آراء

إن لم تستحِ فاصنع ما شئت

قبل أيام كنا وأحد طلبة المرحلة الأولى في دراسة الدكتوراه في إحدى الجامعات الروسية، في اختصاص الاعلام، كان قد أطلع على بعض من مقالاتنا المنشورة في المواقع العربية، وقال، وهو " باستحياء كبير " في التعبير عن رأيه، " يا دكتور نراكم منحازون بعض الشيء للجانب الروسي .. أليس كذلك؟ "، وهذا السؤال يجرنا الى موقعة أخرى، وهي لقاءنا كمحلل سياسي مع احدى القنوات الإخبارية العربية المعروفة، وعند استرسالنا بالإجابة على سؤاله، قاطعنا المذيع، وقال " انتم تتبنون الرواية الروسية "، فقلنا له " حسنا .. أعطيني أنت ما هي الرواية الغربية أذن، ليتسنى لنا المقارنة بينهما، ونعطيكم خلاصة القول "، وبالطبع، فالمذيع والكثير من المحللين السياسيين (آخر هذا الزمان) لا يوجد لديهم أي تصور، ولا يمتلكون أي قدر معقول من المعلومات، عن مجمل الاحداث التي سبقت بدء روسيا العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، وكذلك الأسباب التي دفعت روسيا لاتخاذ مثل هكذا خطوة، والتي عشناها ونعيشها منذ عام 1995 وحتى الان .

والكلام هذا يجرنا أيضا، الى تغريدة كتبها زميلنا الرائع الدكتور علي شمخي، على صفحته في احدى مواقع التواصل الاجتماعي، وهو يرد على موضوع يخص العملية العسكرية الروسية الخاصة، ولأرتباطنا بعلاقة زمالة طويلة معه، آثرت أن أرد عليه في نفس المكان، وفضلت الاتصال به، لنوضح له حقيقة الامر، التي تغيب وكما قلنا عن الكثير للأسف الشديد، فتقبل منا الزميل " أبو محمد "، ما طرحنا له من معلومات حول هذا الموضوع، وكعادته و بهدوءه المعهود، وخلقه الرفيع، نسب كلامه على ما هو متوفر لديه من المعلومات التي يسوقها الاعلام الغربي والعراقي، وبسبب الغياب التام للإعلام الروسي الموجه للمنطقة العربية، وبالتالي فإنهم (أي الإعلاميين والكتاب والمحللين) غير ملامون على أي رأي يقولونه او يكتبونه، بسبب هذا التقصير الكبير من جانب الاعلام الروسي، في توضيح حقائق الأمور، ولبيان الموقف الروسي الصحيح تجاه هذه الازمة .

نعتذر على هذه المقدمة الطويلة للدخول في صلب موضوعنا اليوم، الذي أخترنا له هذا العنوان، والمقصود به هو الولايات المتحدة الامريكية، التي " تتحفنا " كل يوم وكل دقيقة او ثانية، بأكذوبة تسبق ما قبلها، وتزيدها مكرا ، لتثبت للعالم، بأنها لا تستحي، ولا تخجل، و لا تمتلك ذرة من الاخلاق في تبريرها لجرائمها، عملا بالمثل الشعبي " العذر أقبح من الفعل " ، فهي تقتل القتيل وتمشي في جنازته، ومن ثم تتهم أهله بقتله، أي قباحة هذه، وأي استهتار في العقول والمقدرات خدمة لصالحها، وخيانة حتى أقرب حلفاءها المنساقين وراءها " كالجراء".

اللعب بالكلام، وارباك الاحداث، وتشتيت الأفكار بمعلومات مغلوطة، نجح فيها الاعلام الأمريكي والغربي للأسف في تسويقه الى عقول وفكر الكثيرين، حتى أولئك المقتنعين بالخباثة الامريكية وكذبها، وسنسوق اليكم آخر هذه " الخزعبلات " الامريكية، التي تستخف بالجميع دون استثناء، وتستهتر بكل الأعراف الأخلاقية والإنسانية، والتي تؤكد " نظرية المؤامرة " تجاه روسيا، والتي يحاول الكثيرين طمسها او تجاهلها.

وكب معظمنا جريمة تعرض خطوط نقل الغاز الروسي عبر قاع البلطيق، "السيل الشمالي" و"السيل الشمالي-2"، للتفجير في 26 سبتمبر الماضي، فكل مؤشراتها تدل على ان " للخبث " البريطاني، والولايات المتحدة الامريكية، اليد الطولى في تنفيذ هذه " الجريمة "، ولا يختلف عن هذا اثنين، حتى اللجان التحقيقية التي تم تشكيلها في المانيا والدنمارك والسويد، تمتلك هذه الحقيقة، لكنها " تسترت " على الحقائق التي توصلت اليها، تلك الحقائق الني لا تدين روسيا وتنفي تورطها في تفجير خط الانبوب، والذي هو ملك لشركة روسية، وبالتالي فأن الانفجار لم يكن مفيدا لروسيا.

والضربة التي قصمت ضهر البعير الأمريكي، هي تلك الحقائق التي قدمها الصحفي الأمريكي الشهير سيمور هيرش، في الـ 8 من فبراير الماضي، في تحقيقه الصحفي حول حادثة تفجير خطوط أنابيب "السيل الشمالي"، التي وقعت في الـ 26 من سبتمبر 2022، مستندا فيه إلى معلومات استخبارية، قال إنه حصل عليها من أحد المتورطين بشكل مباشر في الإعداد لعملية التفجير، ووصفها " بالموثوقة "، وأشار هيرش في تحقيقه، إلى أنه تم زرع عبوات ناسفة تحت خطوط أنابيب "السيل الشمالي"، من قبل الولايات المتحدة، تحت غطاء تدريبات BALTOPS العسكرية، بدعم من المتخصصين النرويجيين، الذين قاموا بتفجيرها بعد 3 أشهر، ونوه هيرش، بأن الرئيس الأمريكي، جو بايدن، اتخذ قرار إجراء العملية، بعد 9 أشهر من المناقشات مع مسؤولي الأمن القومي في إدارته.

أن عدم وجود أي استنتاجات تستند إلى نتائج ثلاث تحقيقات غربية في الانفجارات في خط أنابيب الغاز "السيل الشمالي"، وكما يقول الجنرال الفرنسي دومينيك ترينكان، الذي ترأس سابقا البعثة العسكرية الفرنسية لدى الأمم المتحدة، قد يشير ذلك إلى قمع متعمد لنتائجها، وأضاف "ليس لدينا كل المعلومات في أيدينا، وما يذهلني هو أن هناك تحقيقات ألمانية وسويدية ودنماركية، حيث تم بالفعل جمع الكثير من المعلومات، ومع ذلك، لا توجد نتائج، وإذا لم يكن هناك شيء، فربما تكون هناك نتائج لا يريدون ببساطة الإعلان عنها".

الاحراج الكبير الذي وقعت فيه الولايات المتحدة، والدول التي تشكلت فيها اللجان التحقيقية للتعرف على المسبب " بالجريمة " بسبب تقرير هيرش، جعل أمريكا، التي حاولت بكل السبل والطرق، درء الاتهام عن نفسها، ومحاولة دفعه الى جهات أخرى، وهنا بدأ " الاستخفاف والمكر " الأمريكي، فبعد ان بعدت الشبهات عن روسيا، بأنها هي من قامت بتفجير خطوطها بتهمة " استخدام الغاز " كوسيلة للضغط على أوروبا، ولذر الرماد في العيون، اطلقت وسائل الاعلام الغربية " بالونة " اختبار، تفيد بان جهاز الامن الاوكراني هو من نفذ هذه الجريمة.

وحتى لا تكون هناك " وقيعة " بين أوكرانيا وألمانيا (المستفيد الرئيس من خط الانابيب نورد ستريم)، وإمكانية ان تتخذ برلين خطا متشددا تجاه كييف، وتوقف المساعدات العسكرية والمالية لها، جاء الدور على وسائل الامريكية، وطبعا بالتنسيق مع السلطات الامريكية، عادت لتكشف لنا هذه المرة، ما تقول عنها معلومات استخبارية جديدة، تفيد بأن مجموعة موالية لأوكرانيا، تقف وراء ارتكاب أعمال تخريبية على خطي أنابيب الغاز "السيل الشمالي 1 و2".

ووفقا لصحيفة "نيويورك تايمز"،، ونقلا عن مسؤولين أمريكيين، فإن "مجموعة مؤيدة لأوكرانيا" تصرفت دون علم السلطات الأمريكية والمانية والسويدية والدنماركية والاوكرانية ودول أوربا مجتمعة (على أساس ان اوروبا ترتبط بنظام امني موحد)، يمكن أن تكون قد ارتكبت التخريب على خطوط أنابيب الغاز السيل الشمالي " ياحلاوة "، وتم تحديد أن المسؤولين رفضوا الكشف عن طبيعة المعلومات الواردة، وكيف تمكنوا من الحصول عليها، وأية تفاصيل حول الأدلة الواردة فيها، وبحسب المخابرات، فإن منفذي الهجوم هم "من المعارضين لفلاديمير بوتين"، وأضافت الصحيفة، لا شيء يقال عن تكوين هذه المجموعة وقادتها المحتملين، واحتمال وجود صلات بين منفذي الهجوم والحكومة الأوكرانية لا يزال مفتوحا، وبحسب الصحيفة، ربما تم زرع المتفجرات على خطوط أنابيب الغاز من قبل غواصين ذوي خبرة لا علاقة لهم بالجيش أو الخدمات الخاصة (أكيد ممن كانوا يتسكعون في شوارع أوروبا !!)، وفي الوقت نفسه، قال مسؤولون أمريكيون إنهم لم يعثروا على أي دليل على تورط روسي في هذه الهجمات، و"بالمفتشي"، هي محاولة " للملمة الموضوع .

ولأكمال أركان "الكذبة" الامريكية، أنيط الى صحيفة المانية مغمورة أخرى، مهمة الترويج لذلك، حتى يبان الأمر، وكأنه ليس الاعلام الأمريكي وحده من كشف هذه الحقيقة، فقد أفادت صحيفة "تسايت"، بأن المحققين الألمان تمكنوا من تحديد السفينة التي استخدمت في تفجير أنابيب الغاز "السيل الشمالي" في بحر البلطيق، وأن مواطنين أوكرانيين قد يكونون وراء العملية، و إن تحقيقا مشتركا، أجرته مع شبكة ARD الإعلامية وصحيفة SWR، يدل على "أثر أوكراني" في عملية تفجير "السيل الشمالي" على الرغم من أنه لا يزال مجهولا من أمر بتنفيذ العملية، وانه وحسب معلومات الصحيفة، فإن المحققين كشفوا عن السفينة التي استخدمت خلال العملية، وهي يخت تم استئجاره من شركة بولندية، يعتقد أنها مملوكة من قبل أوكرانيين اثنين، " ياحلاوة " .

وأضاف التقرير أن عملية التفجير نفذها فريق من 6 أشخاص، هم 5 رجال وإمرأة، كان يضم قبطان السفينة، وغواصين اثنين ومساعدين اثنين وطبيبا، وهم نقلوا المتفجرات إلى مكان الحادث ووضعوها هناك، وانه لم يتم تحديد جنسيات منفذي العملية، حيث استخدموا جوازات سفر مزورة لاستئجار السفينة، ويشير التقرير إلى أن السفينة أعيدت إلى صاحبها بعد تنفيذ العملية، وتم العثور على آثار المتفجرات في حجرتها، " ياحلاوة "، والسؤال المهم، أين كانت هذه المعلومات قبل تقرير سيمور هيرش ؟ ولماذا تم تسريبها الان؟ .. وهل الأجهزة الأمنية المانية " غافية " الى هذا الحد؟ ولماذا لا يت إشراك روسيا في التحقيقات الخاصة بأنبوبها؟، واسئلة أخرى كثيرة.

هذا الكلام وغيره، لا "ينطلي" حتى على أبسط الناس،، ولا تقنع المتلقي بما لا يعقل، خصوصا وإنه لا توجد ثقة في حيادية استنتاجات أجهزة المخابرات الأمريكية بخصوص تفجيرات أنابيب الغاز السيل الشمالي، وأنه تم تصميم التسريبات في وسائل الإعلام الأمريكية من مصادر مجهولة بخصوص تخريب خط أنابيب السيل الشمالي، لإرباك أولئك الذين يحاولون بصدق فهم هذه الحالة، فلا توجد ثقة في حيادية استنتاجات أجهزة المخابرات الأمريكية.

وأمام هذه المعطيات، نحن لسنا مضطرين للدفاع عن روسيا، فالحقائق هي من تدافع عنها، وتثبت مصداقية موسكو، في طروحاتها، فقد أثبتت المنشورات التي أشرنا إليها، حول الهجوم الذي تعرضت له أنابيب "السيل الشمالي"، هي مجرد شائعات تم بثها بطريقة مقصودة،  ومحاولة " للاستخفاف " بالآخرين، ومن الواضح أن الجهة التي نفذت الهجوم تريد من خلالها تحويل الانتباه لمصلحة الفاعل الحقيقي، وأنه لا يمكن أن نفهم كيف يمكن للمسؤولين الأمريكيين، الذين أشارت إليهم وسائل الإعلام في تقريرها، أن يقدموا فرضيات حول الهجوم الإرهابي الذي استهدف خطي أنابيب "السيل الشمالي"، دون إجراء تحقيق، اذن، ما نشرته الصحافة الأمريكية، حول تورط مجموعة موالية لأوكرانيا في الهجوم الإرهابي، تهدف أيضا إلى توجيه التحقيق في الحادث، إلى مسار خاطئ، ومحاولة للتشويش على أولئك الذين يحاولون بصدق الوصول إلى الحقيقة، وبرأيكم، هل يمكن تبني "الرواية الامريكية"؟ .

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

في المثقف اليوم