آراء

عامر أبابكر: النظام السياسي العراقي واللعب على الحبلين

بقلم عامر أبابكر

ترجمة: علاء اللامي

***

بعد أيام على مرور عشرين عاما على الغزو الأمريكي للعراق، في الوقت الذي يستعرض فيه العراقيون نتائج هذا الحدث، الذي أدى إلى تدمير أسس الدولة وبنيتها التحتية، وأعاد بدوره إلى الحالة الطائفية والقومية. فالانقسام القومي الذي فرضته المصائب التي مرت على بلاد ما بين النهرين كأمة حية، ضعفت في وقت وازدادت قوة في وقت آخر كباقي الدول. وإذا كان الغزو الأمريكي للعراق قد نجح في قلب النظام السياسي السابق وتغييره وفشل في إسقاط العراق، فإنَّ الطائفية السياسية التي نجحت في إحداث كل هذه التحولات سعت إلى إسقاط العراق كدولة كاملة ومحو خصوصيتها التاريخية التي عرفها التاريخ وشهد لها بها كنموذج لبلد يسوده الوئام بين القوميات والأديان.

نجحت الولايات المتحدة منذ البداية في صياغة مشروع طائفي عززت من خلاله مفهوم الانقسام الطائفي والمحاصصة، حيث أصبح الوجود الأمريكي حليفاً رئيسياً تسابقت من أجله الأحزاب الطائفية الشيعية والسنية، ومن أجله تسابق الأمراء الطائفيون وقاتلت النخبة الجديدة في العراق، في الوقت الذي عملت فيه الإدارات الأمريكية المتعاقبة ما في وسعها لكسبها لصالحها.

وهكذا أصبح قادة العراق الجدد حلفاء مقربين لـ "المحرر" من الخارج. وفي الوقت الذي احتدم فيه الصراع الداخلي للفوز بمقعد السلطة في العراق، سارعت المؤسسات العسكرية والسياسية الفاعلة في الإدارة الأمريكية إلى وضع اللمسات الأخيرة لاستكمال وتنفيذ فصول سيناريو احتلال العراق. وقد لا أبالغ عندما أقول إن هذا التشرذم الذي ما زال يشهده الساحة السياسية العراقية، وتقلبات سياسييها وتمسكهم بالسلطة، التي زادت حدتها وتشنجاتها منذ انطلاق عملية الانتخابات النيابية، ساهم في إدامة الفتنة والانقسام في المكون العراقي الاجتماعي والسياسي كما هي الحال في تصارع التيار الصدري والإطار التنسيقي. وأزمة محمد الحلبوسي مع مشايخ البادية الغربية.

وهكذا، وبعد عقدين من سقوط النظام العراقي السابق، ونتيجة لهذا الأسلوب الخاطئ والمتعمد في إعادة بناء الدولة، فإن الاختلاف في الرؤى فيما يتعلق بعلاقة العراقيين ببيئتهم الإقليمية لا يزال يهدد استقرار ما تبقى من العراق، حيث فشلت الأحزاب الدينية في تطوير نظام حكم شامل للجميع. وقد تعززت الانقسامات الطائفية الداخلية نتيجة الإصرار المتعمد على تكوين نخبة طائفية تسيطر على القاعدة الطائفية الشعبية، بدلاً من التركيز على أهمية وحدة القاعدة الجماهيرية الواسعة العابرة للطوائف. أصبحت مؤسسات الدولة بؤر صراع بين أطراف تتنافس على السلطة والثروة. ومع تزايد الاهتمام الأمريكي والدولي بهذه القوات، ازدادت محاولات الأحزاب السياسية العراقية لإرضاء اليد الأمريكية المؤثرة لتتويجها كقادة لحكم العراق. وهكذا نجحت الولايات المتحدة في لعبتها من خلال تقاربها مع المشروع الطائفي الإيراني، الأمر الذي ساهم في تصعيد الأزمة السياسية العراقية بالسماح للدين السياسي الطائفي بالسيطرة على الساحة السياسية، وبالتالي الاستيلاء على السلطة بقوة المال والسلاح، لدرجة أن معظم المؤسسات والفرق العسكرية أصبحت حكراً على الزعماء الطائفيين والعرقيين، في بلد تكون فيه العناصر الأمنية والطائفية هي مفتاح السيطرة والتأثير والتلاعب بملفات الفساد.

وعلى الرغم من وجود الدستور الذي ينظم عمل العديد من مؤسسات الدولة، إلا أن صقور الأحزاب الحاكمة لم يترددوا في السيطرة على البنك المركزي، وهو أحد الهيئات المستقلة المرتبطة بمجلس النواب، والذي حصنه القانون منه. أي تدخل حكومي مركزي، ضبط مصير مليارات الدولارات وإنفاقها دون حساب لتمويل أنشطة خاصة، وتحويلها إلى إيران وبعض دول المنطقة، في ظل تداعيات الصراع الأمريكي الإيراني على الساحة العراقية والمنطقة، وتحت غطاء الإجماع الأمريكي الإيراني على قبول نظام سياسي عراقي جديد يحظى مسؤولوه وأحزابه برعاية ودعم غربيين، يعتمد في استمراره والدفاع عن أسسه وفكره الطائفي على مليشيات الدولة المسلحة المدعومة من خلف الحدود، على الرغم من معرفة النخبة الحاكمة بأهمية الدور الأمريكي في الحفاظ على شرعية النظام دوليًا من جهة، ودور الجماعات المسلحة في دعم النظام في الداخل.

وهذا يفسر دقة هذه العلاقة التي يمكن وصفها بأنها علاقة مصالح وشكل من أشكال التشبث بالسلطة واللعب على الحبال.

إن استمرار المراوغة واللعب على الحبال الطائفية الإيرانية والأمريكية، أو ما يسميه مسؤولو النظام في بغداد بـ "الحياد"، سيصطدم عاجلاً أم آجلاً بواقع الأمر، في حال اقتضت المصالح الأمريكية تغيير بوصلتها تتماشى مع الواقع المقبل لجيران العراق. وبعد انتهاء حاجة النظام الطائفي لملء الفراغ الذي خلفه إسقاط الدولة العراقية، وهو الخيار الذي كان مهما لإدامة الوجود الأمريكي واستمراره من خلال كونه الوصي المخلص للنظام العراقي الذي خلقه بنفسه ... وهنا تكمن قدرة وأهمية العامل الأمريكي كطرف منظم وفعال وأساسي في قلب المشهد السياسي العراقي، مما يسهل عليه ممارسة الضغط السياسي على الأحزاب الحاكمة، ومن ثم رسم خارطة طريق وتحديد مسارها وفق السياقات والشروط المحلية والإقليمية التي قد تجدها السفيرة الأمريكية في بغداد مناسبة لإرضاء البعض، أو لتنبيه الآخرين، خاصة وأن إدارة بايدن، كما كان الحال في الإدارات الأمريكية السابقة، لا تزال تحتفظ بأوراق الضغط على النظام السياسي العراقي، من خلال عدم السماح للنظام السياسي العراقي بتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة له. وهذا ما قد يدفع الجانب الأمريكي إلى إعادة رؤية الأمور، ورسم مستمر لشكل المشهد السياسي العراقي، من خلال ترتيب خارطة طريق سياسية عراقية جديدة تخدم استراتيجية الإدارة الأمريكية وأجندتها التي جاءت من أجلها في العراق والمنطقة. وهذا ما يراه العراقيون بجلاء في نشاطات السفيرة الأمريكية ومندوبة الأمم المتحدة وسعيهما المشترك لاحتواء القوى السياسية والمسلحة النشطة على الساحة العراقية تماشياً مع التطورات الداخلية والإقليمية المقبلة.

***

...........................

* الكاتب عامر أبابكر: حاصل على درجة الدكتوراه. شهادة من جامعة قبرص الدولية. تخصصه في السياسة في الشرق الأوسط. تشمل مجالات اهتماماته العلاقات الدولية والأمن الدولي والسياسة الخارجية والصراع العرقي.

* ترجمت المقالة عن صحيفة ومنبر ( moderndiplomacy ) الأوروبي

في المثقف اليوم