آراء

عبد الباقي قربوعه: عن بيان الاتحاد الأوروبي حول خصوصية الجزائر

لا بأس أن نتصرف في المثل المصري القائل: (امشي عٍدل يحتار عدوك فيك)، فنقول بدلا من ذلك: (أعْدل وأنتج وكن واعيا يفتري عليك عدُّوك). بناء على ذلك فإن الغرب غبي حين يمنحك فرصة قياس عظيمة لتستدل من عدم رضاه عنك ثم تتأكد بأن موقفك سليم، لأنه لا يبتغي مسارك السياسي والاقتصادي والاجتماعي إلّا عِوجا، هكذا يشتهيك حتى يبدو هو قويّا في الجهة الأخرى، بالضبط كما يشتهي الغني الجائر أن يصبح كل الناس من حوله فقراء، أو كما يحب السياسي الأناني أن يكون السياسيون من حوله جهلاء لا يتقنون الجدل والمغالبة والحوار ليملأ الساحة وحده.

من الصعب جدّا أن ترضى عنك دولة احتلتك سابقا بناء على حكم مسبّق على أنك دون قيمة البشر الأحق بالحضارة، ومن الصعب أيضا أن ترضى عنك دولة في اعتبارها أنها دولة عُظمى وأنك دولة نامية، خصوصا إذا نصّبها مجلس أمن مزدوج المعايير، وأحيانا بعدد مهول من المعايير لا تطيقه دول متحررة حديثا تريد النهوض حتى لا تكون طعمه سائغة في فم مستعمر آخر، فيعطي شعبُها للتاريخ فرصة التكرار القبيح، أو يظل أبلها إلى يوم القيامة غير مبال بنفسه وهو يُلدغ من الجحر آلاف المرات.

كانت أوروبا في وقت غير بعيد مسرورة جدّا بما يحدث في الجزائر، البيرة المُنتجة في الجزائر، الخمرة التي صنفتها كأحسن منتج على مستوى عالمي، تصديريه للمنتجات بطريقة جزافية دون مراقبة نحو الاستهلاك الجزائري، وغياب قرار الجزائر كسيادة حول انفتاح أراضيها أمام نفاياتها المختلفة، حرية الخطاب لأعوانها وعملائها، صمت الشعب الجزائري حيال الفساد بجميع أنواعه ومناحيه، الحدود المفتوحة لمرور أجنداتها وأغراضها الممنوعة وغير الممنوعة، صمت القرار الجزائري حول كثير من الحقوق المنتهكة في عهد الاحتلال، تجنّب إلْحاحها على المطالبة بأرشيف الثورة المجيدة، وصمتها على وجوب اعتذار فرنسا من الشعب الجزائري، غياب الجزائر كدولة ذات تأثير على كثير من قضايا الشعوب المقهورة المظلومة، خصوصا القضيتين المحوريتين القضية الفلسطينية والقضية الصحراوية، وجود الإرهاب بمختلف مشاربه، الصراعات السياسية، الجوع البطالة، تفشي الممنوعات، طواعية الشعب لتوظيفه سلبا داخليا وخارجيا، ورضوخ الشباب لتوريطه في صراعات لا تعنيه خارج بلاده، سكوتها على استثمار مختلف الصحوات الدينية والاقتصادية والثقافية والسياسة لإثراء سياساتها وأجنداتها.. هذه حقبة كانت من منظور الاتحاد الأوروبي ومن منظور الغرب عموما حقبة ذهبية، وكانت حقوق الإنسان بهذا الوضع في أوج ازدهارها.

السؤال/ كيف يريد عدوك أن تكون ليكون سيدا أبديا عليك؟

كما الشيطان يبدّل مداخل غواية للناس، كذلك يفعل الغرب لإعادة النظر في أساليب احتلال الآخر أمام صحوته وفطنته وثراء ثقافته، وعموما أمام وعيه المتقدّم بما يحدث في العالم، فالعزف على وتر حقوق الإنسان بات موضة جديدة لحماية عملائه والدفاع عن ثقافته التي يعتقد أنه نصّبها، والذود عمّا يعتبرها مكاسب حقّقا سابقا بفضل احتلاله الغاشم.

{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} سورة البقرة:"120".

هذه الآية تختصر المسألة إلى حد الاكتفاء بها لنعرف خلفية الغرب اتفاقا حول أنهم كفّار باعترافهم هم وليس بحكمنا عليهم، ونحن كمسلمين علينا أن ننطلق من المنظومة الأخلاقية التي سطرها لنا الإسلام، حتى نكون واعيين بما هو مطلوب منّا، ولا أظن أن آباءنا وأجدانا الشهداء والمجاهدين أكثر تأخرا عن هذا الفهم ونحن في هذا القرن ننعم بما أتانا الله من علوم وثقافة، ونؤكد على أن المسالة مسالة فهم حتى لا تغيب عن إدراكنا المقاربة الحساسة بين أكاديمية الشهادة وأبجدية الفهم الذي لا يعتد على أي تحصيل معرفي بدء من محمّد الأمّي - صلى الله عليه وسلم - ولو أراده الله متعلّما لجاب به أقطاب الأرض، ومكنه من التعلم على يد أمهر الحكماء والكهنة والسحرة، ولكن الله أراده هكذا لئلّا يكون لأحد آخر فضل عليه سوى الله، حتى لا يكثر المتقولون حوله والمشككون في مرجعية الوحي والأحاديث، لا يجب أن نهمل هذه الثقافة لأنها المطية الأساسية لنعرف كيف يريدنا الاتحاد الأوروبي أن نكون ليعود بنا التاريخ إلى زمن بعيد، إلى كيف كان أبو جهل يريد من محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يكون، وكيف كان يريد منه كل من هرقل وكسرى أن يكون، وبماذا كان يريد كل منهما أن يعلم أتباعه كيف يكونون تحت سيطرتهما وجبروتهما.. ولكم أن تأخذوا من التاريخ ما طاب لكم من الأمثلة حول الطغيان وأطماعه في الهيمنة والسيطرة. إنها حروب سيادة وعلى الشعوب أن تكون في مستوى هذا التناطح الحضاري.

اعتمدت الدين الإسلامي إجابة على هذه المسألة حتى تكون الغلبة للأصلح، صدّا عن القوانين الوضعية لأنهم صُناعها وروّادها، وكم يغتاظون كلما قاربنا الدين بالقانون ولفظنا ما يخدمهم ويوسع مطامعهم، ويقلل من نفوذهم وسيطرتهم وطغيانهم ويكبح تبعيتنا لهم، ويرفض ما يستدرجنا للتطبيع معهم ومع أعوانهم وعملائهم.

إذن الصورة واضحة الآن، والجزائر لا بأس عليها وهي ماضية لتحقيق ما يزعجهم ويرضي الشعب من تحرر كلّي، ليمتطى صهوة المنافسة السياسية والاقتصادية والدينية، وستتقدم الجزائر حثيثا لتكون مؤثرة على مستوى المنصات السياسية العالمية على غرار ما تفعله الآن، ولن تتخلّى عن الشعوب المقهورة والمظلومة والمُهين عليها دفاعا ودعما بشتى الأنواع، فإذا كان يُغضبهم أن تكون الجزائر قوية فلتكن كذلك.

***

عبد الباقي قربوعه

في المثقف اليوم