آراء

ماراثون ديالى الطائفي: العَدْو من بغداد، الشريط في سامراء، والصُّفارة طهران (1)

كانت مشهورةً قبل الغزو الأمريكي للعراق، بأنها "مدينة البرتقال". هكذا يعصِرُ العراقيون ذِكرَ مُحافظة ديالى – التسمية الرسميَّة - في وعيهم. بعد 2003م. تعاونت ثلاثة أحداث مركزيَّة على عَصْرِ الحجر، البشر، والأشجارِ فيها وأُمُّهُم البرتقال.

الأول كان تفجيرُ المرقدين – ضريحُ الإمامين علي الهادي وحسن العسكري - في قضاء سُرَّ من رأى (سامراء التسمية الرسميَّة)، في فبراير 2006. الثاني، كان تصفية معسكر أشرف، من منظمة "مجاهدي خلق" الإيرانيَّة، حيثُ يقع المعسكر جوار مدينة الخالص، وقد انطلقت عمليات التصفية في فبراير 2012. أمّا الحدثُ الأب (المركزي)؛ فقد كان استيلاء " داعش" على الموصل، في يونيو 2014.

الأحداث الثلاث المركزية، لعِبت دور جهاز تزويد الطاقة المستمر (UPS)، لعدم الاستقرار في هذه المحافظة، التي تقعُ شرق العاصمة بغداد، على بُعدِ مسافةٍ خجولة جدّاً.. سبعة وخمسون كيلومتراً. الحدثان الأول والثاني – تفجيرُ المرقدين ومجاهدي خلق – وفَّرا بحبوحة طائفيَّة، للميليشيات الإيرانيَّة، لكي تقوم بمجازر ومذابح.

المذبحة وبأبسط تعريف: "هي قتل أكبر عدد ممكن من السكان". أمّا المجزرة فهي: "ذبح عشوائي للأشخاص. وحشي في طبيعته". الميليشيات العقائديَّة، استخدمت مجازِراً ومذابِحاً، لتُخفي سلاح الكاتم الديموغرافي – جريمة التطهير العرقي - عن الضمير الصناعي.. الميديا، سواء كانت المحليَّة، الإقليميَّة؛ بل وحتّى الدوليَّة.

جريمة التطهير العرقي

يتبنى مركز جنيف الدولي للعدالة، هذا التعريف لـ (جريمة التطهير العرقي)، وهي باختصارٍ مُفيد: "عملية الطرد بالقوة لسكّان غير مرغوب فيهم، من إقليمٍ مُعيَّن، على خلفية تمييز ديني، أو عرقي، أو سياسي، أو استراتيجي، أو لاعتباراتٍ إيديولوجية، أو مزيجٍ من الخلفيات المذكورة".

ما حدث في قرية "الجيايلة"، في 20 فبراير 2023، الواقِعة في محافظة ديالى – قضاء الخالص – كان كوكتيل من الدم؛ المضروب في خلَّاطين.. المذبحة والمجزرة. عصيرُ الخلَّاطين، كان كافياً، لملء كأس تعريف جريمة التطهير العرقي.

شروط المذبحة تحققت، لأنها قتلت عدداً كبيراً، من الأفراد الذين لا يقتلون عادةً – النساء والأطفال تحديداً – فقتلُهم يُعتبرُ عاراً إنسانياً، وقَبَليَّاً أيضاً. شرطُ المجزرة موجودٌ بدورِه، إذ صوِّر بأنه ناتج عن عشوائية قانون "الثأر" العشائري. طبعاً، النِّزاعات العشائريَّة، اُستخدِمت وما زالت توظَّف في التبريرات الرسميَّة، كقطعة اسفنج لامتصاصِ الدم.

تبريرُ العشائريَّة، ليس اختِراعاً عراقيَّاً. هو في الأصل، براءةُ اختراعٍ بريطانيَّة. عرَّفها، عالم الاجتماع العراقي عبد الجليل الطاهر كالتالي: " من يستطيع السيطرة على شيوخ العشائر يستطيع السيطرة على العشائر. ومن يسيطر عليها يحكم العراق بكل سهولة".

السُلطات الإدارية، العسكرية، والأمنية، في ديالى، هي وبحسبِ نُشطاء محليين، بيدِ: " مجموعة مُتَنَفِّذة، تجمعُها صِلاتُ قرابة، ومن عشائر بعينها". المعتقلون من أهالي ديالى، كذلك، وبحسبِ معلوماتٍ، غير متداولة في الميديا العراقيَّة: " يمثِّلون نسبة كبيرة من أعداد المعتقلين في سجن مكافحة الإرهاب المركزي". أمّا تاجُ الجحيم؛ الذي ترتديه؛ فيتَمثَّلُ في: " قدوم قوَّات خاصَّة من بغداد، تقوم بحملات اعتقالٍ عشوائية، في مناطقِها. تأخذُهُم بعدها، لمُعتقلاتٍ في العاصمة، بدون علم وتدخل الأجهزة الأمنية والإدارية في المحافظة".

المُفارقة، إن هناك ثلاثين مُعتقلاً، في المحافظةِ نفسها. طبعاً، ليس فيها من الشروط الإنسانيَّة شيء، وفيها من الإجرام ألوان. الأهمُّ من ذلك، حفلات الشتم الطائفيَّة: يا "نواصب". هذا المصطلح خاص لـ "العرب العراقيين السنة"، بتهمةِ رفض ولاية الإمام علي. يترافقُ ذلك مع تهديمٍ مستمر للمساجد.

 النتيجة المطلوبة، وعلى اعتِبار إنَّ أغلب المعتقلين، لم ولن يروا النور أبداً! فإنَّ عوائِلهم ستلعن "الروافض". هذا المصطلح مُخصص لـ "العرب العراقيين الشيعة"، بتهمةِ رفض التكليف الإلهي للرسول العربي. هكذا تزدهر الميليشيات المُسلَّحة، ومُشغِّليها في قُم. يبدو ذلك نصراً عظيماً. خاصَّةً في محافظةٍ مُختلطةِ المذاهب والأعراق.

فخامةُ النصر، تتضحُ في نسيان "السنة والشيعة"، لشعارٍ ردَّدوه، مع طلائع الاحتلال الأمريكي: "لا سنة ولا شيعة.. هذا الوطن منبيعه (لا نبيعُه)"، ليُصبِح: "لا سنة ولا شيعة، انعل ابو اللي ميبيعه (تباً لمن لا يقوم ببيعه)".

ديالى.. معمل طابوق "محافظة سامراء"!

مرَّ سبعة عشر يوماً، تقريباً، ما بين المذبحة – المجزرة في قرية "الجيايلة"، ومحاولة تغيير اسم جامع "سامراء الكبير"، إلى "ولي الأمر". رئيسُ المجمع الفقهي في سامراء، الشيخ عز الدين الرفاعي، كان مصيباً عندما حرَّك حبَّات المسبحة، لتُطلقِ كلمة منطقيَّة: " ديالى". اللطيف إنَّ عمر "سامراء الكبير" وبحسب الرفاعي: "ثمانمائة وخمسة وثلاثون سنة". زاد الرفاعي: "ذلك له علاقة بما يحصل في الطارمية، التاجي، الدجيل، بلد، وصولاً إلى سامراء". سامراء بالطبع – لإعلام القارئ العربي - واحِدةٌ من أقضيةِ محافظة صلاح الدين.

السؤال هنا: من أين تأتي أريحيَّة الميليشيات الإيرانيَّة، إذاً، في محاولة رسم الديموغرافيا عموماً.. التي يُطلِق عليها العراقيون، تعبيراً بسيطاً وموحياً اسمهُ "الإيرنة"؟

تأتي تلك الأريحيَّة، أولاً، من التاريخ الإداري لبغداد. اختصاصات العاصمة الإداريَّة، كانت الإشراف على: "سنجق المركز وأقضيته عانة والرمادي وسامرا والكاظمين والعزيزية والكوت وخانقين وبعقوبة ومندلي وبدرة، وسنجق الديوانية وتتبع له أقضية الحلة والسماوة والشامية، وسنجق كربلاء وأقضيته الهندية والنجف وقضاء الرزازة الصحراوي" ( ستيفن هيمسلي لونكريك، أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث).

يتضحُ من ذلك، إنَّ الإشراف على المراكز والمحافظات الدينيَّة في العراق، كان من نصيب بغداد. الأهم في هذه اللقطة التاريخيَّة - بحسب سياق طرحنا– إنَّ ديالى تقعُ اختصاصات العاصمة. علماً إنَّ ديالى ترتبِطُ بوسط وجنوب العراق، جغرافيا الشمال فيه، القُرب من العاصمة كما أسلفنا، القُرب النسبي من غرب العراق الأنبار، وحدود مع إيران، تبلغُ مساحتها مائتان وأربعون كيلومتر.

التركيز على رغبةِ إيران، بفتحِ مزيدٍ من المنافذِ لها مع سوريا، لا يبدو كافياً. استطيع أن أعتبر ذلك نوعاً من المواربة، والاكتفاء بفتح نصف الباب. السبب الرئيسي والذي يعملُ كيدٍ، تستطيع فتح الباب كُلِّه وعلى مصراعيه، إنَّ "الإيرنة الصفويَّة" لا "التشييع"، الحاصل في ديالى، هو ميلُ الحرير الأخير، لتحويلِ سامراء من قضاء إلى محافظة إيرانيَّة صفويَّة، مُتنكِّرَة برداءٍ "شيعي".

***

مسار عبد المحسن راضي و ناجي حرج

كاتب و باحث عراقي/ المدير التنفيذي لمركز جنيف الدولي للعدالة

في المثقف اليوم