آراء

العراق نحو التدمير الذاتي

سبق وإن كتبت مقالا تحت عنوان "العراقيون ولوثة الدكتور"(1) سلطت فيه الضوء على الجانب "العقدي" الجديد في الشخصية العراقية من زاوية تطلع أعداد هائلة من متخرجي الجامعات إلى الحصول على الشهادة العليا (الدكتوراه أو الماجستير) دون أن يمتلك الكثير منهم المقومات التي تؤهلهم لهذه الدرجة العلمية المهمة في تطوير وانتاج المعارف الجديدة. وبما أن المسألة قد أن اخذت بعدا مبالغا فيه في هذا الاتجاه بات الأمر بنظري يتطلب نظرة أبعد باتجاه محاولة اكتناه مدى تأثير هذا الانتشار (الضار بالتاكيد) على الجانب المعرفي العام وبالتالي نوع المنتج البشري الذي يترتب عليه وما يتركه ذلك من آثر في تطور العراق من الناحية الاقتصادية والاجتماعية.

وكما يلاحظ كثيرون فإنك اينما صادفت شبانا عراقيين في الخارج سوف تجد عند أول حديث معهم أن العديد منهم قد جاءوا للحصول على شهادة الدكتوراه. والسؤالان اللذان لابد وأن يتبادرا إلى اذهن المهتم هما أولا: هل يعقل أن كل هؤلاء الطلبة مؤهلين حقا من الناحية الفكرية والمعرفية ويتمتلكون درجة كافية من الذكاء ليصبحوا "دكاترة" يطالبون غدا بتوظيفهم كأساتذة جامعة؟والثاني: هل أن الجامعات التي يدرسون بها تمتلك مستوى علميا مقبولا وأن لديها تقاليد أكاديمية عالية بما يكفي   ليجعلها مؤهلة لمنح تلك الدرجات؟ ويكتسب هذا السؤال أهمية خاصة في وقت تنتشر فيه الجامعات والمعاهد الخاصة ذات الطابع التجاري في كل مكان في الدول العربية. ويزداد عدد هذه المؤسسات "العلمية" ذات الطابع التجاري كلما كان مسؤولو ذلك البلد أكثر استعدادا ، تحت القسر أو الإغراء، للانسياق وراء وصفات الليبرالية الجديدة القادمة من وراء الحدود الموجهة للدول النامية، تلك الوصفات التي تعمد إلى تدمير ما تبقى من المؤسسات الحكومية وعلى رأسها المؤسسات التعليمية الحكومية لتنتشر بدلها معاهد خاصة كلها معنية بتدريس مواد لها علاقة بالتجارة والتسويق وتقنيات الكومبيوتر ولن تجد واحدا منها يدرس المواد العلمية كالفيزياء والكيمياء والرياضيات. إن تزايد الكم (من المتخرجين) الذي أنتجه ذلك التوجه على حساب النوع يكاد يكون ظاهرة لافته في هذه الدول. إن غالبية المتخرجين من هذه المعاهد دائما ما يسعون للانغماس في السوق التجارية عن طريق العمل كوسطاء بيع وترويج المنتجات التي تقدمها الشركات الغربية التي تمول المؤسسات التي تخرجوا منها وهم يفعلون ذلك طامعين بالانضمام إلى فئة الأغنياء الجدد الساعين وراء الربح السريع ليصرفوا و المال الذي كسبوه على شراء سيارات مرتفعة الثمن ولبس ماركات عالمية وبذلك يكون المال الذي كسبوه في خدمة تلك الشركات قد أعادوا ضخه في السوق الراسمالية مع أرباح فاحشة. و لا شك أن النهب الرأسمالي بوسائل مستحدثة كان ولا يزال عاملا بارزا في تزايد فقر البلدان النامية.

ولقد دار حديث كثير حول حصول فضائح في بعض الجامعات اللبنانية التي منحت مئات وربما آلاف الشهادات العليا لدارسين عراقيين مقابل المال ومنح كثيرون شهادات حتى دون أن يحضروا..هذه الجامعات والعديد غيرها في الدول العربية وبعض الدول الأخرى من شرق أوربا كأوكرانيا نادرا ما ترى فيها طلبة دكتوراه من البلدان السائرة في طريق التطور الحقيقي كتركيا أو أندونيسيا وغيرها من بلدان شرق آسيا الناهضة. أما البلدان الني بلغت شوطا كبيرا في التطور كالهند والصين فإن طلبة الدكتوراه عندهم يدرسون في أرقى الجامعات الأمريكية والبريطانية والألمانية. وفي الولايات المتحدة لوحدها يدرس حاليا 400 ألف طالب صيني كلهم في أرقى الجامعات التي تكلف الدراسة فيها مبالغ طائلة لا قبل إلا للدولة في تحمل تكاليفها.وإذا حسبنا المجموع الكلي للصينيين الذين حصلوا على شهادات عليا من الجامعات الأوربية والأمريكية المرموقة لربما بلغ ملايين. أما عندنا فكلمن امتلك 10 آلاف دولار راح يبحث عن جامعة تمنحه شهادة الدكتوراه، ومن لا يملك هذا المبلغ في عراق اليوم؟

كما لا يجوز لنا أن ننسى حقيقة المنح العشوائي للشهادات العليا في المؤسسات التعليمية العراقية الذي حصل بعد 2003 الأمر الذي يضع اللجان التي منحت هذه الشهادات تحت طائلة المسؤولية الأخلاقية ويتطلب الأمر بحثا حقيقيا للإجابة على أسئلة ملحة تتعلق ب: هل أن لجان مناقشة الإطروحات أو من ترأسها مؤهلين من الناحية الأكاديمية لهذه المهمة ويتسمون بالحياد العلمي؟ هل تعرضوا للضغط من أطراف محددة؟هل يوجد من بينهم من يخضع لمغريات المال؟وأسئلة أخرى عديدة تستدعي الإجابة عليها إذا ما أريد وقف الانحدار. إن عدم أهلية المتخرج من المعاهد الدراسية العليا في العراق من شأنه أن يجعل هذا البلد يراوح مكانه وغير قادر على السير للأمام بسبب غياب القدرات العلمية التي تؤهله لذلك...إن أستاذا جامعيا يفتقد التأهيل يعني أن المتخرج على يده حامل شهادة البكالوريوس يتصف بنفس الصفة وتتدرج المسألة نزولا حتى الوصول إلى المستوى الابتدائي..أما رياض الأطفال التي انتشرت عندنا على نطاق واسع كمشروع تجاري يدر ربحا وفيرا فهي جميعها تقريبا يملكها أو يديرها أناس لا علاقة لهم بمهنة تربية وتعليم الأطفال وأصبح فتح روضة أطفال مشروعا مربحا كأي تجارة رائجة أخرى. و لا نعرف كيف تمنح الوزراة المعنية هذه الرخص دون تدقيق وتمحيص الأمر الذي يمكن أن يعرض الأطفال لمخاطر جمة ناتجة عن التوجيه والتعليم الخاطئ وبهذا تترابط سلسلة التردي من أعلى ومن أسفل...

إن أبرز ما يميز الوضع العراقي العام اليوم هو أكوام المشاكل الاجتماعية التي تواجه الحكومة ومنها تشغيل العاطلين. وفي الوقت الذي تحدث فيه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني محقا عن ضرورة دعم وتطوير القطاع الخاص في عملية البناء والتشغيل تغيب النظرة إلى واحدة من أهم مستلزمات تطور القطاع الخاص ومجمل التطور الاقتصادي ألا وهو إعداد الكفاءات العلمية والفنية اللازمة لرفد القطاع باليد العاملة الكفوءة. إن واحدة من أهم الأسباب التي جعلت الصين مقصدا لكبرى الشركات العالمية هي امتلاكها لليد العاملة الماهرة والمعقولة الأجر قياسا بما لدى غيرها ولاشك أن الصين قد استثمرت جهدا كبيرا ومالا كثيرا في سبيل إعداد هذا الجيش من العمال والفنيين الماهرين..

في فترة السبعينات وتحديدا قبل اللجوء إلى تبعيث العملية التعليمية على نطاق واسع والذي شكل بداية التدهور كانت الحكومة العراقية تختار افضل الطلبة وترسلهم إلى أرقى الجامعات الغربية مع تعهد بالعودة وخدمة بلدهم وكانت النتيجة أن اسس العراق قاعدة علمية جيدة كانت تؤهله لسلوك طريق التطور الصاعد لولا أن اكلت الحروب المتكررة ما أكلت وكان الاختصاصيون العراقيون الذين اضطروا لمغادرة العراق في فترة الحصارالاقتصادي مثار إعجاب الدول التي هاجروا إليها.

وفي نفس السياق كانت الحكومة آنذاك تولي اهتماما كبيرا بإعداد الكوادر الوسطية وفتحت من اجل ذلك عشرات المعاهد الفنية لتخريج فنيين عالي الكفاءة. لقد اصبح هؤلاء إلى جانب زملائهم من ذوي الاختصاص العالي على وشك الانقراض خاصة وقد هاجرت أعداد كبيرة منهم إلى الخارج خلال فترة الحصار ولم نر نية لأي من الحكومات التي جاءت بعد 2003 في منح من يبدي من هؤلاء استعدادا للعودة للعراق للمساهمة بقدراته الفرصة لإفادة بلده. أقول ذلك وأنا أعرف أن من يأتي للعراق ليساهم بجهده سوف يلقى مقاومة من الجيل الجديد الشاب الذي لا يتسم بالتواضع والرغبة في التعلم من غيره..بل أستطيع القول أن هناك لوبيات تعمد لإبعاد الكفاءات المتقدمة. ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه قد سبق لحكومة المالكي الأولى أن وضعت برنامجا لإرسال طلبة دراسات عليا إلى الجامعات الغربية المرموقة ولكننا لم نعرف إين حل بهم المقام وما إذا كانوا قد عادوا ليسهموا بما تعلموه.

وفي الوقت الذي أقر فيه بأحقية الشبان حاملي الشهادات في أن تتوفر لهم فرصة إيجاد عمل يتوافق مع طموحاتهم إذ يفترض في الحالة الطبيعية أن يكون هؤلاء حاملي أفكار جديدة ويتسمون بالحماس إلا أنهم سوف يحتاجون إلى وقت طويل للتعلم عن طريق التجربة والخطأ ما لم يكن هناك مختصون أكبر منهم عمرا يرفدوهم بالمعرفة والخبرة التي اكتسبوها من خلال عملهم الطويل. يولي الصينيون احتراما كبيرا لمن هم أكبر منهم سنا ويصغون لهم بانتباه ويستخدمون كثيرا كلمة "المعلم" في وصفهم وهي كلمة يبدو انها ذات معنى مميز في الثقافة الصينية. ولن تجد بالطبع في ثقافتهم من يصف الأكبر منهم سنا على الطريقة العراقية "هذولة عتيك"، هذا "يخرفش"..إلخ من التعبيرات الحاطة من قيمة الآخر التي يجود به المعجم العامي العراقي.

ويؤكد المفكرون المختصون بقضايا التنمية في بلدان العالم الثالث أن امتلاك قاعدة علمية رصينة (متخصصون ذوي كفاءة عالية) تترجم نفسها في بحوث لتطويرتقنيات الانتاج في المجالات المختلفة شرط لا غنى عنه للتطور العلمي و التقني. إن التكديس الكمي الفاقد للنوع لحملة الشهادا العاليا في العراق من شأنه ليس فقط إثقال الحكومات العراقية بمهام البحث عن عمل لهؤلاء بل وأيضا يلحق ضررا اجتماعيا كبيرا إذ يعتبر الكثيرون ممن حصلوا على الشهادة العليا بالطريقة التي ذكرت أنفسهم قد بلغوا قمة المعرفة ونادرا ما تجد منهم من يقر بقصور معارفه بينما يكشف الواقع حالات تثير الدهشة. لأضرب مثالا:

في مقابلة تلفزيونية مع وزير التخطيط في حكومة الكاظمي ووزير الصناعة حاليا خالد بتال تحدث فيها عن هذه الظاهرة قائلا إنه التقى في مناسبتين مع إثنين من حاملي الشهادات العليا الأول حاصل على الدكتوراه في الهندسة والثاني على الماجستير باللغة الإنكليزية وأن حامل شهادة الهندسة قد أخفق في تعريف الخط المستقيم عندما سأله والثاني لم يفهم ما قاله له الوزير عندما شرع بالحديث معه باللغة الإنكليزية.

ومن باب الطرافة أود أن اذكر أني شاهدت على إحدى القنوات الفضائية فيديو ينقل ما جرى في مطار بغداد أمام مصرف الرافدين عندما أغلق القائمون عل المصرف باب المصرف بوجه المسافرين الذي كانوا يريدون تحويل مبالغ مالية بحجة أن المصرف لا يستطيع القبول بمزيد من العملاء لأن لديه قائمة طويلة. ورفض هؤلاء بعناد إظهار هذه القائمة للمسافرين الذين طالبوهم برؤيتها. والجانب الظريف في الأمر ان أحد المسافرين، وهو شاب لم يبلغ الثلاثين حسب تقديري، تقدم نحو الرجل الطويل الذي يقف في الباب صائحا بوجهه: "أنا دكتور". بالطبع لم يعره الرجل أية اهتمام وواصل عمله المكلف به.

عندمام تسنم السيد علي الأديب وزارة التعليم العالي نقل عنه أنه ينوي تشكيل لجنة من الأساتذة المختصين تتولى مهمة مراجعة الشهادات العليا التي منحت قبل 2003 للتأكد فيما لو كانت تلك الشهادات قد منحت لقيمتها لعلمية الحقة أم لاعتبارات تتعلق بالانتماء الحزبية. وقد أثيرت في وقتها احتجاجات ضد هذه النية بحيث راح بعضهم يضعها في إطار ما سموه "الاستهداف الطائفي" الأمر الذي يبدو أنه قد جعل الوزير يغض النظر عن المسألة. وفي الوقت الذي يمكن فيه الإقرار بأن الكثير من الشهادات العليا التي منحت قبل 2003 (هنا أتحدث عن فترة التسعينات بالدرجة الأولى) لا تتوفر فيها الشروط العلمية فقد تكرر الأمرعلى نطاق أوسع بعد 2003 ولم تتخذ وزارة التعليم العالي في الحكومات المتعاقبة أية إجراء لإخضاع عملية منح الشهادا العليا للمعايير العلمية المطلوبة أو، أضعف الإيمان، أن تعلن الوزارة عبر وسائل الإعلام المختلفة عن الجامعات التي تعترف بشهادتها وأن توضح لكل دارس أن حصوله على شهادة معترف بها من قبل الوزراة لا تعني أن الوزراة ملزمة بإيجاد وظيفة له. أما التدريس في الجامعة فيجب أن يخضع لشروط عملية صارمة أهمها أن يكون صاحب الشهادة العليا (عدى أهلية الجهة التي منحتها) قد أنجز بحوثا ذات قيمة علمية وتطبيقية بعد حصوله على الشهادة. ومن المعروف أنه في الكثير من الدول تخضع عملية معادلة الشهادة المتحصل عليها من جامعة أجنبية لتقييم من لجنة خاصة ولكن كيف لنا في الحالة العراقية ان نتحدث عن معادلة شهادات كهذه بالشهادات المتحصل عليها من المؤسات العلمية العراقية إذا كانت القيمة العلمية والتطبيقية لهذه الشهادات (أي العراقية) هي موضع شك؟

لقد أتيحت لي الفرصة للحديث حول الموضوع إلى حامل شهادة عليا من الجيل القديم فاكتفى بالقول: "إن الوضع بهذا الخصوص خارج عن السيطرة و لا مؤشر على وجود نية لإصلاحه" أما حاملي الشهادات الأدنى الراضين بما هم عليه فهم متفقون على القول ما مفاده: إذا كان سياسيون كبار قد حصلوا على شهادة عليا بهذه الطريقة بل أن بعضهم شهادته مزورة فعلى من نلقي اللوم؟

وهكذا يبدو أن موضوع الشهادة العليا بات يشبه إلى حد كبير موضوع الفساد المالي والإداري (أجد أن الإداري منه عصي على الحل) إذ ما أن ترفع الحجر عن كومة التراب حتى تظهر لك تحته مئات الديدان...

***

ثامر حميد

......................

(1) رابط مقالة "العراقيون ولوثة الدكتور"

https://www.almothaqaf.com/aqlam-4/941374

في المثقف اليوم