آراء

الأندلس تتنفس من جديد.. هل يضيع حق وراءه مطالب؟

من هو الزعيمُ الإسبانيُّ الذي فرضَ علمَ الأنْدُلُس التاريخيِّ الأخضر فوقَ المؤسساتِ الحكومية!

لماذا أُدْرِجَ هذا الزعيم ضِمْنَ مَطِالِبِهِ اللغةً العربيةَ كلغةٍ رسميةٍ للإقليم؟

وهل فعلاً طالب بتعميم الزيِّ العربيِّ على دور الأزياء في اندلوسيا لاستلهامه!! من باب استرجاع الشخصية الأندلسية؟

وهل حقاً تضمنت أطروحاته الاستراتيجية اعتبار أندلوسيا المستقلة جزءاً من المغرب؟

ماذا كان مصير هذا الزعيم الإسباني الفذ.. وما هي آثاره الآن؟

من هو الشاعر الإسباني ابن غرناطة الذي مجد الأندلس؟

وأكثر من سؤال!!

سُئِل الشاعر الإسباني الشهر «فديريكو غرسيه لوركا» يومًا عن سقوط الحكم العربي لغرناطة في عام ١٤٩٢ ميلادية، فأجاب قائلًا والحسرة تلتهم مشاعره المرهفة، فَيُسَرِّحُ وجدانًه في غياهب ما جرى في الماضي المظلم:

«لقد كان يومًا أسودا، رغم أنهم يذكرون لنا عكس ذلك في المدرسة (مسيسة المناهج)، لقد ضاعت حضارة مدهشة، وشِعر، وفلك، ومعمار، ورِقَّة لا نظير لها في العالم، وحلَّت محلها مدينة فقيرة، خانعة، تزخر بطالبي الصدقات، وحيث توجد الآن أسوأ طبقة برجوازية في إسبانيا».

لقد تأثر هذا الشاعر الفذ بمسقط رأسه غرناطة التي توشحت السواد منذ سقوطها على يد القشتاليين حيث ترعرع في أحضانها الخصبة، بكل ما تنبض فيها من أجواءٍ عربيةٍ وأندلسيةٍ بقيت آثارها على مرِّ القرون دون أن تمس بضرر لهيبة مقامها الراسخ في الذاكرة الجمالية الإنسانية، ولقد استبانت تلك الأجواء في شِعره وفي مسرحياته التي استلهم فيها الروح الشعبية في قرى الأندلس ومدنه.. غرناطة التي شهدت ولادة لوركا الذي اعدمه الجنرال فرانكو في اتون الحرب الأهلية في عام ١٩٣٦م تحديداً في «عين الدمعة» بقرية «فرنار» الغرناطية كونه يسارياً انبرى للدفاع عن حرية الشعب المغبون .

عاشق الأندلس الذي قال:

"ليمهلني الموتُ حتى أصيرَ في قرطبة

قرطبةُ البعيدةُ الوحيدة "

نحنُ الأنَ في دولةِ الاتحادِ الإسبانيِّ ما يسمى بشبهِ الجزيرةِ اللإيبيرية وتحديداً في إقليمِ أندلوسيا جنوبِ البلاد..

بداية نحن سنتناول هذا الموضوع لثلاثة أسباب:

الأول ترسيخاً لمفهوم أنه لا يموت حقًّ وراؤه مطالب.. كرسالة موجهة إلى الشعوب المحتلة المغبونة كالشعب الفلسطيني!

والثاني مناصرة لشعب الأندلس المتجذر في المكان وقد سلبت هويته وشخصيته بكل ابعادها دون مشورة منه؛ بل تم ذلك بالترهيب منذ احتلال الأندلس على يد القشتاليين قبل مئات السنين!

الثالث: تعرض هذا الشعب لسياسة تعدد المكاييل فيما يتعلق بحق العودة للمهجرين خلافاً لليهود السفرديم.. وهذا ظلم تاريخي قاسي!

من هنا سَنَلِجُ هذه البلادَِ على متنِ عبارةٍ فحواها أنَّ ما يدورُ في إسبانيا منذُ سنوات، إنما يُثْبِتُ بأنَّ الحقَّ لا يموتُ بالتقادمِ وأنَّ الظلمَ لا يتخفّى كالحرباءِ في ظلِّ التاريخِ مهما طالَ أمَدُه.. ومن هذا البابِ يمكنُ فهمُ نضالِ الشعوبِ حتى تَنْتَزِعَ حريتَهَا واستقلالَها من براثِنِ الاحتلالِ كحالِ ما يحدثُ في فلسطينَِ المحتلة.. على اعتبار أنَّ من ورثوا تراث الأندلس هم من أصحابِ المكان الأصليين ممن تبرعموا من تحتِ ثراها متابعين خطى الشمس في كبدِ السماء، ودفعوا الثمن غالياً إزاء صبرهم على الضيم الذي أصابهم منذ سقوط الأندلس قبل 526عاماً.

حينما نتحدث عن انبعاثِ روحِ الأندلس في جنوب إسبانيا فهذا يقودنا لتسليط الضوْء على الحراكِ الأندلسيَّ في إقليم أندلوسيا بعد أن هبط ابناءُ هذه الحضارةِ الافلةِ من مهاجع الخوف والنسيان في قممِ الجبالِ النائية إلى عمقِ الإقليم ومدنه المعاصرة.

بداية تسلل غناؤهم "الفلمنجو" بواسطة الغجر الذين شكلوا رابطاً للتواصل بين منافيهم التي تسترت بظلال الهامش، حتى آن أوان استحضارهم لملامحهم التي ظن الخصوم بأنها طمست إلى الأبد وتماهت مع الهامش، ليعيدوا أمجادَ الأندلس وهيبةَ شخصيتِها في حراكٍ سياسيٍّ وتراثيٍّ فاعل وقد زرعوا الراية الأندلسية من جديد في مركز الفعل مطالبين بالاستقلال التدريجي، وها هي ترفرف عالياً فوق المباني الرسمية وعلى شرفات البيوت الخاصة.

وقبل الحديث عمَّن علّق الجرسَ أولاً، تنبغي الإشارةِ إلى أنَّ التحدّياتِ الكُبرى التي تواجهها إسبانيا في الوقت الراهن، تتجلّى برفض الأقاليمِ الإسبانية الثلاثة لفكرة الاتحاد في ظل التنافر الثقافي المتنامي والتقوقع الإقليمي المستقل مع مراعاة الخصوصية الثقافية والتاريخية لكل إقليم .. والأقاليم هي:

أولاً- إقليمُ كتلونيا الذي جرى فيه استفتاءٌ حول الانفصالِ عن الإتحادِ الإسبانيِّ عام 2016.

ثانياً- إقليمُ الباسك الشمالي، الذي يضم عاصمة الاتحاد الإسباني مدريد .

ثالثاً- إقليمُ أندلوسيا (الأندلس) صاحبُ المبادرة الريادية في الاستقلال التدريجي عن الاتحاد الإسباني، من أجلِ نيلِ الاستقلالِ التام، إذ يُعَدُّ الإقليمُ الإسباني الأخطرُ في قائمةِ التحديات، التي يواجهها الاتحاد من حيثِ تنامي مشاعر الغبن في الذاكرةِ الأندلسية التاريخية التي تُدِينُ جرائمَ القشتاليين ضد المسلمين في الأندلسِ التاريخية، الذين أُبِيدُوا عن بَكْرَةِ أبيهِمْ في إطارِ خياراتِ ثلاثة، تجلت فيما يلي:

أولاً- الإبعادُ عن إسبانيا في مجاميعَ سكانيةٍ ضخمة بناءً على الهوية الدينية التي تخالف معتقدات القشتاليين.

ثانياً- تغييرُ الهويةِ الثقافية، والدينية، بالانقلابِ إلى الدينِ المسيحيِّ بالترهيب.

ثالثاً- الإعدامُ قتلاً بالسيف، أو بالحرق لكل من قاوم هذه الخيارات علانية فنجم عن ذلك مجازر مرعبة يندى لها جبين الإنسانية، حيث استلهمها مقترفوها الإسبانيون فيما بعد إبان اكتشافهم الأمريكيتين وبسط نفوذهم فيهما، حيث مارسوا ذاتَ الجبروتِ ضدَّ الهنودِ الحُمْرِ كما تُؤَكِّدُ الوثائقُ التاريخية).

ولكن بالنسبة لليهود السفرديم ، وفي ظل ازدواجية المعايير، وبسبب الضغوطات على إسبانيا التي مارستها الحركة الصهيونية (المتسببة جوراً باحتلال فلسطين) ملوحة بمعاداة السامية من باب الابتزاز، فقد قدمت إسبانيا اعتذارها لليهود عن جرائم القشتاليين ضد الأقلية اليهودية الإسبانية وتجاهل جرائمهم بحق المسلمين الأندلسيين الذين بنوا حضارة الأندلس، لا بل وأعلنت وزارة العدل الإسبانية أن مدريد قررت منح حق الحصول على الجنسية الإسبانية لأحفاد اليهود الذين طردوا من البلاد عام 1492 بعد رفضهم لاعتناق الكاثوليكية.

وبموجب القرار، فإن كل السفارديم وعددهم 250 ألف شخص في العالم يتحدثون لهجة اليهود الإسبانيين (وأكثرهم يساهمون في احتلال فلسطين بالحديد والنار).. يعتبرون مرشحين للحصول على الجنسية الإسبانية بغض النظر عن مكان إقامتهم.. ويحرم من هذا القرار ذوو الأصول الإسلامية في ظل قانون جائر يكيل بمكيالين.

يبدو أنَّ العودةَ إلى الذاكرةِ أيقظتِ الزعيمَ الإسبانيَّ التاريخيَّ الفذ، “بلاس انفانتي بريث” الذي اعتبره الأندلسيون سنة 1983 من خلالِ برلمانَ إقليمِ الأندلس، بالإجماع،بانَّهُ أبُ الأمةِ الأندلسية، و رائدُ النضال، كونه تمكنَ من الحصولِ على قانونٍ للحكمِ الذاتيِّ بالأندلس، وبالتالي الحصول على حقِّ رفعِ العلمِ الأندلسيِّ الإسلاميِّ القديم، إلى جوارِ العلمِ الإسبانيِّ الحديث؛

ما يعني أنَّ مربعَ الحكمِ الذاتيِّ كان هو الأساسُ لدفع قضية الإقليم باتجاه نيل الاستقلال عن شبه الجزيرة الليبيرية القشتالية (إسبانيا) فمقومات ذلك كما كان يراها “إنفانتي” تتمثل; بوحدة التاريخ المتجلي بتاريخ العرب في إسبانيا الأمر الذي دعاه للمطالبة باستعادة اللغة العربية إلى جانب الإسبانية لاعتمادها في الحياة العامة وتعليمها في المدارس والجامعات.

لا بل وأكد على حرية أهل الإقليم في استعادة زي أجدادهم العربي الأصيل الذي كان سائداً في عهد الأندلس، وذلك في إطار الخصائص الاجتماعية الخاصة للإقليم ما يجعلها لا تنسجم نسبياً مع النمط السائد في عموم المقاطعات الإسبانية الأخرى.

من هنا فقد أعلن انفانتي إسلامه أسوة بأجداده من بني أمية رداً على مصادرة القشتاليين منذ 526 عاماً لهوية أجداده الدينية والثقافية!.

ولتحقيق مطالب الإقليم السياسية أسس “إنفانتي” حزباً يطالب بإعادة إقليم الأندلس للوجود، وتحققت مطالب هذا السياسي القوي في إطار ما يسمى اليوم إقليم (أندلوسيا) ويضم سبعة مدن إسبانية جنوبية رئيسية، هي غرناطة (مدينة لوركا) وهي عاصمة الإقليم، إلى جانب قرطبة، إشبيليا، ملقه , ألمريا، ألبا، وكادث.

والإقليم اليوم مستقل في القانون وإدارة الشؤون الداخلية؛ إلا في مجال الدفاع والخارجية.

ولد ابن جنوب إسبانيا الزعيم الأندلسي الاستثنائي بلاس انفانتي بيريز، الذي يعده الأندلسيون اليوم بكافة مللهم، بمن فيهم المسلمون، أب قوميتهم ومفكر انبعاثهم المعاصر، في بلدة قشريش التابعة لمقاطعة مالقة وذلك في الخامس من يوليو عام 1885م، من أبوين تعود جذورهم العميقة إلى الأندلس، تحديداً لعائلتين سليلتين للمورسكيين القدماء ممن دافعوا عن الأندلس حتى الرمق الأخير فتشرذمت حياتهم بين النفي أو تغيير ديانتهم أو القتل.

والموريسكوس بالقشتالية هم المسلمون الذين بقوا في الأندلس تحت الحكم المسيحي بعد سقوط الحكم الإسلامي للأندلس وأجبروا على اعتناق المسيحية.

أنهى انفانتي دراستَه الابتدائيةِ في بلدته. ثم انتقل عام 1896م إلى أرشذونة ضمن مقاطعة مالقة من أجل الدراسة الثانوية، ثم انتقل إلى قبرة ضمن مقاطعة قرطبة سنة 1897م، حيث حصل عام 1900م على شهادته الثانوية. ثم عمل مع أبيه في محكمة قشريش، قبل التحاقه بقسم الحقوق في جامعة غرناطة، وتخرج من كلية الفلسفة والآداب بامتياز في أكتوبر عام 1906م.

شعر هذا الزعيم الفذ بأن الحضارة الأندلسية تمثل جوهر شخصيته.. فزار انفانتي إشبيلية وقرطبة ومجريط (مدريد)، واجتمع بزعماء الحركة الأندلسية، وأصبح يعتقد أن الهوية الأندلسية ليست هوية عرق، أو دم؛ ولكنها هوية «وجود»، و«معرفة».

وفي عام1907م، زار انفانتي إشبيلية، فوجد فيها نشاطاً فكريًا كبيرًا ذكره بطليطلة إبان العصر الذهبي الأندلسي التي مثلت بوابة انتقال الحضارة الإسلامية إلى عموم أوروبا فشكلت لدى الأوروبيين بداية نهضتهم المشهودة، فماذا وجد انفانتي في أشبيلية:

وجد هناك جمعيات شبابية لدراسة تاريخ الأندلس، و«ألعاب وردية» تُلْقَى فيها الخطب الحماسية الأندلسية. وفي سنة 1909م، تحولت هذه الألعاب إلى احتفال قومي أندلسي.

وفي سنة 1910م، عين انفانتي قاضياً عدلياً في بلدة (قنطيانة) بتلمسان في الجزائر وهي بلدة الشيخ "أبو مدين الغوث" المدفون فيها، فسكن إشبيلية القريبة منها حيث يفصل بينهما مضيق جبل طارق، وأصبح يتنقل بين البلدتين عبر مضيق جبل طارق.

تأثر انفانتي في إشبيلية بمفكريها الأندلسيين، وساهم في أنشطتهم الثقافية. وفي عام 1913م، قبل انفانتي في مجلس المحامين.

وفي 1914م، ألقى خطاباً في «أتينيو» بإشبيلية عن «النظرية الأندلسية»، كان أساس كتابه التاريخي عن القومية الأندلسية. وفي نفس السنة فتح مكتب محاماة في إشبيلية. وفي سنة 1914م، ظهرت الطبعة الأولى من كتابه الشهير «النظرية الأندلسية».

وفي العام 1916م، أسس انفانتي أول «مركز أندلسي» في إشبيلية، تبعته مراكز أخرى في مدن الأندلس وقراها، وأصدر مجلة «الأندلس» كلسان حال المراكز الأندلسية، والحركة القومية الأندلسية.

ومع الأيام تحول «مركز إشبيلية الأندلسي» إلى مركز أنشطة أندلسية، تثقيفية، وتخطيطية، ومنه خرج المنشور الداعي إلى «اجتماع المقاطعات الأندلسية» الذي استعمل فيه عبارة «الأمة الأندلسية» لأول مرة.

وهكذا أصبح انفانتي بأفكاره، وحركته، رئيس تيار جديد للحركة القومية الأندلسية.

وفي 1917م، ألقى انفانتي بصفته رئيس «مركز إشبيلية الأندلسي»، محاضرةً أساسيةً أعطت لأفكاره نضوجاً ثورياً، صرح في آخرها: «نحن لسنا بصدد إنشاء حزب، نحن نريد إنشاء شعب قادر بأن يحكم نفسه بنفسه».

***

وفي الرابعة عشر من يناير عام 1918م، انعقد اجتماع «مجلس المقاطعات الأندلسية» في رندة ب"مالقة"، فعدد انفانتي معالم القومية الأندلسية في النقاط التالية:

أولاً:- الاعتراف بالأندلس كبلد، وقومية، ومنطقة ذات حكم ذاتي، ديمقراطي، على أساس دستور انقيرة (مدينة أنقيرة قرب مالقة).

ثانياُ:- اختيار العلم الأخضر والأبيض، علماً للأمة الأندلسية، ورمز قادس شعارًا لها، و(قادس إقليم أندلسي).

خاطت هذا العلم زوجة بلاس إنفاتي، بحيث يرمز اللون الأخضر والأبيض للخير والسلام.

(هناك زعم غير دقيق باعتبار الألوان ترمز للدولة الأموية والموحدين).

ودخل انفانتي اللعبة السياسية للتعريف بأفكاره القومية الأندلسية، فتقدم لانتخابات منطقة (غسان – أشتبونة) في مقاطعة مالقة، حيث يوجد مسقط رأسه بلدة قشريش لكنه لم يفز ولم يثنه ذلك عن طموحه المتجدد باتجاه تحقيق الحلم الأندلسي العظيم؛ لذلك تقدم بلاس انفانتي، ورفيقه خوزي أندرس، باسم المؤتمر، لهيأة الأمم المتحدة مطالبَيْن بالاعتراف بالقومية الأندلسية.

وتعزيزاً لذلك؛ شارك انفانتي في يناير عام 1919م، باجتماع «المجلس الإداري الأندلسي» التأسيسي، الذي انتهى بالاتفاق على «تخطيط نظري للقومية الأندلسية»، كان له تأثير هام على مجرى الفكر القومي الأندلسي، ومنه انبثقت مشاريع النهوض بالقومية الأندلسية وترسيخها كمسألة تاريخيةٍ سياسيةِ واجتماعية.

وفي نفسِ العامِ تزوج انفانتي. ثم تقدم لانتخابات إشبيلية باسم «الديمقراطية الأندلسية» المكونة من الجمهوريين الاتحاديين، والقوميين الأندلسيين، والاشتراكيين المستقلين. وقد اتَّهَمَ حينها عاصمة الاتحاد الإسباني مدريد بأنها تتحكم بنتائج الانتخابات من خلال توظيف المال السياسي؛ لكنه رسب في الانتخابات فكانت فرصة متاحة للحكومة المركزية للتخلص منه سياسياً باتهامِهِ وأتباعِهِ بالتآمرِ على أمن الدولة ووحدتها كونه ظل ثابتاً على شعاراته ساعياً لتحقيقها.

ثم أسس انفانتي في إشبيلية دار ومكتبة «أبانتي» للنشر والتوزيع( ابانتي: بمعنى التقدم بالإسبانية)، نشر فيها عددًا من كتبه.

كما أسس «مركز الدراسات الأندلسية».

وفي سنة 1920م، ظهر كتابه «المعتمد ملك إشبيلية»، وهي قصة مسرحية تاريخية عرف فيها انفانتي بجذور الهوية الأندلسية الإسلامية لترسيخ مبادئه في الوجدان لتكون نواة للتعبير الأدبي عن أفكاره من باب التاثير الثقافي .

وفي عام 1921م، ازدهرت الحياة الثقافية الأندلسية خلافاً لما أصاب مدريد من اضطرابات، فانتشرت «المراكز الأندلسية» في الأقاليم الصغيرة بمدنها وقراها، وانتشر معها الفكر الأندلسي في المجالات الثقافية والاجتماعية حتى ترسخت في الوجدان الأندلسي كبنية ثقافية.

لكن في الأول من يناير عام 1923م، تحولت أسبانيا إلى الحكم الدكتاتوري الذي قضى على الحريات، ودمر هذا الحكم أفضل «المراكز الأندلسية»، فيما اتهم القوميين الأندلسيين بمقاومة الدولة والكنيسة.

فانتقل انفانتي، تحت ضغط عائلته، إلى ايسلا كريستينا (مقاطعة ولبة) جنوب الأندلس للعمل كموثق عدلي.. فالحكم الدكتاتوري عطل مشاريعه القومية وادخل الياس في قلبه.

وانسحب انفانتي بفعل تلك الضغوط من العمل السياسي، لا بل نصح أتباعه بذلك. سوى أنه عاد من جديد ليركز على التفكير في مصير الأندلس، وجذور الهوية الأندلسية.

وفي 1923م، زار انفانتي قبر آخر ملوك بني عباد في الأندلس، الشاعر المعتمد بن عباد المدفون في أغمات بالمغرب، حيث تعرف على بعض أبناء الأندلس، فقرر إشهار إسلامه على يدهم ( كما ذكرنا آنفاً). ثم حاول بعد إسلامه ربط الحركة الأندلسية بالحركات الإسلامية والعربية لتوفير بعد استراتيجي عربي إسلامي لحركته في بداياتها التي طال مخاضها العسير.

وفي سنة 1930م، انهارت الدكتاتورية، فنقل انفانتي عمله كموثق عدلي إلى بلدة قورية بالقرب من إشبيلية.

وفي سنة 1931م، أسس «مجلس الأندلس التحرري»، عوضاً عن المراكز الأندلسية القديمة، وانضم إلى «الحزب الجمهوري الاتحادي». وأصبح انفانتي يمجد التاريخ الإسلامي كأساس الهوية الأندلسية حيث تم سلبها من قبل القشتاليين، ويطالب الأندلسيين باستعادة الهوية، والتاريخ، والأرض.

وفي أبريل عام 1930م، انعقد في العاصمة الهندية نيودلهي مؤتمر «الشعوب التي لا دول لها»، شارك فيه عن القوميين الأندلسيين الشاعر الأندلسي المسلم آبل قدرة، الذي بيّن في خطبته للحاضرين، أن نضال تحرير الأندلس هو جزء من نضال شعوب آسيا وأفريقيا المغلوبة على أمرها، وبأن جذور القومية الأندلسية هي الإسلام.

وهذا مؤشر يوضح للقوى الطاغية كيف أن قضايا الشعوب خالدة ولا يموت حق وراءه مطالب وهي رسالة للفلسطينيين أيضاً كي يثبتوا على المطالبة بحقوقهم المشروعة.

ثم التقى انفانتي بالحركات التحررية العربية عبر مجلة «الأمة العربية» في جنيف (سويسرا) التي كان ينشرها أمير البيان والسياسي اللبناني شكيب أرسلان، والسياسي السوري إبان الثورة العربية إحسان الجابري.

وتجلت أفكار انفانتي والقوميين الأندلسيين الواضحة بعد عشرينيات القرن العشرين الميلادي في أن هوية الأندلس إسلامية، وليست غربية، مما دفع أعداؤهم إلى رميهم بالاتهامات المتواصلة، فحوربت الحركة من طرف اليمين واليسار على حد سواء.

وفي يوم الأحد 2/8/1936م، بعد 14 يوماً من انفجار الحرب الأهلية الأسبانية، هجمت فرقة من الكتائب على انفانتي في بيته «دار الفرح» بقورية، وساقته إلى إشبيلية، حيث سجنته، وأعدمته رميًا بالرصاص يوم الإثنين 10/8/1936م، إبان الثورة على الدكتاتورية التي شارك فيها فرانكو فمات شهيدًا رحمه الله، وهو يصرخ مرتين: «عاشت الأندلس حرة!» وهو نفس العام الذي شهد إعدام الشاعر الغرناطيّ لوركا.

والغريب أنه بعد أربع سنوات من إعدامه عام 1940 في فترة حكم الجنرال الدكتاتور فرانكو، وفي مفارقة مبهمة أصدرت محكمة المسؤوليات السياسية، التي أنشئت بعد الحرب، حكماً بإعدامه وبغرامة مالية يدفعها ورثته، وفقاً لوثيقة مؤرخة في الرابع من مايو 1940.

ويبدو أن ذلك جرى لردع اتباعه من الاستمرار في الحراك الأندلسي التحرري. وقد خابت مساعيهم كما تبديه الشواهد التاريخية.

إذْ تمخض عن حراك انفانتي ما بات يعرف ب"يوم الأندلس" وهو العيد الوطني لمنطقة الأندلس, ويحتفل به في 28 فبراير لإحياء ذكرى استفتاء عام 1980، الذي أعطى حكماً ذاتياً كاملاً إلى منطقة الأندلس مكافأة لروح أبي القومية الأندلسية انفانتي الذي قضى بعد أن رسم لورثته معالم الطريق.

وقد تمت صياغة مشروع الاستقلال الأندلسي في أنتيكيرا سنة 1883.

وفي جمعية روندا سنة 1918 تمت الموافقة على علم وشعار الأندلس.

وخلال الانتقال الديمقراطي الإسباني أيد الأندلسيون سنة 1978 الوفاق الدستوري المتمثل اليوم في الدستور تأييداً واسعاً، وذلك فيما يتعلق بمادته رقم 2 التي تعترف بالأندلس على أنها جنسية في إطار وحدة الدولة الأسبانية التي لا تقبل التقسيم.

ومع تنامي الروح القومية الأندلسية خرجت مظاهرات حاشدة في الرابع من ديسمبر عام 1977 وعقد استفتاء في 28 فبراير 1980 عبر عن إرادة شعب الأندلس في تحقيق الحكم الذاتي على أعلى مستوى.

وبذلك كانت الأندلس الإقليم الوحيد الذي تمتع بمصدر محدد للشرعية في مسيرته نحو تحقيق الحكم الذاتي من خلال ما تم الإعراب عنه في صناديق الاقتراع من خلال الاستفتاء، وهذا ما أكسبه هويةً ذاتية.

نتجت عن هذه الجهود لائحة الحكم الذاتي للأندلس التي تمت المصادقة عليها في 20

هذه قصة فينيق آخر خرج من تحت الرماد أشد عنفواناً.. يشبه فينيقنا الكنعاني الفلسطيني المكبل باصفاد الاحتلال افسرائيلي العنصري الزائل بإذن الله إذ لا يموت حق وراءه مطالب.. مثلما امتلك الأندلسيون حق تقرير مصيرهم بايديهم.

***

بقلم بكر السباتين..

22 فبراير 2023

.....................

المراجع

(1) Miguel Asin Palacios “Empreintes de L’Islam” Al-Andalus XXIIe, 1957.

(2) A. Medina Molera “La Herencia Islamica y Arabe en la Lenguay literature Aljamiada” Primero Congreso Mundial Andalusi Castellar De la Frontera, (Cadiz), 2-5/9-1989.

(3) Blas Infante Perez “I deal Andaluz” Madrid, 1914.

(4) J.L. Ortiz de Lanzagorta “Blas Infante, Viday Muerte de un Hombre Andaluz” Sevilla, 1979.

(5) La Voz (Cordoba), 19/6/1931.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، شعبان 1432هـ = يوليو 2011م ، العدد : 8 ، السنة : 35

6- المصطفى العسري” الوسط الإلكترونية” النزعة الاستقلالية والظلم التاريخي الذي ألم بأهل الأقليم الذي قربهم من العرب”.

http://www.alwasatnews.com/425/news/r...

7- الإستفادة من خبر بعنوان”إسبانيا: مساومة المسلمين لدعم استقلال كتالونيا” نقلاً عن الرابط: http://www.alukah.net/world_muslims/0...

8- هشام المغربي/ محاكم التفتيش ”Blas Infante y El Islam’’” للكاتب الأندلسي علي مونثانو باكو Ali Manzano Baco.

الرابط:http://www.churchinquisition.com/read...

9-https://www.facebook.com/ew3a.elsalaf...

10- لوركا شاعر الأندلس- ماهر البطوطي- صدر عن مؤسسة هنداوي عام 2022.

11- معلومات مفيدة عن مقاطعة (أندلوسيا)

-تقع أندلوسيا في جنوب إسبانيا، تحدها من الشمال منطقة كاستيا لا منتشا ومنطقة إكستريمادورا، ومن الجنوب المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط وجبل طارق، ومن الشرق منطقة مرسية، ومن الغرب البرتغال.

تبلغ مساحة أندلوسيا 87.268 كم² (ثاني أكبر منطقة من حيث المساحة في إسبانيا).

ثقافة أندلوسيا هي الثقافة التي تأثرت جذورها بمختلف الشعوب التي تركت بصمتها على مر العصور. وكما ساهم أيضا التاريخ والعوامل الجغرافية بشكل كبير على تشكيل الثقافة الحالية.

اللهجة الأندلوسية

يتحدث الأندلسيون الإسبانية القشتالية بلهجة مميزة، وهي ذات اللهجة المستعملة في الأمريكتين اليوم نظراً لأن حملات الاستكشاف انطلقت من إشبيلية

 

في المثقف اليوم