آراء

عبد السلام فاروق: مصر والسودان.. قوة كبري مؤجلة!

اعتاد الإعلام بكل صوره أن يتحدث عن العلاقات المصرية السودانية بشئ من الرومانسية الحالمة التى تعطى أبعاداً وردية وطموحات عظيمة نتمناها على أرض الواقع.. غير أن تلك الصورة غير مكتملة وتكمن خلفها معوقات تحول دون تحقيق هذه الصورة بشكلها المكتمل المأمول.

لا أحب الخوض فى تفاصيل تلك المشكلات لأننى أفضل التركيز على نقاط التلاقى وزوايا التفاوض وتحقيق الفرص المتاحة للطرفين من أجل الوصول لحالة لطالما عبرنا عنها بمصطلح "التكامل" بين البلدين، وهى نغمة نحب أن نعزف عليها دون أن يكون لها صدى حقيقي على الأرض بسبب المعوقات التى يعلمها الطرفان ويدركانها جيداً .. والمفترض قبل تحقيق مثل هذا التكامل المرجو أن يتم تصفير أية خلافات أو حساسيات من شأنها أن تعرقل خطوات التكامل الاقتصادى والسياسي على مختلف المستويات. 

التكامل.. تمهيد دون تنفيذ!

لا يختلف أحد سواء من الجانب السودانى أو المصري أن العلاقات بين البلدين تاريخية وعميقة ولها جذور أشد رسوخاً من الجبال. لكن على الرغم من متانة تلك العلاقات ما زلنا لم نصل لحالة التكامل المطلوبة حتى بعد أن مهدنا الأرض تماماً لها .. وهذا غريب..

منذ العام 2004 تم الاتفاق بين البلدين الشقيقين على مبدأ الحريات الأربعة : حرية التنقل والإقامة والامتلاك والتجارة. هذا المبدأ رغم أنه أثمر تدفقاً للأخوة السودانيين إلى مصر. هؤلاء الذين وجدوا فيها وطناً ثانياً لهم واستقروا بها حتى وصل عددهم اليوم إلى أكثر من 8 ملايين سودانى مقيمين إقامة دائمة فى مصر يعملون ويتاجرون ويمتلكون ويستثمرون .. بينما الهجرة العكسية من مصر إلى السودان والاستثمار التبادلى أقل كثيراً من المتوقع لأسباب كثيرة..

مصر والسودان كلتاهما عضو فى الاتفاقيات التجارية الإفريقية الكبري كاتفاقية التجارة الحرة العربية والإفريقية وتجمع الكوميسا. وخلال الفترة الأخيرة نشطت الزيارات الدبلوماسية على كل المستويات بين البلدين. فلماذا لم يتم بعد الإسراع بوتيرة المسير نحو تحقيق التكامل الاقتصادى بين البلدين حتى اليوم؟ لا يزال جدار الرواسب التاريخية يحول دون التنفيذ .. ولهذا تظل الاتفاقيات وتظل النوايا الحسنة حبيسة الأدراج تنتظر التفعيل .. وهو ما يطلبه الجانبان ويسعون إليه معاً..ولو تساءلت مستهجنا ومتعجباً من السبب الحقيقي وراء هذا اللغز سوف أجيبك: فتش عن أعداء البلدين..

الحريات الأربعة حققت مليار دولار

منذ نحو عشرين عاماً ومنذ تم الاتفاق على مبدأ الحريات الأربعة وجدت الاتفاقية نفسها أمام عراقيل بيروقراطية ودبلوماسية مما أفقدها كثيراً من فاعليتها .. وفي يونيو 2014م بعد تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي رئاسة الجمهورية ناقش البلدان سبل تفعيل اتفاق الحريات الأربع بين البلدين وتم رفع تمثيل اللجنة المشتركة بين البلدين إلي المستوي الرئاسي لتجتمع مرة في القاهرة ومرة في الخرطوم ، وفي عام 2015م تم افتتاح أحدث المشروعات المشتركة التي تم تدشينها بين البلدين ألا وهو مشروع ميناء قسطل – أشكيت البري، ويعد الميناء بمثابة أهم بوابة مصرية تطل على إفريقيا حيث أسهم في إحداث نقلة كبيرة في حركة التجارة والاستثمار بين مصر من جانب والسودان والقارة الأفريقية من جانب آخر وذلك من خلال تنمية حركة الصادرات والواردات للبضائع والثروة الحيوانية وتنشيط حركة المسافرين .

هكذا أخيراً تم إنشاء ممر أو منفذ بري تجارى دائم تدفقت من خلاله دماء الحياة التجارية بين الشقيقتين واتسع الممر ليتحول إلى شريان يغذى البلدين وتضاعف حجم التجارة ليزيد اليوم بشقيه الرسمى والشعبي إلى ما يناهز مليار ونصف مليار دولار.. ناهيك عن الاستثمارات والأصول والشركات المصرية التى تم إنشاؤها فى قلب السودان بما يزيد عن ثلاثة مليارات دولار!

لك أن تتخيل أن مثل هذه الإنجازات الهائلة تحققت من مجرد تفعيل جزئى لمبدأ الحريات الأربعة الذى تم إهماله وإغفاله نحو عشر سنوات قبل أن يعاد تفعيله! فماذا لو تم توسيع نطاق الاتفاقيات إلى آفاق أكبر وأعمق بعد تصفية الأجواء ومنع فرص التصادم والاختلاف أو تحجيمها؟ لاشك أن الفوائد ستكون أكبر كثيراً مما نتخيل..لاسيما وأننا الآن بصدد قضية تمثل لمصر والسودان هدفاً وجودياً وهى قضية سد النهضة..

أين السودان من قضية السد؟

الخلافات التاريخية النائمة بين مصر والسودان استطاعت بعض القوى المعادية التى لا تخفى على أحد أن توقظها ثم تهيجها لتوسيع دوائر الخلاف بين أشقاء الجوار. وقد ازداد هذا الخلاف بعد أن أفصح الجانب السودانى عن موقف مخالف للموقف المصري تجاه السد..

لقد تم تضليل الجانب السودانى من البداية بإقناعه أن سد النهضة مفيد للسودان ويحقق له مصالح عدة. ولأن الدراسات الفنية المتعمقة كانت غائبة عن ذهن صانع القرار فى السودان فإن اتجاهه الأولى كان يصب فى صالح تشجيع بناء السد بلا أية تحفظات. مثل هذا الموقف المنافى لموقفنا أضعف نتائج المفاوضات مع الجانب الإثيوبى .. وحتى بعد تفاهمات واشنطن التى قربت وجهة النظر المصرية من صناع القرار فى السودان، ظل الموقف السودانى مذبذباً لا يتسم بالاستقرار. وكان واضحاً أن ثمة أطراف خارجية مؤثرة تريد فصل مصر عن السودان سياسياً وبالتالى اقتصادياً ، وهو ما يعنى انهيار كافة المجهودات التى تمت وما زالت تتم لمحاولة إحداث علاقة تكامل بين البلدين.

الانطلاق من نقطة المنتهى

ما زالت الفرصة متاحة للطرفين أن يصلا معاً إلى ما يصبوان إليه من تحقيق مصلحة مشتركة تؤدى بهما لمستوى يجعل منهما معاً قوة كبري. بدلاً من تلك التفرقة المصطنعة التى تضعفهما معاً بفعل فاعل..

القضايا المثارة كنقاط خلاف كلها قابلة للنقاش والحل. ولابد ألا يتم تجاهلها وتسويف حلها ؛ لأن فى هذا ضرر للبلدين وتأخير لقطف ثمار اتفاقيات ومجهودات تمت على مدار سنوات سابقة. خاصة و أن الجانبين يدركان حجم التحديات التى تمر بها المنطقة بأسرها والتحولات العالمية والإقليمية والتى تفرض تقارباً حتمياً لمواجهتها بشكل حاسم وقوى بدلاً من المماطلة فى حل القضايا وإغفال ما يحاك لنا من مكائد يرسمها أعداؤنا لتوسيع مدى الخلافات وتعميقها ضد مصلحة البلدين.

نستطيع أن نبدأ مما انتهينا إليه ونبنى عليه.. نحن حققنا طفرة فى التعاملات الاقتصادية والتجارية بين البلدين خلال السنوات الأخيرة. وعلينا توسعة مجال تلك المعاملات. لقد أعدنا تفعيل مبدأ الحريات الأربعة بشكل جزئى فلماذا لا نفعله بشكل كامل حتى يشمل النفع جميع فئات المجتمعين والشعبين؟ هناك فرص ما زالت متاحة وواسعة لتقوية أواصر العلاقات بين البلدين، لكننا فى حاجة ماسة لتسريع وتيرة عمليات مكافحة الضغائن وإزالة الألغام النفسية التى تركتها قوى خارجية لا تريد الخير للبلدين.

نحن نريد..هم يريدون

مصر لديها خبرات عظيمة وأيدى عاملة ماهرة متعطشة للعمل .. والسودان لديها ملايين الهكتارات من المراعى والغابات البكر بالإضافة لثروة حيوانية هائلة.. مصر تستطيع تفعيل وتوسيع مجالات التعاون والمشاركة الاقتصادية فى مجالات استثمارية عديدة مع السودان بمبادرة منها وتحت مبدأ "الربح للجميع" وأن يتم تحقيق مصلحة الجانبين. وتحت مبدأ أهم وأسبق هو تجاوز الخلافات والترفع عن جعلها عائقاً دون الوصول إلى ما نطمح إليه من أهداف مشتركة..

لم تعد العلاقات المصرية السودانية ترفاً إعلامياً نتناوله فى صحافتنا أياماً ثم ننساه ، بل صارت علاقة مصيرية استراتيجية لكلا البلدين، وعلينا تكثيف مجهوداتنا لتقوية تلك العلاقات إلى أبعد حد ممكن.

***

عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم