آراء

التقرير الاستراتيجي العربي

أنشئ مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية عام 1968 كمركز علمى مستقل وكان فى بدايته موجهاً للتركيز على القضية الفلسطينية ودراسة العدو الإسرائيلي والصهيونية العالمية، لكنه تطور مع الوقت وتشعبت مهامه لتصبح أكثر شمولاً ورحابة .. وباتت للمركز في ظل رئاسة الدكتور محمد فايز فرحات إصدارات دورية ينتظرها المثقفون والمفكرون لما لها من ثقل وأهمية على صعيد الفكر الاستراتيجى..

هذه الإصدارات تعددت وأكثرها يركز على الشأن المصرى مثل (بدائل) و(رؤى مصرية) و(أحوال مصرية) وغيرها من الإصدارات وأغلبها دوريات شهرية تصدر بانتظام، وتسلط الضوء على أوضاع البلاد فى الداخل المصري، وتحلل الوضع من عدة زوايا.. لكن الإصدار الأهم من وجهة نظرى هو الدورية السنوية التى تصدر تحت عنوان(التقرير الاستراتيجى العربي) والذى بدأ إصداره أول مرة عام 1986.. وقد صدر مؤخراً تقرير عام 2022 سعياً لتقديم رؤية استراتيجية مصرية لتطورات النظام الدولى والنظام الإقليمى العربي وحال المجتمع المصري..

قدم للتقرير د. وحيد عبد المجيد تحت عنوان (2022:انخفاض القدرة على حل الصراعات وإدارة الأزمات) كأن تلك النتيجة هى محصلة الأحداث التى حفل بها العام السابق.. وإذا قرأت محتوى المقدمة الطويلة التى جاءت فى تسع صفحات من القطع الكبير من تقرير شامل استوعب ما يناهز الثلاثمائة صفحة سوف تدرك على الفور أن تقييم الأحداث كلها يتمحور حول الحدث العالمى الأهم؛ ألا وهو الحرب الروسية الأوكرانية وما تسببت فيه من تداعيات ضخمة للعالم أجمع..

تلك الحرب ذاتها نشأت،طبقا لرؤية د. وحيد، كنتيجة مباشرة لانعدام القدرة على توصل المجتمع الدولى لحلول دبلوماسية قبل قيام الحرب، وأن التعنت الذى أبداه الجانبان وصل بالأزمة إلى آفاق ومستويات لم تكن فى الحسبان حتى بات العالم كله مهدداً باشتعال حرب نووية عالمية فى أية لحظة ولم يتوقف هذا التخوف بل زاد وتفاقم مع احتدام الصراع وتعقده يوماً بعد يوم..

التفاعلات الدولية

ينطلق التقرير من دائرته الأوسع العالمية ثم الدائرة العربية حتى يصل للشأن المصري.. ووضع عدة محاور ومرتكزات رئيسية من أجل تغطية أهم وأقوى النقاط المؤثرة على السياسىة العالمية جراء الحرب القائمة بين الناتو وروسيا على الأراضى الأوكرانية .. وكيف أن تلك الحرب تسببت فى تهديد مستقبل النظام العالمى وأن جوهر الصراع ليس بين روسيا وأوروبا أو أوكرانيا وإنما بين قوة عظمى أفلت وضعفت وبين قوة عظمى تقاتل للبقاء كذلك.. وكيف أن الوضع الدولى الراهن يتشكل من جديد طبقاً لمخرجات هذا الصراع الدائر بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية..

يتساءل التقرير أولاً: لماذا لم يتم الحسم العسكرى خلال عام 2022؟ ويضع إجابات متعددة لمثل هذا السؤال من واقع ما حدث على الأرض..كما يضع سيناريوهات خمسة محتملة لانتهاء تلك الحرب ..ثم ينتقل إلى بؤرة صراع أخرى بدأت فى التشكل والتنامى عقب الحرب وهى "أزمة تايوان" والتى مثلت ذروة صراع صينى أمريكي يسير بالتوازى مع الحرب الأوكرانية الروسية القائمة.. وكان لابد فى هذا الصدد إلقاء الضوء على التحالف الصينى الروسي الذى لم يكن حتى نهاية العام السابق قد اكتمل كما رأيناه هذه الأيام يظهر بشكل واضح بعد زيارة الرئيس الصينى لروسيا دعما لها..فكأن التقرير قرأ هذا المشهد القادم واستشرف له..

ومن خلال سبعة محاور كاملة انتقل التقرير يحلل تداعيات الحرب ، ومنها ما يخص الفكر العسكرى داخل حلف الناتو ومدى انعكاسات الحرب على الأمن السيبرانى وأمن أوروبا وعلى حركة الهجرة ، ومدى ما حققه اليمين الراديكالى من مكاسب سياسية كنتيجة للحرب.. ثم يرصد التقرير أمراً خطيراً لوحظ فى فترة ما بعد الحرب وهو ما يختص بالتدافع الدولى نحو القارة السمراء، وكيف أن أوروبا والغرب يتجهان بقوة نحو زيادة التقارب والتواجد داخل قارة إفريقيا لمواجهة النفوذ الصينى الروسي من ناحية ولتأمين مصادر الطاقة من ناحية أخرى..

أما التأثير الأكبر والأكثر جلاء ووضوحا لهذه الحرب فهو التأثير على الاقتصاد العالمى.. والتي بدأت أولاً من جانب الغرب حينما فرضوا العقوبات على روسيا فيشكك التقرير من جدوى تلك العقوبات وأنها جاءت بأثر عكسي على فارضيها.. وكيف أن ردة الفعل الروسية إزاءها تسببت فى أزمات فى أسعار الطاقة وعلى سلاسل التوريد وحركة صادرات القمح من أوكرانيا وروسيا ما تسبب فى خلق أزمة غذاء عالمية تفاوت حجم تأثيرها من دولة لأخرى..

دائرة النظام العربي والإقليمى

انشطر هذا القسم من أقسام التقرير إلى ثلاثة فصول.. أولها ركز على مدى حجم تأثر الدول العربية المختلفة بالحرب الروسية الأوكرانية، وثانيها تناول الأزمات الداخلية بهذه الدول، ثم انتهى إلى القضية الأولى والأهم لدى العرب وهى قضية الصراع الفلسطينى الإسرائيلى..

بدأ هذا الجانب من التقرير بالإشارة إلى اختلاف مواقف الدول العربية تجاه الحرب وهو ما بدا من خلال سياساتها الخارجية وتحركاتها الدبلوماسية..وأن تلك المواقف تم اتخاذها طبقاً لأبعاد تاريخية ووقائع تفرض نفسها على الساحة.. وحاز الاتفاق النووى الإيرانى على جانب من مناقشات هذا الفصل الذى انتهى بمناقشة التداعيات الاقتصادية للحرب على العرب فيما يخص النفط والغذاء..

كما ناقش التقرير أوضاع البلاد العربية داخلياً وأهم الأزمات المحورية التى ترزح تحتها كل دولة ، وكيف تتطور تلك الأزمات، وما هى الجهود الدولية الأممية التى تم اتخاذها خلال العام السابق تجاه أزمات عالمنا العربي..

المشهد المصري

اختتم التقرير فصوله بتلخيص المشهد المصري سياسياً من خلال أربعة محاور .. السياسة العامة والمجال العام.. ثم السياسات الاقتصادية .. ثم طاف حول مظاهر تنامى القدرات الدفاعية للقوات المسلحة المصرية قبل أن يختتم هذا القسم بالجهود الدبلوماسية وما تم على صعيد السياسة الخارجية للدولة المصرية..

ثم تناول تحليلاً للخطاب الرئاسي على مدى عام كامل، ثم ناقش الخطوات التى تمت فى ملف الحوار الوطنى، واهتم بالحدث الكبير الذى نظمته مصر ووضعت تصورها الخاص له وهو حدث تنظيم قمة المناخ(cop27) ومدى فاعلية مخرجاته.. كما عرج التقرير على مدى تطورات العنف المجتمعى فى مصر..

ونظراً لأن المحور الرئيسي فى التقرير الذى التفت حوله كل محاوره ظل هو الحرب الروسية الأوكرانية فقد بدأ الملف الاقتصادى المصري بمناقشة أولويات مصر التنموية فى ظل الحرب، ثم تحدث عن مفاوضات صندوق النقد ثم انتهى لمناقشة الموازنة العامة وسياسات الاتجاه نحو اقتصاد السوق..

التقرير الاستراتيحي العربي -الذي يرأس تحريره حاليا الدكتور عمرو هاشم ربيع - جاء حافلاً بالاستدلالات والجداول والصور والرسوم البيانية والتوضيحية ، وهو من إعداد كوكبة من الخبراء والباحثين المرموقين من داخل المركز وخارجه ليخرج بهذه الصورة الوافية المكثفة المشرفة.

***

د. عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم