آراء

نوري باشا السعيد.. قراءة جديدة

قد يتساءل القارىء الكريم الآن: ماذا ستعني هذه "القراءة الجديدة"؟ هل ستطرحُ شيئاً جديداً عن هذه الشخصية التي أشبعها الباحثون دراسة وتفكيكاً! لذلك سَنُبيّنُ ما يلي:

ما نقصده ب"القراءة الجديدة" هو طرحٌ مُخالف لما يُشاع بعد سقوط نظام صدام حسين 2003 وما بعدها. فقد ظهر إتجاه جديد يتمثّل بالحنين الى العهد الملكي عموماً، والى الباشا السعيد خصوصاً، بإعتباره أكبر سياسي ملكي (1) وفي هذا الإتجاه من الأخطاء والمغالطات التاريخية الشيء الكثير (2) وعليه فلا بُدّ من تسليط الضوء على الباشا من خلال المصادر والمراجع المُعتَبَرَة، فهذا هو الطريق الصحيح.

ستكون خطة البحث كما يلي:

1ـ لمحة سريعة عن ولادة الباشا ونشاته

2ـ عقائده السياسية والقيم التي يؤمن بها

3ـ التصفيات السعيدية؟

4ـ إرتباطه ببريطانيا

5ـ الباشا والشيوعية

6ـ الباشا وتدّخل الجيش في السياسة

7ـ الباشا وإستغلال النفوذ الشخصي وإمتلاك العقارات

8ـ حِنكة الباشا تحت الإستفهام

1ـ الولادة والنشأة:

أقرّ دارسٌ مُميّزٌ (3) للباشا بقلة المعلومات المتوفرة عن طفولة الباشا وتبعثرها، فقد إختلفت المصادر في تحديد الموطن الأصلي لأسرته، ولم تتفق على تحديد نسبه. وعَلّل الباحث ذلك بأن الباشا نفسه لم يُشر في كتاباته وأحاديثه الخاصة والصحفية الى إنتمائه القومي.

وُلِدَ الباشا ببغداد سنة 1888م وقضى طفولته في جوٍ أقرب الى الإنغلاق منه الإنفتاح، وهذا ما إنعكس على شخصيته فيما بعد. يقول توفيق السويدي:

(نشأ نوري في بيئة إقليمية محدودة لم يستطع التخلص من مؤثراتها رغم الزمن الطويل الذي عاش فيه وهو متصل بكبار الطبقات من أجانب وشرقيين) (4)

إنعكس ذلك على شخصيته، فقد عانى من الكبت في البيت والكُتّاب، فكان منكسراً خانعاً، لكنه عندما يخرج الى الشارع يكون على النقيض، إذ كان يُنَفّسُ عن كبته بمصارعة الصبيان بالأيدي والتشاجر بقوة. ولعل ذلك قد أصابه بنوع من التناقض في شخصيته، فهو حيناً منكسر وحيناً آخر وحشٌ كاسر (5)

2ـ عقائده السياسية والقيم التي يؤمن بها:

كان السعيد "ميكافيلياً نفعياً" فالغاية عنده تُبَرّر الوسيلة، وهذا يعني بأن طريقه سيكون طريق "المساومة على حساب المبدأ" (6) وكان "دكتاتورياً سلطوياً" فلا مجال لإطلاق الحريات العامة مع الباشا (7) وأهم شيء عنده هو "البقاء في الحكم" وكان لا يعرف الحقد والحسد إلا في السياسة (8) وكل القيم عنده تكون تحت رحمة القيمة السياسية، فالقيمة الدينية في خدمة القيمة السياسية، وتتأثر قيمة الصداقة لديه بالقيمة السياسية (9) فكان كثير السخاء لمعارضيه الأقوياء وقاسي القلب على خصومه الضعفاء (10)

3ـ التصفيات السعيدية:

إرتبطت بعض الإغتيالات السياسية في العراق بإسم الباشا، ونحن بدورنا سنُرَكّزُ على إثنين: توفيق الخالدي والملك غازي.

كان الخالدي شخصية فَذّة وذو كفاءة نادرة، وكان خصومه السياسيون يخشون بأسه ويوجسون خيفة من قُرب صيرورته رئيساً للوزراء حيث يقضي على طموحهم ويُبَدّد أحلامهم وقد يُمهّد لقيام حكم جمهوري في العراق (11)

تتجه أصابع الإتهام في تصفية الخالدي الى الملك فيصل الأول ونوري السعيد وجعفر العسكري. نشرت جريدة العراق في 25 شباط 1924 الخبر الآتي:

بينما كان معالي توفيق بك الخالدي وزير الداخلية السابق ذاهباً الى داره في محلة جديد حسن باشا مساء أول أمس ـ أي مساء الجمعة 22 شباط ـ إذا بيد أثيمة أطلقت عليه أربع عيارات نارية فأردته قتيلاً لساعته، وقد هرب الجاني حالاً فأسرعت الشرطة بعد الواقعة ببضع دقائق ولكن رأت أن الرجل قد قضى وهرب الجاني. وقد تبين من الكشف الطبي أن العيارات النارية هي من مسدس من نوع البرونيك، وأن الرصاصات إجتازت من ظهره الى قلبه حيث توفي حالاً. (12)

بسبب غياب الدليل المادي، فقد إحتار الناس في تعليل الحادثة، فقال بعضهم: كان القتيل من أنصار الجمهورية، وكان يرى رأي عبد الرحمن النقيب في وجوب إسناد الحكم في العراق الى عراقي، فإتفق الملك فيصل مع وزيريه جعفر العسكري ونوري السعيد على وجوب التخلص من الخالدي، فأسر الوزيران الى شاكر القره غوللي، فتبعه الأخير وأرداه قتيلاً. يُعقّب عبد الرزاق الحسني:

(ويُدلل أصحاب هذا الرأي على رأيهم: أن كُلاًّ من العسكري، والسعيد والقره غوللي، لقي حتفه مقتولاً فكانوا مصداقاً للحديث المعروف "بَشّر القاتل بالقتل") ثم يذكر الحسني حادثة شخصية معه في غاية  الأهمية:

(وقد جمعت المعتقلات التي أقامها الإنكليز في العراق في أعقاب الحركة التحررية التي قامت في آيار سنة 1941، أشتاتاً من الناس، وكان عبد الله سرية ممن قضى مع المؤلف نحو سنتين في "معتقل العمارة" وقد سمع  من عبد الله بأنه هو الذي قتل الخالدي، وأن  شاكر القره غوللي كان شريكه في القتل، وأنه كان عضواً في جمعية سرية هدفها الفتك بمن يشايع الإنكليز، وأن الخالدي كان أحد هؤلاء المشايعين) (13)

ويقول محمد حسين الزبيدي بأن الملك فيصل قد قرر التخلص من الخالدي وتصفيته في أقرب فرصة قبل إستفحال خطره، وقد عهد الى نوري السعيد القيام بهذه المهمة فقام بها ونفذها ليلاً (14)

يروي سامي خوندة:

إتصل نوري السعيد بشاكر القرة غوللي وعبد الله سرية وطلب منهما تنفيذ المهمة. ويُدَلّل خوندة على ذلك أن نوري السعيد قد كافأ قتلة توفيق الخالدي على عملهم، فقد وظّف القرة غوللي مديراً للتصليح في معمل الجيش الذي كان يقع في وزارة الدفاع القديمة. وعندما أُحيل على التقاعد تزوج من أرملةٍ من بيت الكواز في بغداد وكانت تملك بعض الأملاك وكان  لها مزرعة في بعقوة قُتل فيها القره غوللي.

أما عبد الله سرية فقد تَمَكّن عن طريق نوري السعيد من إدخال إبن أخته الى المدرسة العسكرية وتخرج فيها. وكان دائماً يفاخر بأن خاله عبد الله سرية قاتل العملاء (15)

أما  بشأن الملك غازي، فقد رحل الى ربه في حادث السيارة المعروف في عام 1939، وفي ظِل غياب الدليل المادي، فما على الباحث إلاّ تفكيك هذا اللغز وتشخيص المستفيد من تصفية غازي.

لقد أشارت الوثائق البريطانية الى أن البريطانيين قد فَكّروا في إزاحة غازي منذ عام 1936 (16) وأن الباشا كان يحقد على غازي لإعتقاده بعدم كفاءته وإعلانه مراراً ضرورة تنصيب الأمير زيد أو الأمير عبد الإله مكانه. وأصبح الأمير عبد الإله واقعياً من أهم المستفيدين من مقتل غازي (17) وبشأن الرأي العام، فقد همست الجماهير بأن الإستخبارات البريطانية ونوري السعيد قد دبّرا إغتيال الملك. وقد حاول السعيد تجنب غضب الجماهير بالوصول الى المقبرة الملكية بواسطة قارب نهري ثم رجع الى المكان بنفس الوسيلة (18).

4ـ إرتباط الباشا ببريطانيا:

كان السعيد قلباً وقالباً مع الإنكليز، يقول ذلك بكل صلابة وصراحة (19) وكان صاحب مدرسة سياسية آمنت بالتعاون مع الغرب، وكانت له وجهة نظر خاصة في الحكم قامت على إحترام الأمر الواقع وتقديره حق تقدير ويحيطها إطار من التفاؤل (20)

لكن الأمر المهم هنا:

هل من المناسب أن نصف السعيد ب"العميل"؟ أي عميلاً لبريطانيا؟ قبل أن نخوض في هذا الأمر، لا بُدّ من أن نُقَرّرَ ب"تطرف السياسة السعيدية" هذه. فمثلاً رُستم حيدر، كان ينتمي الى مدرسة نوري السعيد السياسية، إلا أنه  لم يكن متطرفاً في تأييده للبريطانيين، لذا فإنه  كان يُمثّل الجناح المعتدل للمدرسة السعيدية (21)

يَتَحَفّظ الباحثون المعتبرون في ذلك، يقول عبد الرزاق النصيري:

(من الصعب جداً أن يُصَنّف نوري، على الأقل في المرحلة التي تدخل في الإطار الزمني لرسالتنا، ضمن الأعداء، أو العملاء) (22)

وتقول ليلى الأمير:

(على وفق تلك القناعات، ليس من السهل القول أن نوري السعيد كان عميلاً بريطانياً أو أنه تصرّف وكأنه عميلٌ فعلاً) (23)

نشرت جريدة الفرات ـ وهي من صُحف ثورة العشرين ـ وثيقة مهمة، رسالة عاجلة من "المؤتمر العراقي" في سوريا الى رؤساء الشامية في النجف الأشرف، ولطولها سنختصرها بالآتي:

ربما يحضر إليكم من الشام الجنرال نوري السعيد ليقوم بهذه المهمة المشار إليها التي أناطتها به السلطة البريطانية، ألا وهي توطيد أركان الإحتلال وتثبيت أقدامه في العراق بمفاوضة العراقيين ودرس أفكارهم وتسكين خواطرهم وتعليلهم بالأماني والمواعيد الكاذبة، وربما إتخذت السلطة المحتلة جميع الوسائل المادية والمعنوية التي من شأنها أن تجعل لكلامه شأناً ولشخصه قبولاً أينما حَلّ،  فتُكثر من ذِكر إسمه مقروناً بالجهر والثناء عليه وعلى مبادئه وتتظاهر بإحترامه وتبجيله. لا يحتاج بعد هذا أن نُبيّن لكم واجبكم الذي تؤمنون به إزاء هذا الرجل إذا فارقنا إليكم بهذه المهمة، وخصوصاً الإجتهاد بمقاطعته والإعراض عن أقواله وتحذير الناس من الوقوع في حبائله والسهر على تتبع خطواته ومراقبة حركاته وعرقلة مساعيه. لا تُبالوا أيها الإخوان ولا تقيموا له وزناً ولو إدعى الكلام بإسم الملك حسين والملكين فيصل وعبد الله أو بإسم المؤتمر العراقي الموجود في حاضرة الشام. (24)

وينقل مظهر أحمد عن فاروق صالح العمر، أن الوثائق السرية البريطانية قد ذكرت بأن السعيد كان يتجسس على أعمال المؤتمر العراقي في سوريا ويُزوّد المصادر المختصة بتقارير سرية مفصلة عنها (25)

ما يهمنا الآن هو رأي كمال مظهر أحمد بهذه الوثيقة:

(وهي تُعد أول تقويم صحيح لشخصية نوري السعيد الذي أصبح رجل الميدان السياسي الرسمي للعراق على مدى أربعة عقود أعقبت "ثورة العشرين". وتزداد أهمية الوثيقة أكثر إذا تذكّرنا أن نوري السعيد كان يُعدّ يومذاك أحد الوطنيين العاملين في سبيل القضية العربية، وأنه كان واحداً من أنصار الأمير فيصل المقربين الذي لم يقف أحد بعد على دقائق صلاته السرية مع الإنكليز) (26) ليقول مظهر أحمد في حاشية خاصة:

(إتضح ذلك كله بعد الكشف عن الوثائق السرية البريطانية، أي بعد مرور عشرات السنين على التقويم الصحيح الذي نشرته جريدة "الفرات" أيام "ثورة العشرين") (27)

وبطبيعة الحال ـ وهذا من مستلزمات البحث العلمي ـ لا بُدّ من الإشارة للوثيقة البريطانية التي أشارت صراحة ل"عمالة" نوري السعيد.

يقول النصيري:

(تؤكّد إحدى الوثائق البريطانية الخاصة أن نوري السعيد إستُخدم على إثر ذلك عميلاً للمخابرات البريطانية، وزار الهند لهذا الغرض) (28) ثم يُعقّب: (ورغم ذلك يجب على الباحث أن يُقيّم فحوى الوثيقة البريطانية المذكورة، ومغزاها في إطار الزمان والمكان ودون التطرف في تحميلها أكثر مما تتحمل على ما نعتقد. ويجب أن نأخذ بنظر الإعتبار أيضاً أن نوري في هذه الفترة كان هارباً من الدولة العثمانية ومحكوماً عليه بالإعدام) (29)

والإشارة هنا الى وقوع السعيد في قبضة البريطانيين في البصرة عام 1914 ونُقل بعدها الى الهند.

ومما يجدر ذكره هنا أن أغلب "الكُتّاب السعيديين" قد كانوا على جهل بهذه الوثيقة، أو بالأحرى تجاهلوها (30)

لكن السؤال الأهم هنا: هل عادت سياسة السعيد بالنفع على العراق؟ سياسته المبنية على "إحترام الأمر الواقع حق الإحترام"؟ تقول ليلى الأمير:

(نخلص من كل ذلك إن نوري السعيد لم يُحقق للعراق أي نتائج ملموسة من جرّاء تعامله مع الغرب وتضحيته بالإنضمام الى حلف بغداد) (31)

ويقول كاظم حبيب:

(كان ـ يقصد السعيد ـ حليفاً مخلصاً لبريطانيا يستند لا الى عمالة مباشرة لها بقدر ما كان يلتقي معها في الفكر والسياسة والمصالح، رغم أن المستفيد الأول من كل ذلك كانت بريطانيا والمتضرر الرئيسي في مثل هذا التحالف والطريقة التي كانت تتم بها هو الشعب العراقي) (32)

لكن الأهم من ذلك كُله أن نوري نفسه ـ رغم بقاءه وفيّا لمبادئه أي لإرتباطه بالغرب وهذا ما دفع ليلى الأمير للإستغراب (33) ـ قد إستاء من سياسة بريطانيا في سنواته الأخيرة، بل إنفجر بوجه السفير البريطاني وصارحه: بإستطاعتي أن أكون بطلاً قومياً يُحمَل على الأعناق (34)

لكن المشكلة السعيدية الأولى هنا، أن السعيد كان يرى ـ كما نقل عنه صديقه أسعد داغر ـ : إذا كان نهر دجلة لا يزال يجري فما ذلك إلا بفضل الإنكليز!! (35)

ثم هل من المعقول أن تبقى السياسة السعيدية مع بريطانيا بإتجاه ثابت؟ فإن كانت مُبَرّرَة في بدايات تأسيس الدولة العراقية، فلما الإصرار عليها حتى النهاية! وهذا ما دفع أحمد مختار بابان ـ آخر رئيس وزراء في العهد الملكي ـ الى أن يُوَجّه نقده للسعيد:

فقد يكون السعيد  مُحقاً في إستناده على الإنكليز أثناء مدة الإنتداب، ولا بأس بهذه السياسة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. لكن نوري ظل متمسكاً بصداقة الإنكليز، وكانت سياسته هذه خاطئة جداً (36)

5ـ الباشا والشيوعية:

للسعيد صيتٌ كبير في محاربة الشيوعية في العراق والمنطقة، وهو من قام بإعدام فهد وزميليه زكي بسيم وحسين الشبيبي علناً في ساحات مختلفة من بغداد في 1949 (37) وهذا ما دفع حنّا بطاطو الى القول:

(إن موت فهد أثبت كونه أقوى من حياته، إذ صارت الشيوعية محاطة الآن بهالة الإستشهاد) (38) ونحن مع حنّا بطاطو بكل تأكيد، فأي فكرة تُحرًم من ممارسة العمل العلني، ستتجه الى الخفاء، لتنمو تحت الأنقاض، ثم تكبر وتكبر لتُشكّل خطراً كبيراً على النظام الذي خنقها. وللباشا صيتٌ سيء في هذا المجال، فكل من يخالفه سيكون إشتراكياً وشيوعياً! وهو صاحب حكومة المراسيم الإرهابية في خمسينيات القرن الماضي، وصاحب "حلف بغداد" الذي أراد منه أن يكون سدّاً منيعاً بوجه الخطر السوفيتي الموهوم (39) ورغم إيجابيات هذا الحلف من ناحية تعزيز دفاعات العراق الداخلية والبنية التحتية للدولة، لكن كانت سلبياته كبيرة، فقد قَسّم العالم العربي الى معسكرين وأدخل العراق بسلسلة من مشكلات السياسة الخارجية في وقت إحتاج فيه الى تركيز إهتمامه على الجبهة الداخلية، وولّد حملة مستعرة معادية للغرب في المنطقة، وهي حملة يكاد العراق يكون بغنى عنها (40)

ومن يعلم بتحالف الباشا الوثيق مع زعماء القبائل، لن يستغرب من عداءه الشديد للشيوعيين، فقد أشاد الباشا بالنظام العشائري في مؤتمر صحفي في عام 1957، بل أنكر وجود الإقطاع وإعتبره مجرد مكيدة شيوعية (41)

بل وصل الأمر بالباشا الى محاربة أي إتجاه إصلاحي مهما كان حجمه بسيطاً يستهدف إنصاف الفلاحين وسحب البساط من تحت الملاكين الكبار. فعندما وصل محمد فاضل الجمالي لكرسي الوزارة في عام 1953، إنتعشت الآمال بدء عهد جديد، خصوصاً وأن فيصل الثاني قد إستلم مهامه الدستورية في هذه السنة أيضاً.

قامت وزارة الجمالي مُمثلة بوزير المالية عبد الكريم الأزري، بتقديم مشاريع إصلاحية، فإقترح بعض اللوائح لإنصاف الفلاحين بقدر أو بآخر لتضع حدوداً لتحايل المتنفذين وأساليبهم الملتوية التي حرمت هؤلاء من حقوقهم وعلى نطاق واسع خصوصاً في العمارة.

لم تَرَ هذه المشاريع الطموحة النور، بل إصطدمت بمعارضة نوري السعيد وكبار الملاكين، فوقفت قوى الحسم ـ البلاط الملكي والسفارة البريطانية والشيوخ في خندق الباشا (42)

6ـ الباشا وتدخل الجيش في السياسة:

قد يبدو للوهلة الأولى أن السعيد بعيدٌ عن هذا الإتجاه، خصوصاً وأنه قد كان ضحية لهذا التدخل في 1958.

لكن الحقيقة خلاف ذلك! يقول سليم طه التكريتي:

(كان نوري السعيد منذ أن توفي فيصل هو أول من وضع أسس تدخل الجيش في السياسة، وقد دفعه نجاح إنقلاب بكر صدقي في سنة 1936 الى ركوب مثل هذا المركب الصعب الذي ألحق بالبلاد الخراب والدمار لعدة أجيال سابقة. فقد إصطفى نوري السعيد هؤلاء العقداء الأربعة ومن والاهم من ضباط الجيش لتنفيذ مؤامراته وتطلعاته الخاصة. فلطالما فرضوه على غازي عدة مرات لكي يؤلف الوزارة) (43)

وقد أزاح ضباط الجيش وعلى رأسهم العقيد صلاح الدين الصباغ حكومة جميل المدفعي بالقوة في الإنقلاب العسكري الثالث في العراق، ووضعوا نوري السعيد على رأس الوزارة (44)

يقول العقيد جرالد دي غوري:

(وهكذا وصل نوري السعيد، الذي كان يتشكّى بمرارة من تدخّل الجيش في السياسة، الى الحكم نتيجة عمل قام به الجيش ذاته) (45)

ويقول سندرسن باشا:

(لم يكن نوري السعيد يوافق على تدخل الجيش في الأمورالسياسية، ومع ذلك فقد إلتجأ الى هذا التدخل عشية عيد الميلاد سنة 1938 للتخلص من الوزارة المقيتة التي كان يرأسها جميل المدفعي. وقد نجح هذا الإنقلاب، فأصبح نوري السعيد رئيساً للوزارة، لكنه قد إختار في هذا سابقة خطرة، هي ذات السابقة التي إستُعملت بعد عشرين سنة لقتل أفراد العائلة المالكة، وقتل نوري نفسه بصفة لا إنسانية!) (46)

بل إن مؤرخة من طراز فيبي مار قد صَرّحت:

(وقد زرع نظام نوري السلطوي بين 1954 و1958 بذور الديكتاتورية العسكرية المستقبلية) (47)

7ـ الباشا وإستغلال النفوذ الشخصي وإمتلاك العقارات:

يوجد تصوّرٌ عام على أن الباشا كان بعيداً عن إستغلال نفوذه الشخصي في الدولة، فهو بنظر كاتب سعيدي (48): نزيهٌ وشريف، عاش ومات وليس له من حُطام الدنيا إلا كفنه، وتاه أهله من بعده وبعد مقتل إبنه الوحيد صباح. وبنظر سعيدي آخر (49): مات هو وولده ولا يملكان واحداً من ألف دينار بالمائة مما يملكه أي إمعة من إمعات هذه الأيام ولما إضطرت زوجته الى قبول الإعانات.

أما حازم جواد ـ القيادي البعثي السابق ـ فقد قال:

(كنا نقول عن نوري السعيد عميل الإستعمار لكن، لم يطعن أحد في نزاهته أو أنه قبض رشوة من هذا أو ذاك، ولا أدري إن كان الإنكليز دفعوا له أم لا، ولكنني حتى هذه أشك فيها) (50)

لكن توجد أدلة مخالفة، فقد ذكر بيتر سلغليت:

(إستغل ياسين الهاشمي ونوري السعيد اللذان كان ضابطين في الجيش العثماني، موقعهما لإمتلاك أراضٍ وتمرير قوانين تُشَرّعن هذه الصفقات أو تكفل لهما إعفاءات ضريبية) ويقول في موضع آخر نقلاً عن وثيقة أجنبية بأن أراضي منطقة أبو عوسج الواسعة قد أُعطيت الى أربعة سياسيين منهم نوري السعيد (51)

ومما يُقويّ ذلك أن أقران السعيد من السياسيين الكبار آنذاك قد إتُهموا بالإستيلاء على الأراضي ومنهم صهره جعفر العسكري (52)

أما حنّا بطاطو فقد أورد جدولاً مُفصّلاً للأراضي الزراعية المملوكة لرؤساء الوزارات في العهد الملكي في عام 1958، فكانت حصة الباشا فيه صفراً، لكن كانت حصة إبنه صباح 9294 دونم (53)

وقد ذكر توفيق السويدي ـ السياسي الملكي المعروف ـ أن صباح كان نقمة على والده وحِملاً ثقيلاً على عائلته بتقريب الأشقياء والسفلة وحشرهم في جو والده، فأثروا غاية الثراء (54)

8ـ حِنكة الباشا تحت الإستفهام:

المشهور عن الباشا هو أنه كان سياسياً مُحنّكَاً، فهو أقدر رجل دولة في الشرق الأدنى (55) ويكاد أن يكون أسطورة القرن العشرين، شعلةٌ ذكاء يتمتع بصفات لا توجد في رجل آخر (56) وهو "تاليران الشرق" برأي مؤرخ ممتاز (57)

نقول:

هل من الحِنكة أن يستمر الرجل على سياسة ثابتة مع عدم مراعاة تغيّر الظروف والأحوال؟ أن يبقى متمسكاً بصداقته للإنكليز؟ يُهمل الشباب لتتلقفهم المعارضة؟ أن يصبح قليل الإختلاط بالناس خصوصاً في أيامه الأخيرة، فلا يسمح إلا لعدد قليل من الأشخاص المكروهين من أكثرية الناس الإتصال به؟ (58) هذه "الحنكة" التي جعلت وصفي طاهر "المرافق العسكري للباشا" (59) مع قادة ثورة تموز؟ هذا مع ضرورة التأكيد على أن الباشا كان مصاباً بداء العظمة (لم يُخلَق بعد الرجل الذي سيجرؤ على إغتيالي) (60)

من جانبنا فنحن نضع هذه "الحنكة" بين مزدوجين تحفظَاً.

وفي نهاية البحث لا يسعنا إلاّ ما يلي:

هل هذه الصورة عن الباشا، والتي إستقيناها من مصادر متعددة كما شاهد القارىء الكريم، تستحق هذا الحنين من قِبَل البعض الآن؟! خصوصاً من الأجيال الجديدة التي لم تعاصر الباشا ولم تَطّلع على سيرته من خلال المصادر المعتبرة؟! هل من المنطق والعقل أن يختم باحث (61) كتابه عن الباشا بعد أن أورد الكثير مما ذكرناه في أعلاه بما يلي:

(مضى المارد العملاق الى ربّه تاركاً صيتاً يلفّه العطر والذكر الحسن)؟!

نترك الحكم للقارىء الكريم.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

.........................

الحواشي:

1ـ لو لم يرحل عبد المحسن السعدون في 1929 وياسين الهاشمي في 1937 لما تمكّن الباشا برأينا من أن يحتل الصدارة.

2ـ وهذا ما ناقشناه بإسهاب في كتاباتنا السابقة.

3ـ عبد الرزاق أحمد النصيري: نوري السعيد ودوره في السياسة العراقية حتى عام 1932، مراجعة: كمال مظهر أحمد، اليقظة العربية بغداد 1987 ص15 و16 و17

4ـ النصيري: المصدر السابق ص17 و18 و19

5ـ محسن محمد المتولي العربي: نوري باشا السعيد من البداية الى النهاية، الدار العربية للموسوعات بيروت ط1 2005 ص21

6ـ المصدر السابق ص30 و31

7ـ المصدر السابق ص32

8ـ المصدر السابق ص35

9ـ المصدر السابق ص50 و51

10ـ يعرب عبد العباس الشمري: نوري السعيد ـ تأريخه الشامل ودوره السياسي الريادي في العراق لنصف قرن ج1 دار أبجد للنشر والتوزيع العراق بابل ص22

11ـ عبد الرزاق الحسني: تأريخ الوزارات العراقية ج1 وزارة الثقافة والإعلام، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد ط7 ص201

12ـ المصدر السابق ص200

13ـ المصدر السابق ص200 و201

14ـ محمد حسين الزبيدي: العراقيون المنفيون الى جزيرة هنجام، بغداد ط2 1989 ص292

15ـ المصدر السابق ص292 و295

16ـ رجاء حسين حسني الخطاب: المسؤولية التاريخية في مقتل الملك غازي، مكتبة آفاق عربية بغداد ط1 1958 ص17

17ـ المصدر السابق ص49 و50 ويُصرّح أحد الباحثين بأنه لم يعثر على دليل مادي يشير الى محاولات من قِبَل عبد الإله للإطاحة بغازي، يُنظَر:

عبد الهادي الخمّاسي: الأمير عبد الإله 1939 ـ 1958 ـ دراسة تاريخية سياسية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ط1 2001 ص70

18ـ لطفي جعفر فرج: الملك غازي ودوره في سياسة العراق في المجالين الداخلي والخارجي 1933 ـ 1939، مكتبة اليقظة العربية بغداد 1987 ص244 و247

19ـ عبد المجيد حسيب القيسي: التاريخ يُكتبُ غداً ـ هوامش على تاريخ العراق الحديث، دار الحكمة ط1 1993 ص127

20ـ ليلى ياسين حسين الأمير: نوري السعيد ودوره في حلف بغداد وأثره في العلاقات العراقية العربية حتى عام 1958، إشراف: فاروق صالح العمر، اليقظة العربية بغداد 2002 ص286

21ـ سعاد رؤوف شير محمد: نوري السعيد ودوره في السياسة العراقية حتى عام 1945، مراجعة: كمال مظهر أحمد، اليقظة العربية بغداد ط1 1988 ص84

22ـ النصيري: المصدر السابق ص328

23ـ الأمير: المصدر السابق ص286

24ـ كمال مظهر أحمد: صفحات من تاريخ العراق المعاصر ـ دراسات تحليلية، مكتبة البدليسي بغداد 1987 ص76 و77

25ـ المصدر السابق ص76 حاشية 63

26ـ المصدر السابق ص75 و76

27ـ المصدر السابق ص76 حاشية 61

28ـ النصيري: المصدر السابق ص42 وتاريخ الوثيقة في عام 1920

29ـ المصدر السابق ص42 و43

30ـ منهم مثلاً: عبد المجيد القيسي في كتابه المذكور أعلاه ص103 ويعرب الشمّري في كتابه المذكور أيضاً ص27، أما محسن العربي فقد تجاهلها في ص25 من كتابه المذكور أيضاً، لكنه عاد وأشار إليها في ص83 ناقلاً بعدها تعليل عبد الرزاق النصيري مع عدم الإشارة إليه!

31ـ الأمير: المصدر السابق ص284

32ـ كاظم حبيب: اليهود والمواطنة العراقية ـ أو محنة يهود العراق بين الأسر الجائر والتهجير القسري الغادر، حمدي للطباعة والنشر سليمانية 2006 ص134

33ـ الأمير: المصدر السابق ص284

34ـ المصدر السابق ص281 و282 وكذلك:

محمود الدرة: ثورة الموصل القومية 1959 ـ فصل في تاريخ العراق المعاصر، اليقظة العربية بغداد ط1 1987 ص70 الى 73

35ـ كمال مظهر أحمد: المصدر السابق ص276

36ـ مذكرات أحمد مختار بابان آخر رئيس وزراء في العهد الملكي، إعداد وتقديم: كمال مظهر أحمد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ط2 2013 ص55

37ـ يوهان فرانزن: نجمة حمراء في سماء العراق / الشيوعية العراقية ما قبل صدام، ترجمة: سعود معن، تقديم: كاظم حبيب، مكتبة النهضة العربية بغداد ط1 بيروت 2022 ص119

38ـ حنّا  بطاطو: العراق ك2 الحزب الشيوعي، بترجمة: عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية بيروت ط3 2003 ص227

39ـ الأمير: المصدر السابق ص285

40ـ فيبي مار: تاريخ العراق المعاصر 1921 ـ 2003 بترجمة: مصطفى نعمان أحمد، مكتبة أوراق ومكتبة المجلة ط1 2020 ص127

41ـ سلام إبراهيم عطوف كبة: إبراهيم كبة غني عن التعريف، دار الرواد المزدهرة بغداد ط1 2011 ص166

42ـ رحيم كاظم محمد الهاشمي: محمد فاضل الجمالي ودوره السياسي ونهجه التربوي حتى عام 1958، مراجعة: كمال مظهر أحمد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ط1 ص2012 ص247 و255 و256 و 257

43ـ ستيفن همسلي لونكرك: العراق الحديث من سنة 1900 الى 1950 ج2 بترجمة وتعليق: سليم طه التكريتي، دار الرافدين بيروت ط1 2019 ص94 حاشية 1 تعليق التكريتي

44ـ سيف الدين الدوري: جميل المدفعي ودوره السياسي في العراق، ضفاف للطباعة والنشر الشارقة بغداد ط1 2022 ص145 و146

45ـ العقيد جرالد دي غوري: ثلاثة ملوك في بغداد، ترجمة وتعليق: سليم طه التكريتي، الأهلية للنشر والتوزيع الأردن ط2 2012 ص147

46ـ مذكرات سندرسن باشا طبيب العائلة الملكية في العراق 1908 ـ 1946 ترجمة وتعليق: سليم طه التكريتي، مكتبة المثنى بغداد ط1 1980 ص210 و211

47ـ فيبي مار: المصدر السابق ص135

48ـ يعرب الشمري: المصدر السابق ج1 ص12

49ـ عبد المجيد القيسي: المصدر السابق ص134

50ـ مذكرات حازم جواد الرجل الذي قاد البعث الى السلطة عام 1963 بدون دار نشر وتاريخ ص180

51ـ بيتر سلغليت: بريطانيا في العراق ـ صناعة ملك ودولة، ترجمة: عبد الإله النعيمي، دار المدى ط1 2019 ص128 المتن + الحاشية

52ـ علاء جاسم محمد: جعفر العسكري ودوره السياسي والعسكري في تاريخ العراق حتى عام 1936، اليقظة العربية بغداد ط1 1987 ص129 و130 الحاشية 308

53ـ بطاطو: المصدر السابق ك1 ص394 و395

54ـ توفيق السويدي: مذكراتي ـ نصف قرن من تاريخ العراق والقضية العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ط2 2010 ص455

55ـ مذكرات سندرسن باشا ص207

56ـ العربي: المصدر السابق ص511

57ـ كمال مظهر أحمد في تعليقاته على مذكرات بابان ص104

58ـ مذكرات بابان ص54 و55

59ـ العربي: المصدر السابق ص512

60ـ مجيد خدوري: العراق الجمهوري،  إنتشارات الشريف الرضي إيران ط1 1408 ص81

61ـ العربي: المصدر السابق ص515

 

في المثقف اليوم