 1957 من: حزب الإستقلال ـ الحزب الوطني الديمقراطي ـ حزب البعث العربي الإشتراكي ـ الحزب الشيوعي العراقي (4) وعليه فعلى المرء أن ينظر نظرة أوسع أفقاً الى الأشياء كما ذكر حنّا بطاطو (وعلى المرء كذلك، وعلى الأقل، أن يضع أحداث 14 تموز "يوليو" في إطارها التاريخي الطبيعي. وبهذا المنظور، تبدو هذه الأحداث وكأنها ذروة نضال جيل كامل من الطبقات الوسطى والوسطى الدنيا والعاملة، وأوج ميل ثوري كامل ومتشرب في الأعماق كانت له تعبيراته التي تمثلت بإنقلاب 1936 والحركة العسكرية 1941 والوثبة 1948 والإنتفاضة 1952 ثم إنتفاضات 1956) (5)

ويقول الأستاذ ليث الزبيدي:

(إن ثورة 14 تموز 1958 ليست وليدة الصدفة المحضة، ولا حركة إعتباطية دفعت بها ظروف عارضة، وإنما هي تاريخياً حصيلة نضال طويل ومرير خاضه الشعب العراقي منذ أن قام ما يسمى بالحكم الأهلي في أعقاب ثورة العشرين المجيدة) (6) وعلينا أن لا نغفل عن حقيقة في غاية الأهمية، ألا وهي أن ثورة تموز قد جعلت العراق يُحكَم ولأول مرة من قِبَلِ بنيه دون سلطان خارجي (7)

قبل أن ننتقل للحديث عن أسباب الثورة، لا بُدّ من المرور السريع على "النظام الملكي العراقي"، هذا النظام الذي "يتباكى" عليه الكثير من العراقيين الآن! وكأنه كان عهداً ذهبياً!

عندما نتحدث عن "الملكية العراقية"، فلا بُدّ من تقسيها. فهناك "الفترة التأسيسية" وهي فترة حكم الملك فيصل الأول 1921 الى 1933. وجاءت بعدها  فترة ولده الملك غازي "الملك الشعبي" 1933 الى 1939. ثم فترة الملك الصغير فيصل الثاني "الشاذة" 1939 الى 1958، وجاء شذوذها من أن الملك كان صغيراً، فصار خاله عبد الإله وصياً عليه، وفترة الوصاية هي الفترة التي قادت الملكية العراقية الى الإنهيار.

ولكي لا يُزايد علينا أحدٌ هنا، ويتهمنا ب"الجمهورية" والتقليل من أهمية إنجازات الملكية، نقول:

إن شخصية الملك فيصل الأول كانت شخصية فَذّة، وأن دورها القيادي في العراق وسيرها بالمملكة التي أقامها من عالم مجهول الى آخرٍ دولي مرموق، تكاد تكون أقرب الى الخيال منها الى الحقيقة (8)

ولكننا أيضاً مع من يقول:

(وما كان لذلك النظام من الحكم أن ينهار في العراق بمثل تلك السرعة، لولا الحوادث المؤسفة التي أدت الى مقتل الملك غازي في ليلة الرابع من شهر نيسان 1939، وما أعقبها من تدابير شاذة في إسناد منصب الوصاية على الملك الجديد الى خاله الأمير عبد  الإله، الذي كرهه الشعب العراقي، وكره ديكتاتوريته السافرة، وحكمه للبلاد حكماً تعسفياً لفت إليه نظر البعيد قبل القريب، وجعل الناس يتمنون زواله بأقرب فرصة ممكنة) (9)

أسباب الثورة:

كثيرةٌ هي الأسباب التي قادت الى ثورة تموز، وقد كُتِبَ الكثير عنها، ونحن بدورنا سنحاول ضغطها للخروج بها مُجمَلَةً مُكَثّفَة، وسنُرَكّزُ على السببين الآتيين:

1ـ السبب السياسي:

أُنشئت الدولة العراقية على أساسٍ هزيلٍ واهٍ، فقد جاءت في أعقاب إقتسام الدول الإستعمارية الكبرى لممتلكات الدولة العثمانية "الرجل المريض". وقد قام النظام الملكي على أركان ثلاثة هي: السيطرة البريطانية والبورجوازية الكبيرة  والإقطاع (10)

أما عن "النظام البرلماني" الذي يتبجح به الكثير الآن، بحجة أن "التعددية" كانت موجودة في العراق الملكي، بخلاف العراق الجمهوري. فهل كانت فعلاً نظاماً برلمانياً ناجحاً؟

(ونتيجة لهيمنة الملك الهاشمي في العراق، فقد كان النظام البرلماني العراقي "برلمانية منحرفة لمصلحة رئيس الدولة" (11) كالبرلمانية الأورليانية والدكولية والفايمارية والناصرية. ولهذا يمكن أن نطلق على النظام البرلماني العراقي إسم "البرلمانية الهاشمية"، أسوة بالتسميات التي أُطلقت على الأنظمة البرلمانية التي هيمن فيها رئيس الدولة في كل من فرنسا وألمانيا ومصر) (12) وكانت الإنتخابات مزيفة، وهي أقرب الى التعيين، وفي خطاب صريح جداً للباشا نوري السعيد داخل مجلس النواب في جلسة 15 كانون الثاني 1944، توجّه للنواب مُتحدياً:

(إن نظام الحكم يقضي بإجراء إنتخابات في المملكة، وللشعب أن ينتخب من يعتمد عليه ليراقب، ويسيطر على أمور الدولة. هذا هو أساس الحكم. ولكن بالنظر الى قانون الإنتخابات الموجود بأيدينا هل في الإمكان، أناشدكم بالله، أن يخرج أحد نائباً مهما كانت منزلته في البلاد، ومهما كانت خدماته في الدولة ما لم تأتِ الحكومة وتُرشحه. فأنا أُراهن كل شخص يَدّعي بمركزه ووطنيته، فليستقل الآن، ويخرج ونعيد الإنتخابات ولا نُدخله في قائمة الحكومة، ونرى هل هذا النائب الرفيع المنزلة الذي وراءه ما وراءه من المؤيدين، يستطيع أن يخرج نائباً؟) (13)

وبِغَض النظر عن حُسن نية الملك فيصل الأول، فهناك من يرى ـ جماعة الأهالي ـ أن فيصل، وبالإتفاق مع الحكومة البريطانية، كان السبب الرئيس وراء إنحراف سير الدولة العراقية الحديثة عن الديموقراطية الصحيحة، بسبب تدخله في إنتخابات المجالس النيابية منذ قيام المجلس التأسيسي، حتى أخر مجلس نيابي في حياته، وبعدها. وعليه فقد مُسخت الحياة الدستورية (14)

وبشأن التكوين الإجتماعي لمجلس النواب، فمنذ تأسيسه حتى 14 تموز 1958 لم يدخله أي نائب من طبقتي العمال والفلاحين بالرغم من أن أكثرية سكان العراق هي من هاتين الطبقتين (15)

أما عن القمع السعيدي فحدّث ولا حرج. فقد قامت حكومة أرشد العمري في 1954 بإجراء إنتخابات نيابية حصلت فيها الجبهة الوطنية على 10 مقاعد، وكان من الممكن أن تحصل على الأكثر لولا التدخلات الحكومية الفاضحة. بينما حصل حزب الإتحاد الدستوري ـ حزب نوري السعيد ـ على 51 مقعداً، وحزب الأمة الإشتراكي ـ حزب صالح جبر ـ على 21 مقعداً (16)

كان الفائزون من الجبهة الوطنية من المعارضين المرموقين منهم: كامل الجادرجي ـ حسين جميل ـ محمد مهدي كبه ـ فائق السامرائي ـ صديق شنشل (17)

لم يُطق نوري السعيد وجود هؤلاء الضئيل في المجلس النيابي، وإشترط حَلّ المجلس لكي يُشَكّل الحكومة، فقبل الملك بشروطه، وقام السعيد بحَلّ المجلس النيابي، وشكّل حكومته "حكومة المراسيم الإرهابية" سيئة الصيت 1954.

فقد نص المرسوم الأول على تجريم كل من جَنّد أو رَوّجَ أيّاً من المذاهب الإشتراكية البلشفية والإلحادية (18)، أما المرسوم الثاني فقد نص على إسقاط الجنسية العراقية عن الشخص المحكوم بالمرسوم الأول (19) إضافة لمراسيم أخرى.

وقد كانت الخمسينات فترة حرجة جداً على النظام الملكي العراقي، فقد قامت ثورة 1952 في مصر، وبرز الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر كقوة يُحسَب لها ألف حساب في الوطن العربي. ولم يكن نوري السعيد قادراً على السيطرة على هذا السلاح الجديد، أي إذاعة صوت العرب في القاهرة، فقد تغلغل في القرية والحقل وتجمعات البدو والثكنات والأقسام الداخلية للطلبة. وقد زاد عدد المعارضين للنظام وتقوضت شرعيته المتبقية (20)

لكن، هل أخذ هذا النظام بحدث كبير كالثورة المصرية على محمل الجد؟ هل حاولوا إصلاح الأوضاع تلافياً لحصول وضع مشابه في العراق؟

عقد البلاط الملكي العراقي مؤتمراً في مساء يوم 3 / 11 / 1952 برئاسة الوصي عبد الإله سبب تأزم الوضع الخارجي الذي أقلق الحكومة العراقية قلقاً شديداً بعد حدوث ثورة يوليو في مصر. وقد حضر للمؤتمر: طه الهاشمي وكامل الجادرجي وصالح جبر ومحمد مهدي كبة ونوري السعيد ومحمد الصدر وجميل المدفعي وتوفيق السويدي وعلي جودة الأيوبي وأرشد العمري وأحمد مختار بابان.

ما يهمنا الآن هو كلام الجنرال طه الهاشمي "رئيس الجبهة الشعبية المتحدة"، وهو رئيس وزراء سابق، وأخ لرئيس الوزراء الراحل ياسين الهاشمي، قال:

إن الأسباب التي أدت الى الإنقلاب في مصر موجودة في العراق، وإذا كانت العوامل متشابهة فلا بُدّ أن تكون النتائج واحدة، وأن القضية قضية زمن إذا لم تجرِ الإصلاحات بصورة جدية في العراق.

إنفعل الوصي عبد الإله وقال: أنت تقول إنه سيقع في العراق مثل ما وقع في مصر، أنا لا أخاف ذلك. ثم إحتد الكلام ودخل الوصي في مشاجرة مع الهاشمي (21)

وعليه فإن الجيل الجديد قد فقد كل أملٍ في التعاون مع الجيل القديم، وراح يُحَرّض الجماهير التي كانت الأجيال القديمة قد إستغلتها زمناً. فقد عجز الجيل القديم عن تهيئة الجيل الجديد ليتحمل معهم أعباء المسؤوليات في شؤون الحكم، وهذا ما دفع بزعماء الجيل الجديد الى إثارة الرأي العام وتأليبه على العهد القائم، وهو ما حرّض الشعب على الثورة (22)

وقد حاول السفير البريطاني ميشيل رايت الضغط على الطبقة الحاكمة للقيام بإصلاحات تتدارك الوضع، لكنه لم يلقَ إذناً صاغية، وهذا ما دفعه الى القول مُنذراً: إذا لم تُنَفّذ الإصلاحات فسلام على الملكية ومشايخ القبائل أيضاً (23)

2ـ السبب الإقتصادي:

من العوامل التي ساعدت على تدهور الإقتصاد العراقي: تبعيته الى الإقتصاد الغربي، وتخلف القطاع الزراعي، والإحتكارات النفطية (24) وعندما نلقي النظر بصورة سريعة على أوضاع أكبر شريحة عراقية، أي الفلاحين، سندرك حجم البؤس والمعاناة التي عاشها هؤلاء المساكين.

كانت مساكنهم حقيرة لا تصلح حتى للحيوانات، وكانت علاقة الفلاح بالأرض ما هي إلا علاقة رجل يعمل في أرض غيره بأجور عينية ويعتمد في حياته على مشيئة صاحب الأرض الذي بإستطاعته أن يطرده من أرضه متى شاء (25) وهذا ما أدى الى الهجرة الواسعة من الريف الى المدينة، فإستقر هؤلاء المساكين حول بغداد في وضع يُرثى له. فهل ستكون التربة مُنتجة في وضعٍ كهذا؟! يقول مونتسيكيو: تكون التربة منتجة إذا كان من يفلحها حُراً أكثر مما إذا كانت تحمل خصوبة طبيعية (26) وعليه فلم يُعطِ البلد للفلاح شيئاً كما ذكر بطاطو (27)

أما عن وضع هؤلاء وأكواخهم البائسة، ففي عام 1956 كانت هناك 16413 صريفة مُجمعة في تسع مناطق، وكانت هذه الصرائف عبارة عن أكواخ يتألف كلٌ منها من غرفة واحدة بُنيت بالقصب والحصير، وكانت تُغطى بالطين خلال الشتاء، وكانت كل صريفة تؤوي ما متوسطه 6، 5 أشخاص، أي أن الصرائف كانت تؤوي ما مجموعه 92173 نسمة (28) وقد وصف الدكتور كريتشلي من كلية طب بغداد في مسحٍ أجراه في عام 1952، وصف حياتهم:

فقد أُقيمت صرائف هؤلاء في موقع كانت تستخدمه بلدية بغداد كمدفن للفضلات البشرية والحيوانية وللنفايات، وكانت الأكواخ سيئة التهوية، مزدحمة، خالية من الترتيبات الصحية، يتغوّط سكانها أينما كان، ويُعتقد أن كل لقمة يتناولها هؤلاء كانت ملوثة، ومعدل وفيات الأطفال فيها لكل 1000 حالة حمل 341 وفاة (29)

فهل تجاوبت الحكومات العراقية مع هؤلاء البؤساء؟ هل قامت بتشريع القوانين التي من شأنها إصلاح الريف وأهله؟ وجد الأستاذ عبد الرزاق الهلالي ـ وهو الخبير في هذا المجال ـ أن الحكومات العراقية الملكية كانت بارعة في التشريع فقط، أما التنفيذ فلا! وعليه فقد زهد الناس بالقوانين (30) ومن الأمور الملفتة للنظر أن العراق الملكي لم يقم بأية محاولة لدراسة موضوع "سوء التغذية"! أما الإهتمام بمياه الشرب فقد كان ضئيلاً تافهاً جداً! (31)

بعد هذا العرض الموجز، هل سيكون قيام الثورة مفاجئاً؟!

ثورة تموز في قفص الإتهام:

يكثر الحديث في أوساط الرافضين لهذه الثورة عن إرتباط هذه الثورة الخارج، مرة تكون مرتبطة ببريطانيا! وأخرى تكون مرتبطة بالولايات المتحدة الأمريكية! ونحن بدورنا نُطالب بدليل دامغ! فقد أصبحت هذه المقولة معزوفة نستمع إليها دائماً! والمؤرخ لا يشتغل إلا على الوثائق، على ما في هذا الإتهام من إستهانة بجهد الجماهير العراقية فضلاً عن التخوين.

1ـ بريطانيا:

نحن لا نتكلم ولا نُطلق الأحكام إلا بعد القراءة والسَبر الدقيقين، وبشأن "إرتباط" الثورة ببريطانيا، فما علينا إلا الرجوع لباحث مختصٍ في هذا المجال، ألا وهو الدكتور مؤيد الونداوي.

في تقريره السنوي الذي قدّمه السفير البريطاني في العراق مايكل رايت لحكومته في عام 1958، وهو ـ برأي الونداوي ـ من أفضل التقارير التي كتبها رايت طوال عمله في بغداد. أساء رايت تقدير الموقف الداخلي، وطمأن حكومته بأنه بالإمكان أن يحافظ النظام الملكي على وضعه من الإنهيار جراء الضغوط الداخلية والخارجية، وقد إعتقد رايت بأن النظام العشائري لا يزال حيّاً وبإمكانه المحافظة على النظام.

أما الجيش فقد إعتقد رايت بأنه قد ترك تماماً ممارساته السابقة بالتدخل في السياسة، وأنه أصبح في عام 1958 لا يُبدي علائم على ذلك (32)

2ـ الولايات المتحدة الأمريكية:

سنرجع هنا الى الدكتور براندون روبرت كينغ، فقد تَعَرض لهذا الموضوع في أطروحته للدكتوراه، والتي قَدّمها الى جامعة تورنتو. يقول كينغ:

(عانى المجتمع الإستخباري الأمريكي من "إخفاق إستخباري"، فقد فشلت عيون وآذان مكتب المخابرات الأمريكية في العراق فشلاً واضحاً في توقّع أحداث الرابع عشر من تموز أو التحذير من وقوعها. وقد كَلّف هذا السهو الأمريكيين حليفاً حيوياً في صراع الحرب الباردة في الشرق الأوسط ضد الإتحاد السوفيتي، وفي الحرب العربية الباردة على الأنظمة العربية المناوئة للغرب)

ويقول:

(يظهر أن النزعة السياسية للجيش العراقي كانت بمثابة المنطقة العمياء لكلٍ من الأجهزة الإستخبارية الأمريكية والعراقية)

أما عن إيمان الأمريكان بقدرة نوري السعيد، فيقول:

(وقد برز تاريخ نوري الطويل في إدارة القمع بروزاً قوياً أيضاً في الحسابات الأمريكية. وكان المراقبون الأمريكيون يؤمنون على نحو متماثل تقريباً بأسطورة سلطة نوري السعيد المطلقة وحكمته وقوة بأسه كزعيم) (33)

وعليه فقد كان العالم الخارجي مطمئناً الى سلامة الحكم في العراق وإستقراره، ولهذا كانت ثورة 14 تموز مفاجأة كاملة للعالم بأسره (34)

فهل من مجال للحديث الآن عن "إرتباط" خارجي!

ثورة تموز وفتحُ الباب أمام الإنقلابات العسكرية:

ديباجةٌ نسمعها دائماً! ثورة تموز فتحت باباً بشعاً على العراق، ألا وهو باب الإنقلابات العسكرية. وبدورنا سنتحقق الآن من هذا الزعم.

يؤسفني أن أُصارح هؤلاء ب"الخطأ التاريخي الفادح" الذي وقعوا فيه! فلم يكن يوم تموز أول إنقلاب عسكري في العراق، بل حدث أول إنقلاب عسكري في العراق والمنطقة في عام 1936، عندما أعلن  الجنرال بكر صدقي زحفه على بغداد في صباح يوم 29 تشرين الأول من السنة المذكورة (35) فسقطت حكومة ياسين الهاشمي، وأقام الجيش حكومة حكمت سليمان.

ثم توالت بعدها التدخلات العسكرية في السياسة الى أن وصلت ذروتها في حركة 1941.

وجدير بنا ونحن نتحدث عن تدخلات العسكر في السياسة، أن نُلقي الضوء على دور الباشا نوري السعيد في هذا المجال. فالمعروف أن الباشا لا يؤيد تدخل الجيش في السياسة، فهل إلتزم بذلك؟

إجتمع العقداء الخمسة في 24 كانون الأول 1938 وهُم: صلاح الدين الصباغ ـ فهمي سعيد ـ محمود سلمان ـ كامل شبيب ـ سعيد يحيى الخياط، إضافة للعقيد عزيز يا ملكي، وقَرّروا إسقاط وزارة جميل المدفعي، وأرسلوا فصيلاً من الجُند لحراسة دار العميد طه الهاشمي، وفصيلاً آخر لحماية دار نوري السعيد.

إستنكر الملك غازي هذه الحركة، وطلب من حكومة المدفعي مرافقته الى كركوك ليلاً لمقاتلة المتمردين في بغداد، لكن المدفعي رفض هذا الطلب (36) والنتيجة نجحت "الحركة الإنقلابية الجريئة" وسقط المدفعي، وجاء نوري السعيد الى سَدّة الوزارة كما طلب الجيش.

يقول السفير البريطاني في العراق موريس بترسون:

(ولكن هناك وجوه كثيرة في عودة نوري باشا السعيد الى الحكم تستدعي القلق، وأولها أن عودته الى السلطة قد أعادت الجيش العراقي مرة أخرى الى التدخل في الشؤون السياسية، التي كان ينبغي أن يكون بعيداً عنها) (37)

ويقول العقيد جرالد دي غوري:

(وهكذا وصل نوري السعيد، الذي كان يتَشَكّى بمرارة من تدخّل الجيش في السياسة، الى الحكم نتيجة عملٍ قام به الجيش ذاته) (38)

أما سندرسن باشا فيقول:

(لم يكن نوري السعيد يوافق على تدخّل الجيش في الأمور السياسية، ومع ذلك فقد إلتجأ الى هذا التدخل عشية عيد الميلاد سنة 1938، للتخلص من الوزارة المقيتة التي كان يرأسها جميل المدفعي. وقد نجح هذا الإنقلاب، فأصبح نوري السعيد رئيساً للوزارة، لكنه قد إختار في هذا سابقة خطرة، هي ذات السابقة التي إستُعمِلَت بعد عشرين سنة لقتل أفراد العائلة المالكة، وقُتِل نوري نفسه بصفة لا إنسانية!) (39)

فهل بقي لهذا القول ـ ثورة تموز فتحت باب الإنقلابات ـ من وزنٍ بعد هذا؟!

بقي أمرٌ مهمٌ لا بُدّ من المرور السريع عليه، ألا وهو "قتل العائلة المالكة".

هذا العمل مرفوضٌ بكل تأكيد، وقد كُتِبَ عنه الكثير. لكن ما يهمنا الآن مقتل الثلاثة الكِبار، أي الملك فيصل الثاني رحمه الله، والوصي عبد الإله، والباشا نوري السعيد.

هل كان بالإمكان ـ نتحدث بعيداً عن الإعتبارات الإنسانية بكل تأكيد - الإبقاء على هؤلاء الثلاثة؟ فقد حاولت بريطانيا بعد قيام الثورة مباشرة التفاهم مع الولايات المتحدة الأمريكية بصدد ما يمكن عمله لإنقاذ النظام الملكي. ولم تقف الخارجية البريطانية موقفاً سلبياً من رغبة ملك الأردن للتدخل في بغداد لإعادة الأمن والنظام فيه بإعتباره رئيساً للإتحاد العربي (40)

فلو أُبقي عليهم لتكررت تجربة 1941! ولعاد هؤلاء تحت حراسة الحِراب البريطانية! ليقوموا بتصفية خصومهم ببشاعة!!

أما عن الطريقة التي تعرضت لها جُثتي نوري السعيد وعبد الإله، فليس أمامنا إلا ما يلي:

(هل كان هذا عملاً وحشياً أو لا إنسانياً؟ ربما لا يكون إصدار مثل هذا الحكم ملائماً، ولكن علينا أن نُضيف ـ لا تبريراً بل توضيحاً ـ أن نوري وولي العهد لم يكونا أبداً رحيمين بحياة الناس. ثم: أيُستَغرَب أن تنبع الاإنسانية من الأوضاع الاإنسانية التي كان يعيشها "شرقاوية" ـ سكان الأكواخ الطينية ـ بغداد؟) (41)

وختاماً أقول:

أما الحديث عن ما آل إليه الوضع في العراق بعد الثورة، من أجل الطعن بمشروعيتها، فهو حديث مردود. ويمكن أن أصفه بالحديث "البعيد عن التاريخ"، فهذا موضوع آخر يتطَلّبُ معالجات مُطَوّلة، لن تؤثر على مشروعية هذه الثورة الخالدة.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

......................

الحواشي:

1- حنّا بطاطو: العراق / الكتاب الثالث - الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار، بترجمة: عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة العربية الثالثة 2003، دار القبس الكويت ص116

2- زياد صبري زيدان: الإنعطافات في مجرى الأحداث التاريخية في العراق في ضوء نظريات فلسفة التاريخ 132 للهجرة - 750 للميلاد / 447 للهجرة - 1055 للميلاد، أطروحة غير منشورة مُقدمة الى مجلس كلية التربية جامعة واسط لنيل الدكتوراه في فلسفة التاريخ الإسلامي، 1442 للهجرة 2021 للميلاد ص2

3- بطاطو: المصدر السابق ك3 ص116 الحاشية

4- محمد حسين الزبيدي: ثورة 14 تموز في العراق / أسبابها ومقدماتها ومسيرتها وتنظيمات الضباط الأحرار، الجمهورية العراقية، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، دار الشؤون الثقافية والنشر 1983، دار الحرية بغداد ص280 و 281

5- بطاطو: المصدر السابق ك3 ص116

6- ليث عبد الحسن الزبيدي: ثورة 14 تموز 1958 في العراق، منشورات مكتبة اليقظة العربية بغداد ط2 1981 ص13

7- المصدر السابق ص6

8- محمد مظفر الأدهمي: الملك فيصل الأول / حياته السياسية وظروف مماته الغامضة - دراسة وثائقية، الذاكرة للنشر والتوزيع بغداد ط1 2019 ص11 مقدمة المؤرخ عبد الرزاق الحسني. ولكن هذا لا يعني أن فيصل لم يكن مُقصراً، وهذا ما سنتناوله لاحقاً.

9- عبد الرزاق الحسني: تاريخ الوزارات العراقية ج10 وزارة الثقافة والإعلام، دار الشؤون الثقافية العامة ط7 1988 ص4

10- ليث الزبيدي: المصدر السابق ص19

11- التشديد منا

12- فائز عزيز أسعد: إنحراف النظام البرلماني في العراق، تقديم د. منذر الشاوي، مطبعة السندباد بغداد ط2 ص250

13- سعاد رؤوف شير محمد: نوري السعيد ودوره في السياسة العراقية 1932 - 1945، مراجعة د. كمال مظهر أحمد، مكتبة اليقظة العربية بغداد ط1 1988 ص177

14- محمد حديد: مذكراتي / الصراع من أجل الديموقراطية في العراق، تحقيق: نجدة فتحي صفوة، دار الساقي بيروت ط1 2006 ص131

15- ليث الزبيدي: المصدر السابق ص20

16- جعفر عباس حميدي: التطورات والإتجاهات الداخلية في العراق 1953 - 1958 ساعدت جامعة بغداد على نشره ط1 1980 ص93

17- حميدي: المصدر السابق ص93 حاشية 5

18- لينظر القارىء اللبيب الى هذا الخلط الواضح والمقصود بين "الإشتراكية والإلحادية"

19- حميدي: المصدر السابق ص103 و 107

20- فيبي مار: تاريخ العراق المعاصر 1921 - 2003، ترجمة: مصطفى نعمان أحمد، دار ومكتبة أوراق ودار ومكتبة المجلة ط1 2020 ص128

21- محمد حسين الزبيدي: المصدر السابق ص110 و 111 و 112

22- مجيد خدوري: العراق الجمهوري، إنتشارات الشريف الرضي قُم إيران ط1 1418 ص10 و 14

23- المصدر السابق ص58 حاشية رقم 59

24- محمد حسين الزبيدي: المصدر السابق ص190 وما بعدها

25- عبد الرزاق الهلالي: نظرات في إصلاح الريف، منشورات دار الكشاف بيروت ط3 1954 ص23 و 57

26- حنا بطاطو: المصدر السابق ك1 / الطبقات الإجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية ص177

27- المصدر السابق ك1 ص175

28- المصدر السابق ك1 ص162 و 163

29- المصدر السابق ك1 ص163

30- الهلالي: المصدر السابق ص24 و 25 الحاشية و 52 و 55 و 57

31- المصدر السابق ص30 و 38

32- مؤيد إبراهيم الونداوي: العراق في التقارير السنوية للسفارة البريطانية 1944 - 1958 دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد 1992 ص246 و 248

33- براندون روبرت كينغ: المخابرات الأمريكية وثورة تموز 1958 في العراق، بترجمة: مصطفى نعمان أحمد، دار ومكتبة المجلة 2021 ص5 و 15 و 59 و 86 و 87

34- خدوري: المصدر السابق ص52

35- حازم المفتي: العراق بين عهدين / ياسين الهاشمي وبكر صدقي، قَدّم له: د. عماد عبد السلام رؤوف، مطبعة سومر، توزيع مكتبة اليقظة العربية ص90

36- الحسني: المصدر السابق ج5 ص46 و 47 و 48

37- المصدر السابق ج5 ص55

38- العقيد جرالد دي غوري: ثلاثة ملوك في بغداد، بترجمة وتعليق: سليم طه التكريتي، الأهلية للنشر والتوزيع عَمّان الأردن ط5 2012 ص147

39- مذكرات سندرسن باشا "طبيب العائلة الملكية في العراق" 1918 - 1946، بترجمة وتعليق: سليم طه التكريتي، منشورات مكتبة المتنبي بغداد ط1 1980 ص210 و 211

40- مؤيد إبراهيم الونداوي: وثائق ثورة تموز 1958 في ملفات الحكومة البريطانية، المكتبة العالمية بغداد ط1 1990 ص20

41- بطاطو: المصدر السابق ك3 ص111 و 112

في المثقف اليوم