آراء

محمود محمد علي: جامعات السراب وكليات الوهم

أستوقفني بوست طويل كتبه صديقي الدكتور أحمد سالم ونشره على الفيس بوك بعنوان "جامعات السراب وكليات الوهم"، حيث قال: "ذهبت إلى الجامعة في الصباح لإجراء الامتحانات الشفوية للطلاب.. وقد حددت لهم إجراء الامتحان الشفوي في جزء من المقرر وليس كل المقرر بما لا يتجاوز 80 صفحة.. دخلت في الصباح لإجراء الامتحان مع زملائي.. وللأسف قابلت اليوم كل طلاب الدفعة والذى يصل إلى حوالى 300 طالب.. لم يكن يحضر منهم المحاضرات سوي خمسين طالب.. رأيت كل الوجوه التي لم تكن تحضر أي محاضرات على الإطلاق.. لم يذاكر مقرر الشفوي كاملا سوى طالبين فقط.. أما الباقي فكل واحد ذاكر موضوع واحد فقط ولم يذاكره جيدا.. يريد الطالب أن اساله فيما ذاكر هو وهو جزء لا يعادل سبع المقرر تقريبا.. اليوم راجع حزين ونفسى مكسورة لأنى بذلت جهدا كبيرا معهم.. لأن جهدي مجرد سراب.. وتعبي وسعي فى تعليمهم لا يثمن ولا يغنى من جوع.. دع عنك التعرض لحرق الدم من الطلاب.. طالب بسأله لم يجب.. فسألته مذاكر إيه.. قال لي لم أذاكر أنا فقط عرفت إن فيه امتحانات شفوي فجئت.. ونماذج أخرى تحزن وتحرق الدم.. دع عنك دخولهم بحالة من اللامبالاة.. وعدم الإكتراث.. وحين أنهيت الامتحانات لم أستطع الجلوس فى الكلية.. وأخذت نفسى وعدت للمنزل.. وأنا راجع نفسى حزينة وبقول لنفسي ملعونة أم التمثيلية الفاشلة دى.. قال أنا استاذ جامعة.. وبعمل فى جامعة.. كلام فارغ أصبح ليس له أي معنى.. حاجتى فقط هي ما تدفعني للذهاب لمكان فارغ من أى مضمون.. وتمثيلية فاشلة ليس لها أي جدوي.. وتضحك حين تسمع الكلام عن جودة في التعليم.. وتسمع المسئولين لا يجيدوا سوى عرض أخبارهم علي صفحات المؤسسات.. وكل يوم يقالوا كل حاجة بخير.. المؤسسات إلى الأمام.وبعضهم يبالغ ويكلمك عن العالمية.. ودوره اللي محصلش في الارتقاء بالعملية التعليمية. حقيقي هذه التمثيلية الفاشلة ليس لها أى جدوى أو عائد على المجتمع.

وعقب قراءتي للمقال قمت بالرد فورا: صدقت والله يا صديقي.. التدهور وصل لمستوى غير مسبوق وغير متصور.. فلم يعد الطالب طالبا ولا الأستاذ أستاذا !!.. ماذا تتوقع من طالب لم يكتب سطرا واحدا طوال حياته الجامعية وقبلها ؛ فهو منذ ما يزيد عن أربع سنوات لا يعرف سوى التظليل على ورقة الإجابة عند اختياره من متعدد!! وأسئلة الامتحانات التي يطلقون عليها الامتحانات الموضوعية تافهة متكررة ولا تقيس أي مخرجات تعليمية مستهدفة.. أسئلة من قبيل: الجائع يأكل أم يشرب أم يجري أم ينام!!

أسئلة الامتحانات متكررة محفوظة لا تقيس أي شيء سوى ضمان النجاح للجميع!! منذ كورونا وقبلها والتحول نحو التقويم بنظام الاختيار من متعدد أصبح يتخرج في الجامعة أميون لا يجيدون القراءة والكتابة ويصاب الجميع بالرعب إن هددتهم بالعودة إلى نظام الامتحانات التي تتطلب الكتابة.. ومعظم الأساتذة يفضلون بقاء هذا النظام في التقويم؛ فهم لا يريدون العودة إلى وضع امتحانات تحتوي على مقالات وتعدد في أسئلة تقيس القدرات بما يتطلب من الاستاذ بذل الجهد في وضع الامتحان وقراءة أوراق الإجابة ووضع درجات لكل طالب.

لماذا يتعب عضو هيئة التدريس ونظام التقويم السائد مريح جدا ويضمن له نفس المكسب المادي؟!!.. أصبح المعيد وهو الأول على دفعته لا يجيد القراءة والكتابة ولا يدرك أنه ضعيف المستوى؛ وهذه هي الكارثة على التعليم التي ستأخذنا جميعا إلى حافة الهاوية إن لم نكن قد وقعنا في الهاوية ولا ندرك ذلك!!

كانت الدفعة الواحدة، أيام زمان، بها شعراء وكتاب قصة وموهوبون في مجالات عديدة فضلا عن حب الجميع للقراءة الحرة والتوجه نحو الثقافة العامة.. أصبح الآن مظهر الطالب الجامعي لا يوحي لا بعلم ولا ثقافة ولغته المتداولة ركيكة مبتذلة سطحية تخدش الحياء.. إلى أين تأخذنا ما يطلقون عليها منظومة التعليم؟!!

والأخطر من كل هذا كما قال علي حسن عمار أن هناك جيلًا ممن يحملون لقب «أستاذ» ويشرفون على الأطروحات الجامعية، هم أنفسهم أبناء هذا المسار المعوج، ومن ثَمَّ فإنه لا طائل من انتظار أن يخرج من تحت أيدى هؤلاء باحثون، يرتقون بوظائف البحث العلمي. إن الحالة المزرية التي عليها أغلب الأطروحات العلمية في مجال الإنسانيات، والتي تغص بها أرفف المكتبات الجامعية، لن تتبدل وينقضي سوؤها إلا إذا أُعيد النظر في العملية التعليمية برمتها، فانتقلت من حرص مريض على تخريج حفظة متعالمين بأي شكل وأي صيغة، إلى إصرار قوى وعفِىّ على صناعة جيل جديد من العلماء الحقيقيين، الذين تبدأ بهم رحلة مضادة للقضاء على الأمية المنهجية في كلياتنا الجامعية ومدارسنا، ودون ذلك سيستمر ما نحن فيه من خسران مبين... الله المستعان.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل- جامعة أسيوط

في المثقف اليوم