آراء

بطارية بَغْداد.. في قِمة الحُكومَات بدُبَي

عُقدت بدُبَي الدَّورة العاشرة للقِمة العالميَّة للحكومات من 13إلى 15 فبراير 2023 حضرها رؤساء ورؤساء وزراء، وخبراء عالميون في العُمران.

ليست كالقمم السياسية، تفتتح بجدول أعمال وتُختتم ببيان، قمة أفكار وتجارب، لخصتها كلمة معالي مطر الطَّاير، وهو يُقدم خطة دُبَي في المستقبل تحت منهج «المدن للناس وجودة الحياة»، خطط للمحافظة على التَّطوير الحضريّ، والعمل على أنّ تكون مضيفة القمة الأفضل عالمياً بزيادة جودة الحياة، وأقرب ما فيها لسعادة الإنسان المحافظة على ستين بالمائة مِن مساحة الإمارة كمحميات طبيعيَّة، وعيش نصف السُّكان بالقرب مِن محطات النَّقل، ناهيك عن فورة الاستثمار، ودقة الأمن، كي تكون الأفضل عالميَّاً «محورها الإنسان». فالمدن النَّاجحة، والكلام للوزير «ليست صدفةً»، إذا لم تكن بها تنمية الإنسان أهم مِن تنمية العمران، فهي مجرد حيطان. كان قديماً أهم ما يشغل ذهن الحاكم، أو مؤسس المدينة، التّحصين مِن الغزاة، وأسباب الحياة مِن ماء وطعام، ويجمع الحُكماء أسباب اختيار المدن: «وقالوا: لا تبنى المدن إلا على الماء والمرعى والمحتطب» (الجاحظ، البيان والتَّبيين)، وأضاف آخرُ رابعاً «الحصانة»(التَّوحيديّ، الإمتاع والمؤانسة).

أمّا اليوم فما عادت هذه الأسباب موجبة، في الأرض التي تُختار لبناء المدن، لأنّها تُخلق، أمَّا نرى هذا الرَّمل اليبيس، الخالي مِن المرعى والماء والمحتطب، يقصده البشر مشتغلين وسائحين! توفرت فيه الخدمات وتكاملت للأفراد: الصحة والأمن والتَّعليم والتَّرفيه! ونزله رؤساء العالم ليضعوا خُطط مستقبل مدنهم؟!

عندما اختار أبو جعفر المنصور(ت: 158 هج) بَغْداد عاصمةً لم يفكر بتاريخها، ولا باسمها البابلي «بَغْدادو»، وكذب مَن جعلها «الصّنم وصاحبه»، أو فارسية المعنى. قَبِل المنصور بنصيحة الرَّاهب، صاحب الدَّير المقيم بها، أنها الأنقى هواءً والأفضل اتصالاً عبر دِجلتها(انظر: البَغْداديّ، تاريخ بَغْداد).

لفت وزير الدَّاخليّة الإماراتي الفريق  سمو الشّيخ سيف بن زايد آل نهيان، في كلمته عن بلاده وما يتعلق بالبيئة والإنجازات، إلى «بطارية بَغْداد»، وهو يتحدث عن الكهرباء ودورها، ماذا لو انسحبت مِن الحياة اليوم، وقد حل الظَّلام داخل القاعة، كمثال على معنى حضور الكهرباء وغيابها، ثم قال: «قبل ألفي عام ظهرت بطارية بَغْداد التي اكتشفت 1936»، وأظهر نموذجها على شاشة العرض، مع برقية تحية، مِن على المنصة، إلى العراق وأهله، شاكراً حفاوة الاحتفاء في كأس الخليج العربي 25 بالبَصْرة. كتب الآثاري العراقي بهنام أبو الصُّوف(ت: 2012) عن بطارية بَغْداد، المحتفى بها في قمة الحكومات بدُبَي، والمكتشفة شرقي بَغْداد، حيث قناة الجيش اليوم: «جرة صغيرة مِن الفخار، ارتفاعها لا يزيد على 15 سم، تحوي في داخلها مجموعة مِن مواد، تبين عند دراستها أنْها تضم أسطوانة نحاسيَّة، ثبت في وسطها قضيب مِن حديد، يبرز قليلاً عند فوهتها، وقد غُطيت بطبقة مِن مادة الأسفلت(القار)».

«كما توجد في قاعدة الأسطوانة النُّحاسيَّة طبقة مِن الأسفلت أيضاً، وقد طُلي باطن الجَرة كُلها بهذه المادة أيضاً، وفي ضوء دراسة محتويات هذا الإناء الفخاريّ ظهر أنْه يكون مواد لبطارية كهربائيَّة جافة، وهو يمثل خليةً مبسطةً... يرجع تاريخ بطارية بَغْداد المكتشفة في موقع خيوط ربُوعة إلى قبل نحو ألفي سَنة»(أبو الصّوف، التَّاريخ مِن باطن الأرض). كنت مذهولاً وأنا أسمع هذا الاحتفاء بتاريخ العِلم ببَغْداد، فمرت على ذهني عذاباتها، هذه بطاريتها وهي والكهرباء في خصومة.

أقول: إذا كان لابد مِن تخفيف الصَّدمة، فلا أجودَ مما نظمه مصطفى جمال الدّين(ت: 1996):

«بَغْداد ما اشتبكت عليكِ الأعصرُ/

إلا ذوت ووريق عُمركِ أخضرُ/

*

مرّت بك الدُّنيا وصُبحك مشمسٌ/

ودجت عليك ووجه ليلَّكِ مقمرُ/

*

وقستْ عليك الحادثات فراعها/

أنْ احتمالِك مِن أذاها أكبرُ»

(قصيدة بَغْداد: 1965).

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

في المثقف اليوم