آراء

ثامر حميد: الإقليم السني قضية انقضى أجلها

يعتقد البعض أن من الأخطاء التي ارتكبها الطرف الشيعي عند كتابة الدستور هو الموافقة على نص يتيح لأي محافظة عراقية منفردة أو بمعية محافظات اخرى تشكيل ما سمي بالإقليم إذا ما طلب ذلك ثلث أعضاء مجلس المحافظة أو المحافظات التي تروم تشكيل إقليم أو طلب عشر الناخبين في تلك المحافظات (المادة 19). وأعتقد أن المشكلة تكمن ليس بالفكرة لوحدها بل في النسبة الضئيلة المطلوبة للشروع بتكوين الإقليم كونها لا تعبر عن إرادة الغالبية.. وأعتقد أن غالبية من كان له علاقة بالأمر، مشاركا في كتابة الدستور أو قريبا من كواليس العملية، سوف يقر أن هذه الفقرة كانت من وحي أو إملاء سلطة الإئتلاف الأمريكية بزعامة بريمر (ثبت المبدأ في قانون الفترة الانتقالية التي أقرتها سلطة بريمر) وأن إصرار الطرف الكردي (على إدراجها بالدستور) والذي كان ينظر إليه كحليف جعل منها أمرا واقعا اعتبره الطرف الشيعي، وكذلك السني لاعتبارات خاصة به، على أنه إقرار بأمر واقع لن ينشأ عنه ضرر خطير: أي حقيقة وجود سلطة كردية تتمتع بما يشبه الاستقلال عن سلطة المركز منذ أن فرض الأمريكيون والبريطانيون إثر حرب تحرير الكويت في 1991 ما سمى وقتها ب "السماء الآمنة" والتي حظر بموجبها على الطيران الحربي العراقي التحليق خارج خط العرض 36° وعلى الجيش العراقي التحرك إلى ما وراءه، أي ما اعتبروه حدود منطقة كردستان.

ويمن أن نضيف أنه من الناحية الواقعية، سواء من منظار تلك الفترة أو حتى منظار اليوم، ربما بدا تشكل إقليم كردي حلا دائما لمشكلة أو إنهاء لصراع طالما ما أقلق العراق ومنع استقراره وأنه وفق معيار العدالة كان حلا عادلا اي أنه يراعي مصالح جميع الأطراف وهو بذلك يقطع الطريق أمام مدخل لتقسيم العراق ابتداء من منطقة كردستان كهدف سعت إليه الإدارة الأمريكية منذ البداية. يضاف لذلك أن السطلة الجديدة الهشة التي حلت محل القديمة المنهارة والتي سوف يلعب فيها الطرف الشيعي دورا اساسيا كانت بحاجة إلى حالة من الاستقرار، ولو كان نسبيا، يتيح لها فرصة بناء نفسها وأن أي خلاف جدي مع الكرد حول هذه المسألة سوف يعيق إمكانية تحقيق هدف الاستقرار الذي تنشده السلطة الجديدة كهدف يحتل الأولوية على سواه. لذلك يمكن القول أن الواقعية السياسية استلزمت الإقرار بتلك الفقرة وأن التفكير المطول في نتائجها البعيدة الأثر ربما كان نوعا من الترف الذي لا يسمح به الظرف لأنه كان يعني التوقف والجمود في موقف يتسم بالحساسية الشديدة والحراك السريع حيث كان الطرف الشيعي قد نجح للتو في إقناع أطراف سنية كانت ممتنعة ومقاطعة للعملية السياسية بالمشاركة في كتابة الدستور وكانت عملية تشكل النظام الجديد تتعرض لمخاطر تحيط بها من كل صوب...

كيف تطورت العلاقة بين سلطة إقليم كردستان والحكومة المركزية منذ ذلك التاريخ؟ تبين تجربة السنوات العشرين المنصرمة أن العلاقة بينهما لم تستقر كما كان يأمل الطرف الشيعي على الأقل بل كانت معقدة وصلت إلى حد الابتزاز والذي بلغ أوجه في قضية الاستفتاء الذي أجرته القيادة الكردية (أو بشكل أدق الطرف الأقوى فيها) حول استقلال الإقليم ثم مشكلة تصدير النفط التي بقيت عالقة لحد الأمس الذي شهد توقيع اتفاق جديد بين الحكومة المركزية وسلطة الإقليم و الذي نأمل أن يترافق هذه المرة بالنية الحسنة من الطرف الذي سبق له أن خرق اتفاقات مشابهة توصل إليها مع الحكومات السابقة...هذا إلى جانب قضايا أخرى لا زالت عالقة منها قضية كركوك وأخرى تتعلق بحدود سلطة الإقليم الإدارية وعلى مجالات معينة مثل المطارات والمنافذ الحدودية و التي يمكن اعتبارها قابلة للحل عندما يتعلق الأمر بمواردها وصعبة عندما يتعلق الأمر بحركة الأشخاص الذين يدخلون من خلال تلك المطارات والمعابر والتي قد تكون مفتوحة أمام من تعتبرهم الحكومة يشكلون تهديدا أمنيا، أضف لذلك طبيعة البضائع التي تدخل العراق عبر تلك المنافذ والتي يتسم جزء كبير منها بعدم مطابقتها لمعايير الجودة والسلامة..

وقد سبق لطرف شيعي غير منتم لحزب ممثلا بالقاضي وائل عبد اللطيف أن طرح فكرة تشكيل إقليم البصرة وسار بها غير أن البصريين رفضوا الفكرة رغم أن محافظتهم تتمتع بميزة بارزة كونها تحتضن الميناء الوحيد للعراق وتنتج الجزء الأكبرمن النفط العراقي المصدر والمستهلك. ولا أعتقد أن البصريين قد نظروا إلى الميزات التي يمكن أن تتمتع بها محافظتهم إذا ما أصبحوا إقليما وعلى رأسها الحصول على ميزاينة خاصة كما يحصل إقليم كردستان، بل أكثر بحكم ما تتمتع به المحافظة من ميزات مذكورة، بل أنهم أظهروا رفضهم وربما مقتهم للفكرة والتي يمقتها الغالبية الساحقة من عامة العراقيين. وقد استمر البصريون على موقفهم هذا حتى وهم يعانون من الإهمال وقلة التخصيصات المالية لمحافظتهم مقارنة باحتياجاتها الحقيقية كثاني أكبر وأهم محافظة عراقية بعد العاصمة بغداد بل تفوقها من حيث الأهمية الاقتصادية. و أرى أنه لا يمكن تفسير ذلك الموقف من أهل البصرة إلا لأن الشعور الوطني وأحساسهم بانتمائهم للكل العراقي هو الذي غلب على كل اعتبار ينبني على فكرة "البصرة أولا" وربما وأد إلى الأبد فكرة الإقليم. وكان رقي الاستقبال وكرم الضيافة الملفت الذي خص به أهل البصرة مواطني الخليج الذي جاءوا للعراق لحضور كاس الخليج (خليجي 25) التي نظمتها مدينتهم مثار إعجاب حتى العراقيين الذين كانوا يعرفون مدى كرم أهل البصرة فذكروهم بما قد يكونوا نسوا وقدموا مثلا آخر صارخا على اصالة عراقيتهم والأهم، والأخطر من ذلك، مدى التسامح الذذي أظهروه أزاء شعوب الخليج التي كانت أنظمتهم قد أوغلت في الدم العراقي تفجيرا. ويبين فيلم فيديو مؤثر جدا (شاهدته في أحد مواقع التواصل ويؤسفني أنه لم ينتشر على نطاق واسع و مر على خاطر البعض مرورا عابرا) كيف أن رجلا سعوديا استضافته عائلة بصرية متواضعة غلبه البكاء الشديد عند خروجه من منزل تلك العائلة بعد أن عرف أن تلك العائلة قد فقدت أحد أبنائها في تفجيرانتحاري وأن أخا لهذا الرجل السعودي، كما صرح هو، كان من بين الذين فجروا أنفسهم بالعراق...

وعلى ضوء ما تقدم يمكننا أن نطرح تساؤلا له ارتباط بما يجري بالحاضر ويتعلق بطبيعة الهدف من زيارة رئيس مجلس النواب السيد محمد الحلبوسي للملكة العربية السعودية والتقاءه بولي العهد الأميرمحمد بن سلمان. فقد ذكرت وسائل إعلام عراقية عديدة أن الحلبوسي زار السعودية في محاولة منه للحصول على دعم سعودي لفكرة إنشاء إقليم سني. لم تتأكد هذه الأنباء من مصادر مقربة من السيد الحلبوسي أو أية مصادر موثوقة رسمية أو شبه رسمية لذلك سوف نبني افتراضنا على أن ما ورد في وسائل الإعلام يحتمل درجة كبيرة من الصحة.

لماذا الآن وفي هذا الظرف حيث يشهد العراق منحى قويا نحو الاستقرار منذ تولى السيد محمد شياع السوداني رئاسة الوزراء حيث تنغمس حكومتة بجدية عالية في إيجاد حلول حقيقية، ولأول مرة، لمشكلة البطالة وسوء الخدمات وتخوض معركة حقيقية ضد جميع مظاهر الفساد المالي والإداري وتعمل على إشاعة الانضباط في مؤسسات الدولة وفي سلوك المواطنين وكانت للتو قد توصلت لحل مرض للطرفين لمشكلة تصدير النفط من إقليم كردستان؟

وكمحاولة للإجابة على هذا السؤال أقول إن المعارضة التي يواجهها السيد الحلبوسي في محافظته الأم الأنبار تبدو قوية ومنظمة وتشكل تهديدا حقيقيا لهيمنته المزعومة (على حد زعم قيادات الأنبار) على مفاصل المحافظة. لست ملما كثيرا بتعقيدات الموقف بل أتسائل هل أن خطوة الحلبوسي للحصول على مباركة سعودية لإقامة إقليم سني هي من وجهة نظره حلا لمشكلته امام معارضيه الأنباريين وازاء من يفكر بإزاحته من رئاسة مجلس النواب من بعض الزعامات السنية التي تتمنى سقوطه؟ يتفق جميع من سمعتهم من المراقبين السنة على أن السيد الحلبوسي يتسم بالدهاء فأتسائل مرة أخرى هل من الدهاء، من أجل التغلب على التحدي الذي يواجهه، أن يطرح الحلبوسي قضية الإقليم كرد حاسم على مناوئيه؟لا أعتقد أن السيد الحلبوسي يطرح قضية تشكيل إقليم سني اعتمادا على ضرورة ناشئة تسلتزم ذلك لأن الفكرة بالأصل لم تعد تستهو حتى أقوى متشددي السنة لأنه لم يعد لها سند شعبي وأن أهل الأنبار لا يقلون عن غيرهم من أبناء الشعب العراقي مقتا للفكرة. لذلك يمكن القول أن جزءا من المحاولة، عدا استهدافها مناوئيه من السنة، تستهدف وضع عراقيل أمام حكومة السوداني الذي لا يبدو أنه ميال إلى إسنادها لأنه يعرف أن وجوده على راس مجلس النواب كممثل قوي للسنة لا يروق للعديد من قادة الإطار الشيعي الأقوياء فهو في نظرهم من مخرجات التفاهم القديم بين السيد مقتدى الصدر والجبهة السنية التي يتزعمها الحلبوسي والحزب الديموقراطي الكردستاني والتي كانت بنظر القادة الشيعة المذكورين أقرب ما تكون بمؤامرة لإبعاد تلك الزعامات عن المشهد السياسي. وربما كان تمنع السيد الحلبوسي عن السير بجدية نحو إقرار الموازنة ما لم يحصل عل تنازلات في مواقع أخرى تأكيدا في نظر الزعماء الشيعة الذين ذكرت على أنه يضمر نيات لا يرتاحون لها.

من الجانب الآخر هناك سؤال يتعلق بالموقف السعودي. هل يمكن للقيادة السعودية أن تستجيب لطلب من الحلبوسي بدعم فكرة إقامة إقليم سني دون أن تفكر بتأثير موقفها في علاقتها بالعراق والتي أخذت منحى إيجابيا منذ تولي السوداني رئاسة الوزراء وعلى ما يمكن أن يترتب من نتائج ضارة على استقرار العراق وتأثير عدم الاستقرار عليها إذا ما أيدت مسعى الحلبوسي؟وكيف يمكن أن نوفق بين دعم سعودي أو حتى موافقة على فكرة الإقليم السني في وقت تتبع فيه السعودية سياسة جديدة قائمة على نزع فتيل التوترات في المنطقة بدأتها بفتح صفحة جديدة مع إيران وسوريا بما فيها من مضامين في غاية الإيجابية على كامل الوضع الإقليمي ويفتح بابا على الحل في اليمن والبحرين ولبنان وسوريا وكذلك العراق وفي كل مكان وجدت فيه تقاطعات سعودية إيرانية؟ إن موافقة أو دعما سعوديا لفكرة الإقليم السني في العراق لا يمكن أن تنسجم مع هذا التوجه السعودي الجديد. لا نستطيع القول، بناء على ما ذكرت من دهاء الحلبوسي،أنه لم يأخذ هذه التطورات أو السياسة السعودية الجديدة أزاء قضايا الإقليم بنظر الاعتبار. ولكننا في نفس الوقت لا نستطيع أن نقول أن السيد الحلبوسي قد حضى باستقبال عال المستوى في السعودية دون أن يكون ما يحمله يتسم بالأهمية له و للطرف السعودي. إذا هل نحن هنا أزاء محاولة ابتزاز، أو تلطبفا للتعبير، إننا بصدد تحذير يطلقه الحلبوسي باتجاه الزعماء الشيعة الذين لا يحبذونه من أنه يحظى بدعم اقوى قوة عربية إقليمية تعتبر مفتاح الأمن والاستقرار بالمنطقة والعراق بشكل خاص، وباتجاه مناوئيه الأنباريين وغيرهم من الزعماء السنة الذين يتطلعون إلى سقوطه من أن تحديهم له لا جدوى منه والأجدر بهم أن يتفاهموا معه وسيكون كريما معهم فهم في نهاية المطاف أهله وربعه وعفى الله عما سلف؟ إن كان الأمر كذلك، وهو ما أعتقد به، فسيكون استقبال العاهل السعودي له موافقة منه أو دعما له في أن يبقى رئيسا لمجلس النواب وأن يبقى زعيما سنيا لا يجارى أكثرمن كونه دعما أو تأييدا لفكرة الإقليم السني التي لا يتوقع أن تحظى بموافقة أهل الأنبار أولا ثم المحافظات الأخرى ذات الغالبية السنية مثل الموصل وصلاح الدين وديالى. فبالنسبة للموصل واهلها وخاصة زعماءها التقليديين لا أعتقد أنهم سوف يرضون أو هم راضين بالأصل عن "اختطاف" الزعامة السنية منهم فهم يعتبرون أنفسهم افضل تاريخا وحاضرا وحضارة ودورا في تاريخ العراق من أية محافظة ذات غالبية سنية وأنهم إذا قبلوا أن يقادوا من بغداد انسجاما مع تمسكهم بعراقيتهم فلا أظنهم سوف يقبلوا أن يقادوا من زعامات سنية من خارج محافظتهم لأنهم لو أرادوا ذلك لجعلوا من محافظتهم إقليما. وبالنسبة لصلاح الدين فهي أيضا تمتلك زعماء أقوياء وأن تكريت قد لعبت دورا مهما في تاريخ العراق الحديث فمنهم كان الكثير من قادة الجيش ومن الشخصيات المثقفة ومن الزعامات السياسية وبإمكانهم أن يشكلوا إقليما لو أرادوا ولا حاجة لهم بزعامات من خارجهم. أما ديالى فلا أعلم مدى التناسب فيها بين سكانها الشيعة والسنة ولا أظن أن سنتها تبحث عن زعامات خارجية وهي على العموم محافظة مطواعة تنآى بنفسها عن الصراع.

فهل تلقى الزعماء الشيعة الذين ذكرت وكذلك الزعماء السنة الذين يناوؤون زعامة الحلبوسي الرسالة كما يجب؟ لا نعلم ونعتقد أنه بالنسبة للطرف الشيعي فإن الكثير يعتمد على ما لو كان الحلبوسي سوف يتخد من تعطيل عمل الحكومة نهجا من خلال التلكؤ في إقرار القوانين التي تقدمها لمجلس النواب. كما وأرجح أن رسالة الحلبوسي التي أرسلها من وراء الحدود تنطوي على إشارة تفيد أنه مستعد لتسوية مع الزعامة الشيعية بشرط أن تضمن له مكانته التي احتلها كرئيس لمجلس النواب وكزعيم شاب للسنة لا يزال أمامه الكثير مما يطمح إلى تحقيقه، ومن يدري، فقد يأتي يوما يكون فيه رئيسا للجمهورية إذا ما نجح بانتزاعها من الأكراد.

أما بالنسبة لمناوئيه الأنباريين وغيرهم من الزعامات السنية فلا أعتقد أنهم يتمتعون بدعم من جهة إقليمية ما وأن رهانهم ينصب على الداخل العراقي، على جماهير السنة من خلال الانتخابات (مجالس المحافظات التي اقترب موعدها) وعلى زعامات سنية أخرى شابة (تراهن على الدعم الشيعي) تمثل تحديا حقيقيا لزعامة الحلبوسي. ولكني أرى في نهاية المطاف أن الغلبة لن تكون لطرف وأن توازن القوة سوف يبلغ مرحلة تفرض على الجميع صيغة ما للتسوية (تقاسم النفوذ والامتيازات بالنسبة لمناوئيه السنة) تحفظ لكل طرف مكانته...

إن الرجال الدهاة هم ليسوا من يبرع بالتكتيكات وحسب بل، وأهم من ذلك، أن يكونوا قادرين على نحت التسويات التاريخية (تتسم بالديمومة النسبية في الوضع العراقي المتحرك) ويجيدون اختيار اللحظة المناسبة لذلك.

***

ثامر حميد 

 

 

في المثقف اليوم