آراء

فاخر جاسم: الإحتلال الامريكي وديمقراطية الفوضى الخلاقة

تحاول الولايات المتحدة الأمريكية التمويه على مساعيها للهيمنة على العالم، ومنها منطقة الشرق الأوسط، عبر مجموعة من الذرائع والحجج، كصعوبة القضاء على الأنظمة الاستبدادية بدون الاستعانة بالقوى الخارجية، وبإن النموذج الأمريكي للديمقراطية هو الاختيار الوحيد للتطور السياسي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية بعد سقوط النموذج الاشتراكي، ولكونها القوة الوحيدة القادرة على مكافحة الإرهاب في العالم، وأن عليها مسؤولية أخلاقية، لإسقاط الانظمة الدكتاتورية، ونشر القيم الديمقراطية.

ومن النظريات الجديدة التي ابتدعها الفكر السياسي الأمريكي المحافظ، في بداية القرن الواحد والعشرين، نظرية الفوضى الخلاقة، التي تهدف لإحكام الهيمنة الأمريكية على منطقة الشرق الاوسط الغنية بمصادر الطاقة، عن طريق نشر الفوضى الشاملة للقضاء على الأنظمة الاستبدادية وإقامة أنظمة ديمقراطية بديلاً عنها. وقد مرت الاستراتيجية الأمريكية للهيمنة على العراق بثلاث مراحل:

المرحلة الاولى: سياسة التدمير” الاحتواء” المزدوج للعراق وإيران، التي انتهجته خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية، والتي استمرت لثمان سنوات وألحقت بالبلدين نتائج كارثية. وما يتعلق بالعراق، أدت الحرب إلى حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وإلى غزو الكويت كمسعى من الدكتاتورية لترحيل الأزمات التي نتجت عن حروبها وسياساتها الاستبدادية، الداخلية والخارجية، والتي لقيت تشجيعاً من الولايات المتحدة.

المرحلة الثانية: تطبيق سياسة الهيمنة غير المباشرة من قبل الولايات المتحدة، فبعد حرب الخليج الأولى، جرت الهيمنة الأمريكية بالاعتماد على ثلاثة أساليب رئيسية:

1. اعتماد القوة العسكرية، بشكل متكرر لإضعاف العراق حتى بعد خروجه من الكويت.

2. تطبيق نظام الحصار الدولي الشامل على العراق الذي استمر لغاية احتلاله في 2003.

3. تشكيل تحالفات من الأحزاب العراقية، تعمل بالانسجام مع سياسة الولايات المتحدة وعلى أساس قانون “ تحرير العراق” الذي صدر عام 1998.

المرحلة الثالثة: تطبيق نظرية الفوضى الخلاقة، مباشرة بعد الاحتلال الأمريكي، حيث عملت الولايات المتحدة على إسقاط/ وتهديم الدولة العراقية، وإعادة بنائها بطريقة تتلاءم مع أهداف الغزو.

أهداف الغزو

تم تمويه الأهداف المعلنة للغزو من قبل الولايات المتحدة، لخلق حالة من التعاطف أو على الأقل الحياد، مع الغزو، شعبياً ودولياً، فجرى الحديث عن تدمير أسلحة الدمار الشامل وتحقيق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. وعلى ضوء النتائج السياسية والاقتصادية والقانونية، والتي أفرزتها عشرون سنة من الغزو، يتبين لنا أن كل الشعارات السابقة كانت مجرد أكاذيب.

اولاً. النتائج السياسية:

سعت قوى الاحتلال، إلى نشر الفوضى الشاملة في العراق، فتُركت كافة مؤسسات الدولة معرضة للنهب والتدمير، باستثناء وزارة النفط والبنك المركزي، اللذين وقعا تحت سيطرة القوات الأمريكية، وتسريح كبار الموظفين وحل الجيش وكافة الأجهزة الأمنية، بحيث بقيت الدولة بدون حكومة لمدة ستة أشهر، مما عمّق حالة الفوضى والاضطراب في المجتمع.

وبديهي أن لا يكون الهدف من سياسة الفوضى، إسقاط السلطة الاستبدادية وإقامة سلطة ديمقراطية حقيقية، بل كان لتدمير الدولة ثم لإعادة بنائها، حيث تشكلت حكومات غير مستقرة، تدير الأزمات ولا تحلها، وعاجزة عن القيام بواجباتها في توفير الأمن والخدمات والحد من مظاهر العنف والفساد الإداري والمالي. وأخذت سياسة نشر الفوضى الأشكال التالية:

1. إنهاء سيادة العراق واستقلاله من خلال إضفاء شرعية على سلطة الاحتلال من قبل مجلس الأمن الدولي.

2. تشكيل مؤسسات لقيادة الدولة خاضعة لسلطة الاحتلال.

3. تأسيس نظام يقوم على المحاصصة الطائفية ـ القومية، وتطبيقه على كافة مؤسسات الدولة، وذلك لتفتيت التشكيلة الاجتماعية الوطنية، لاسيما وقد أثبتت التجربة العراقية، أن وحدة السلطة السياسية أساس التلاحم الوطني لهذه التشكيلة.

4. إعادة بناء المؤسسة العسكرية والأمنية، بما ينسجم مع المصلحة الأمنية والسياسية للولايات المتحدة.

5. الإسراع في إجراء انتخابات برلمانية من أجل اضفاء شرعية شكلية على مؤسسات الدولة التي بنتها سلطة الاحتلال.

6. ربط العراق بمعاهدة غير متكافئة كشرط لسحب القوات الأمريكية من العراق (اتفاقية الإطار الاستراتيجي 2011).

ثانياً. النتائج الاقتصادية:

لم يظهر المحتلون أي اهتمام بإعادة الحياة للبنية التحتية للاقتصاد الوطني، التي دمرتها الحروب والحصار الاقتصادي، بل اهتموا بإنهاء دور الدولة في الحياة الاقتصادية، والذي كان قد ساهم بشكل بالغ الأهمية في تطوير القوى المنتجة والحد من اتساع الفروق الاجتماعية بين المواطنين بشكل عام. وقد تحقق ذلك من خلال السعي لتكريس الاقتصاد الريعي وإعاقة قيام اقتصاد إنتاجي، على الرغم من توفر موارد مالية كبيرة للسلطة ـ تقدر بحوالي تريليون دولار. وكان من مظاهر الاقتصاد الريعي في العراق في المرحلة الراهنة:

1. إعادة توزيع الدخل القومي، على شكل نقدي، بحيث يرصد أكثر من ثلثي ميزانية الدولة للتشغيل ولتغطية تضخم عدد العاملين في مؤسسات الدولة.

2. ترك المؤسسات الصناعية الإنتاجية لتتقادم، مما يوفر الذرائع للسلطة الحاكمة لبيع هذه المؤسسات للمستثمرين بأسعار زهيدة جداً.

3. فتح السوق العراقية أمام السلع الأجنبية، وبدون رقابة أو تعرفة كمركية. وقد ساهم هذا النهج بتعميق الجانب الاستهلاكي في الاقتصاد العراقي، وتدمير المنتوج الوطني، الصناعي والزراعي.

4. عدم اعطاء أهمية للعمل، بحيث أصبحت مؤسسات الدولة تعمل لمدة ستة أشهر في السنة في أحسن الأحوال، نتيجة تعطيلها في كثرة من المناسبات الدينية والوطنية، او بسبب عدم الاستقرار الأمني والعمليات الإرهابية والعنف.

5. تركيز الاهتمام على زيادة انتاج النفط لتعزيز الموارد المالية للدولة، للإيفاء بمستلزمات الاقتصاد الريعي، يقابله إهمال إعادة بناء المؤسسات الاقتصادية الانتاجية.

6. نهب المال العام، من قبل النخب المتنفذة في السلطة وأعوانها، وانتشار مظاهر الفساد المالي بحيث أصبح العراق على رأس قائمة دول العالم التي تعاني من الفساد المالي والرشوة.

ثالثاً. النتائج القانونية:

تزداد أهمية البناء القانوني للدولة في العراق بالارتباط مع بقاء التركة الثقيلة للدكتاتورية، التي كّيفت البنية القانونية للدولة لتخدم طبيعة نظامها الاستبدادي. ولذلك أصبحت الحاجة ماسة للقيام بإصلاح قانوني بعد سقوط الدكتاتورية. الا أن ذلك لم يتحقق فما زالت قرارات سلطة الاحتلال وقوانين مجلس قيادة الثورة المنحل هي التي تسير أغلب مؤسسات الدولة، فيما نرى الفشل في تأسيس بنية قانونية تتناسب وقيام نظام ديمقراطي وهذا يتضح من خلال:

* عدم انجاز مهام العدالة الانتقالية، حيث تم تعطيل إصدار قانون متوازن للعفو العام ينصف ضحايا الاستبداد ويوفر محاكمة عادلة للمسؤولين عنه، مما أدى لتنامي نزعة الثأر في المجتمع.

* إعداد دستور، مليء بالثغرات والتناقضات، وبنصوص سهلة التأويل ولا تناسب دولة ديمقراطية حديثة، مما جعله أداة بيد القوى السياسية المتنفذة، تفسره حسب مصالحها الخاصة، مما أبعده من أن يكون مرجعاً قانونياً ملزما لجميع مؤسسات الدولة، وأن يكفل حقوق المواطنين المختلفة.

* فشل في خلق بيئة قانونية مستقرة للانتخابات، عبر اعتماد قانون لا ديمقراطي لها، مما مكّن النخب المتسلطة من استغلاله وتعديله كل مرة، بما يخدم استمرار نظامها ومنع معارضيها من الوصول إلى السلطة التشريعية.

* تحول الأعراف العشائرية إلى ناظم رئيسي للعلاقات بين الأفراد وفي أحيان كثيرة بين مؤسسات الدولة والمواطنين، بسبب التمييز في تطبيق القوانين النافذة وعدم اصدار قوانين مدنية تنظم علاقة مؤسسات الدولة بالمواطنين وعلاقات المواطنين مع بعضهم البعض.

الخلاصة

1. لم تدرك النخب الحاكمة منذ عقدين، مخاطر استمرار تمسكها بنهج المحاصصة الطائفية ـ القومية، المرفوض شعبياً، والذي فشل في بناء دولة حديثة قادرة على المحافظة على السيادة الوطنية وتوفير الأمن والخدمات والحماية الاجتماعية للمواطنين، وصار سبباً في الكثير من الأزمات العصية على الحل.

2. أدى تطبيق “ديمقراطية” الفوضى الخلاقة في العراق إلى نتائج خطيرة تهدد مستقبل العراق كدولة ومجتمع موحد، كعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، واتساع مظاهر العنف في المجتمع، ونشوء نخب سياسية فاسدة تتصدر الحياة السياسية وتقود سلطة الدولة وتقلص شعور الانتماء الوطني والمصير المشترك للمواطنين العراقيين، مما أدى إلى تهميش مفهوم المواطنة الواحدة، وعزز الانتماء إلى الهويات الفرعية “ طائفيةـ مذهبية ـ قومية ـ عرقية ـ إقليمية”.

3. أدت الفوضى الخلاقة على الصعيد الاقتصادي إلى عرقلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي تردي مستوى الخدمات بكافة أنواعها، الامر الذي ادى لارتفاع نسبة الفقر (25 في المائة حسب آخر أحصاء لوزارة التخطيط) وانتشار البطالة بين المواطنين ونشوء فئات غنية من الطفيليين ولصوص المال العام والمرتشين.

4. إن على النخب السياسية الحاكمة إدراك المخاطر التي تنشأ من تمسكها بسياسة التحالف مع قوى الهيمنة الٌإقليمية والدولية، وضرورة سعيها لانتهاج سياسة وطنية، بعيدة عن الانفراد والاقصاء، تقوم على التعاون مع القوى الوطنية بمختلف تياراتها لتحقيق تطلعات المواطنين بقدر معقول من العدالة الاجتماعية، فبدون هذا النهج لا يمكن تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي ومقاومة التدخل الخارجي.

***

 د. فاخر جاسم

في المثقف اليوم